الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا۟ ۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا نهيٌ له ﷺ، والأمة تَبَع له في ذلك؛ عن أن يقوم فيه، أي: يصلي فيه أبداً".


النهي عن القيام يستلزم النهي عن الصلاة، فالصلاة يقال لها: قيام كقيام الليل، قام ليلة، قام يصلي وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه[1] فلا إشكال في هذا.

"ثم حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعاً لكلمة المؤمنين، ومَعقلاً وموئلاً للإسلام وأهله؛ ولهذا قال تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: صلاة في مسجد قُباء كعُمرة[2]".


الحافظ ابن كثير يرى أنه مسجد قباء باعتبار السياق، والسياق ظاهر أنه في مسجد قباء، والقول بأنه مسجد قباء قال به جماعة من السلف، ومروي عن ابن عباس والضحاك، والحسن، والشعبي، وابن جرير - رحمه الله - يقول: إنه مسجد النبي ﷺ، وهذا قال به طائفة، وبناءً على ذلك فسر قوله - تبارك وتعالى -: اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بمعنى أنهم يفرقون الناس عن مسجد النبي ﷺ، وعلى كلٍّ مستند ابن جرير - رحمه الله - ومن وافقه على هذا هو الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أنه اختلف رجل خدري مع آخر عوفي كما في حديث أبي سعيد الخدري  اختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال الخدري: هو مسجد النبي ﷺ، وقال العوفي: هو مسجد قباء، فاحتكموا إلى النبي ﷺ فقال: هو مسجدي هذا[3]، وهو حديث صحيح نص على أن المسجد مسجد النبي ﷺ، فإذا نظرت إليه بهذا الاعتبار تقول: إنه المسجد النبوي وإن كان السياق في مسجد قباء، فالتفسير النبوي إذا صح فإنه لا يعارض لا بسياق، ولا بقول أحد كائناً من كان، لكن القول بأنه مسجد قباء لا ينافي هذا، وقد صحت بعض الأحاديث بشواهدها، ومجموع طرقها؛ أن المراد به مسجد قباء، وصح ذلك عن النبي ﷺ كما في حديث أبي هريرة الذي رواه بعض أصحاب السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي ﷺ صرح بأن المراد به مسجد قباء، النبي ﷺ قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا[4]، وكذلك صح أيضاً عن عبد الله بن سلام نحو هذا، أن النبي ﷺ سألهم عن سبب ثناء الله عليهم؛ سأل أهل قباء، فمثل هذه المرويات لا تعارض ما صح عنه ﷺ بأنه مسجده ﷺ، فالشاهد ولسنا بحاجة إلى أن نرجح ونقول الرواية التي في صحيح مسلم مقدمة على هذه الروايات، وذلك من وجه الجمع أن النبي ﷺ ذكر ما هو أولى بهذه الصفة وأحق وهو مسجده ﷺ، وهذا لا إشكال فيه، فالنبي ﷺ قد يفسر الآية بالأحق في الاتصاف بها، وقد يفسرها بجزء معناها، وقد يفسرها بلازمه، وقد يفسرها بأن يحملها على معنى باعتبار اللفظ الأعم وإن كانت نازلة في غيره، وفي حديث أبي سعيد يكون النبي ﷺ حمل الآية على الأحق بهذه الصفة، فلا شك أن مسجد النبي ﷺ أولى بهذا الوصف أنه أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أولى من مسجد قباء، لكن هذا لا ينفي عن مسجد قباء هذه الصفة، فمسجد قباء أسس على تقوى من أول يوم، هذا وجه الجمع بين هذه المرويات، والأحاديث، وما دل عليه السياق - والله أعلم -، فمن قال بأن الآية في أهل قباء فإن قوله صحيح، ومن قال هو مسجد النبي ﷺ يكون فسرها بالأولى بهذا الوصف - والله أعلم -.

"وفي الصحيح: أن رسول الله ﷺ كان يزورُ مسجد قُباء راكبًا، وماشيًا[5]".


مثل هذا، والأحاديث الواردة في مسجد قباء لا تدل على ترجيح في هذا الموضوع، وإنما تدل على فضل مسجد قباء فقط.

"وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف؛ كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة القبلة، فالله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن عُوَيم بن ساعدة الأنصاري : أنه حَدّثه أن النبي ﷺ أتاهم في مسجد قُباء، فقال: إن الله - تعالى - قد أحسن عليكم الثناء في الطَّهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟، فقالوا: "والله يا رسول الله ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا"[6]، ورواه ابن خُزيمة في صحيحه".


