الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًۢا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلَّا ٱلْحُسْنَىٰ ۖ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [سورة التوبة:107-108]".


وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا هذه قراءة الجمهور بالواو، وفي القراءة الأخرى قراءة ابن عمر، وأهل المدينة الَّذِينَ اتَّخَذُوا بدون واو، وذلك يرجع إلى حرف قريش يعني ما كان بحرف قريش كتبه عثمان في مصحف هكذا، وفي مصحف هكذا؛ لأنه جمع الناس على حرف واحد، وهنا قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا فعلى القراءة  بـ"الواو" يمكن أن تكون الواو عاطفة على ما سبق، وهو بعدد أوصاف المنافقين منهم كذا، ومنهم كذا، ومنهم كذا، والذين تخلفوا عن غزوة تبوك منهم من اعتذر بأعذار كاذبة، ومنهم من كان صادقاً واعتذر بكذا، ثم ذكر والَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا، وعلى القراءة بغير الواو الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا تكون جملة مستقلة، مستأنفة، ويكون الاسم الموصول "الذين" مبتدأ، والخبر اختلفوا فيه، فبعضهم قال: لاَ تَقُمْ فِيهِ الخبر، وقيل غير ذلك، والاتخاذ بمعنى الإعداد، والارتقاب وما شابه ذلك من المعاني، وبعضهم يزيد عليه، يقول: كلمة الاتخاذ بمعنى الإعداد، ولكنه إعداد بعناية، يعني ليس مطلق الإعداد، وإنما إعداد بعناية، إعداد خالص تقول: "اتخذت فلاناً خليلاً"، و"اتخذت فلاناً صديقاً"، و"اتخذت الكتاب جليساً" وهكذا، الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا هذا يدل على أنهم اعتنوا بهذا المسجد، وصاروا يقضون أوقاتهم فيه، ويتخلفون عن رسول الله ﷺ، اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا ضرراً يعني مضارة، فهم أرادوا أن يفرقوا الناس عن مسجد قُباء؛ لأن هذا المسجد كان قريباً من قُباء، فأرادوا تفريق الناس عنه، وبعض أهل العلم - كابن جرير - يقول: أرادوا تفريق الناس عن مسجد رسول الله ﷺ، والمشهور أنهم أرادوا تفريقهم عن مسجد قباء، ولا يمتنع هذا وهذا، فهم يفرقون الناس الذين يأتون إلى مسجد النبي ﷺ يصلون معه، والذين يصلون في قباء لربما جذبوا طائفة منهم فـ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بهذا الاعتبار، يعني يصلون معهم، ويفرقون الجماعة وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ فالإرصاد بمعنى الإعداد، أو الارتقاب، وبعضهم يزيد عليه أن يكون ذلك بعداوة وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لكن هنا يفسر بالإعداد، وبالارتقاب، حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ يحتمل أن يكون يعنى به أهل النفاق الذين حاربوا اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ يعني من قبل بناء المسجد، وجاء في كثير من الروايات أن المقصود بهذا هو أبو عامر الراهب، هذا الرجل كان محسوباً على الأنصار، وكان قد تنصر قبل الإسلام، وتعبد حتى لقب بالراهب، فلما جاء النبي ﷺ والإسلام لم يقبل الإسلام، وذهب إلى المشركين في مكة يحرضهم بعد غزوة بدر لما انتصر المسلمون!! وجاء معهم في غزوة أحد، ووعدهم عند التقاء الصفين أنه سيخرج، ويعرفه قومه، ثم بعد ذلك يدعوهم إلى الالتحاق بجيش المشركين!! وعندئذ تحدث الهزيمة للمسلمين قبل القتال!! يلتحق الأنصار به وكذا، ويقال: إنه الذي حفر الحُفر بميدان المعركة بين الصفين قبل بدئها، فسقط النبي ﷺ في إحدى الحفر، وشج وجهه ﷺ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، فالشاهد أن أبا عامر الراهب ظهر لهم في يوم أحد، وقال لهم: أنا فلان وكذا؛ فسبوه، وأقذعوا في سبه وشتمه وكذا، فخاب ظنه، وقال للمشركين: لقد أصاب قومي بعدي شراً، يعني ما هم بالقوم الذين كنت أعرفهم يثقون بي، ويقدرون عبادتي، وتنسكي، فالشاهد أن الرجل بعد ذلك ذهب إلى الروم لما رأى أن المشركين ما حصلوا كبير طائل، ولا يمكن أن يستأصلوا المسلمين ذهب إلى الروم يطلب منهم المدد بجيش يأتي به إلى المدينة لاستئصال المسلمين!! وقال للمنافقين: اتخذوا لكم مكاناً تتوجه إليه الرسل؛ يعني والكتب ليرسلها لهم، مكان معين معقل يجتمعون فيه، بحيث يكون هناك تجمع؛ انحياز، إذا أرسل مندوباً، أو أرسل وفداً؛ يأتون إلى هذه المجموعة المنحازة، وفي ذلك الوقت ما يمْكن هذا إلا أن يظهر بصورة مسجد!! فوضعوا لهم مسجداً، وطلبوا من النبي ﷺ أن يصلي لهم فيه؛ من أجل أن يكون هذا المسجد مُقرًّا من قبل النبي ﷺ ولا شُبه فيه، وكان النبي ﷺ خارجاً إلى تبوك فآجلهم إلى أن يرجع، ثم أوحى الله إليه عند مقدمه إلى المدينة بحال هذا المسجد وأهله، فأُهدم، وأحرق.

"سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله ﷺ إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهبُ".


بعد ذلك صار يسمى أو يلقب بأبي عامر الفاسق.

"وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية، وقرأ علْم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قَدم رسولُ الله ﷺ مهاجرًا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر؛ شَرِق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألَّبهم على حرب رسول الله ﷺ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين.
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله ﷺ، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه، وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى السفلى، وشُجَّ رأسه - صلوات الله وسلامه عليه -.
وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم، واستمالهم إلى نصره، وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق، يا عدو الله، ونالوا منه، وسبُّوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شَر، وكان رسول الله ﷺ قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم، وتمرَّد، فدعا عليه رسول الله ﷺ أن يموت بعيدًا طريدًا، فنالته هذه الدعوة.
وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحد، ورأى أمرَ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - في ارتفاع وظهور؛ ذهب إلى هرقل ملك الروم، يستنصره على النبي ﷺ فوعده ومَنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق، والريب؛ يعدهم ويُمنّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله ﷺ ويغلبه، ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلاً يقدم عليهم فيه مَن يقدم من عنده لأداء كُتُبه، ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه، وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي ﷺ إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله ﷺ أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره، وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم، وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال: إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله -.
فلما قفل راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم؛ نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر، والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم - مسجد قُباء - الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله ﷺ إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية: "وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر: "ابنوا مسجدًا واستعدوا بما استطعتم من قوة، ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتِي بجنود من الروم، وأخرج محمدًا وأصحابه"، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي ﷺ فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله : لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إلى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".


في ذلك الزمان أفضل جيل، ورأوا النبي ﷺ، وعاشروه، وعرفوا أحواله، وصدقه، ومع ذلك ينتظرون الروم متى يأتون حتى ينشروا لهم الحرية!! - نسأل الله العافية -، فلا يستغرب من المنافقين في أي عصر من العصور إذا كان هذا في زمن النبي ﷺ، وهذه الجهود والمحاولات، فكيف بغيره من الأزمان؟! فما على المؤمن إلا أن يعمل بطاعة الله، ويجد، ويجتهد في نشر دينه، والله يوفق من يشاء إلى ما شاء، فيستعمل أقواماً في طاعته، ويخذل آخرين فيكونون من أولياء الشيطان، وحزبه - والله المستعان -، نسأل الله العافية.

"وقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ أي: الذين بنوه إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى أي: ما أردنا ببنيانه إلا خيرًا، ورفقًا بالناس قال الله - تعالى -: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: فيما قصدوا، وفيما نوَوا، وإنما بنوه ضِرارا لمسجد قباء، وكفرا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له: "الراهب" - لعنه الله -".