يعني الروايات الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً، وكثير منها ضعيف، منها ما يتقوى، ومنها ما هو من قبيل الحسن، ومثل هذه الرواية هي مما يقوّي ما ذكرتُ، فالنبي ﷺ يسألهم ما هذا الشيء الذي أثنى الله عليكم به، وهو يقصد هذه الآيات فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فهذا كله يؤيد أن السياق، وأن الآيات في مسجد قباء، ومسجد رسول الله ﷺ أحق بهذه الصفة يعني لو كان المراد فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا غير الطهارة التي هي طهارة الإيمان فإن هذا يمكن أن يكون مختصاً أو شبه مختص بأهل قباء؛ لأن النبي ﷺ سألهم عن هذا، لمّا قالوا له - في بعض الروايات التي فيها ضعف - إنهم يغتسلون غسل الجنابة، ويتوضئون وكذا، سألهم عن شيء آخر، يعني هذا أمر يشتركون فيه مع غيرهم من المؤمنين، فلما ذكروا له هذه القضية لم يطلب غيرها أي أنها هي السبب، وهذا يرجح أن الطهارة هنا ليس المراد بها طهارة الإيمان، وصلاح العمل، والحال، والقلب، وإن كانت هذه طهارة فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا يعني بعضهم قال: طهارة الإيمان قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14] يعني زكى نفسه بالإيمان، هكذا حتى فسروا قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [سورة الشمس:9] زكى نفسه بطاعة الله، وبالإيمان بالله، وبرسوله ﷺ، فهذه وإن كان يقال لها: تزكية، ويقال لها: طهارة؛ إلا أن المقصود هنا - والله أعلم - طهارة أخرى وهي الطهارة المذكورة في هذا الحديث، وبعضهم حمل الطهارة على معنى آخر بعيد.

"وقوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات.
وقد روى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ صَلَّى بهم الصبح فقرأ بهم الروم فأَوْهمَ، فلما انصرف قال: إنه يَلبِس علينا القرآنَ أن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء[7].
فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها، وإكمالها، والقيام بمشروعاتها.


قوله: إنه يَلبِس علينا القرآنَ أن أقواما... يعني بسبب هؤلاء، فدل ذلك على أن صلاة الإمام تتأثر بحال المأموم، تتأثر إما بجهةٍ مِن ظاهره وهي أن المأموم يقرأ مع الإمام مثلاً كما ذكر النبي ﷺ: إنكم لتقرءون خلف إمامكم[8]، وإما بسبب خفي وهو ما يحصل من إخلال المأموم أحياناً حتى في الطهارة، فتتأثر صلاة الإمام، فهناك أشياء غير مدركة بالنسبة إلينا كثيرة جداً، يعني الله أعلم بها كيف تقع حتى في التثاؤب، فلو تثاءب شخص ثم التفت فإذا بآخر يتثاءب ولو لم يره في نفس الوقت!، إلى غير ذلك من الأمور لمن تأمل في أحوال الناس.

  1. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (893)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، برقم (757).
  2. رواه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم (324)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم (1411)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7319).
  3. رواه النسائي، كتاب المساجد، باب ذكر المسجد الذي أسس على التقوى، برقم (697)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3099)، وأحمد في المسند، برقم (11846)، وقال محققوه: حديث صحيح.
  4. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الاستنجاء بالماء، برقم (44)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3100)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6960).
  5. رواه البخاري، أبواب التطوع، باب مسجد قباء، برقم (1134)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته، برقم (1399).
  6. رواه أحمد في المسند، برقم (15485)، وقال محققوه: "حديث حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف، أبو أويس - وهو عبد الله بن عبد الله المدني - قد تكلم فيه الأئمة من جهة حفظه، وشرحبيل: هو ابن سعد أبو سعد الخطمي، ضعيف، وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 2/158: "وفي سماعه من عويم بن ساعدة نظر، لأن عويماً مات في حياة رسول الله ﷺ، ويقال: في خلافة عمر "، وحسن إسناده الألباني في صحيح أبي داود، (1/75) في كلامه على الحديث رقم (34).
  7. رواه أحمد في المسند، برقم (15874)، وقال محققوه: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لإرساله"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (222).
  8. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، برقم (823)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (854).