قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، والضحاك وغير واحد: "هم الثلاثة الذين خلفوا - أي: عن التوبة - وهم: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلاً، وميلاً إلى الدَّعَة، والحفظ، وطيب الثمار، والظلال، لا شكًّا ونفاقاً، فكانت منهم طائفة رَبَطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لُبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الآية [سورة التوبة:117]، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ الآية [سورة التوبة:118] كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك.
وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي: هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، وهو عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، حكيم في أفعاله، وأقواله، لا إله إلا هو، ولا رب سواه".
هنا في هذا التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذا المعنى من أحسن ما قيل فيها، يعني هناك قال الله : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فحُمل على أولئك الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، وقد جاءت بعض الروايات التي تصح من مجموع طرقها، وتدل على هذا المعنى، وهناك من أُخّر أكثر من ذلك كما هو معروف في حال الثلاثة وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وأولئك قال فيهم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [سورة التوبة:103]، والروايات الواردة في هذا كثيرة لكن من هذه الروايات مثلاً: عن ابن عباس عن طريق علي بن أبي طلحة وهذا إسناد حسن، قال: جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابه حين أطلقوا، هم أوثقوا أنفسهم فنزلت توبتهم فأُطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، قال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا فهذه غير الزكاة؛ وإنما هي صدقة، وَتُزَكِّيهِم بِهَا قال: يعني بالزكاة، يقول ابن جرير: يعني الزكاة طاعة الله، والإخلاص وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يعني استغفر لهم، فالشاهد أن هؤلاء هم الذين اعترفوا بذنبهم، ثم بعد ذلك جاء هؤلاء وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ قال: أي مرجئون لأمر الله، وقضائه؛ بمعني مؤخرون، ثم ذكر الأقوال في هؤلاء، ومما ذكر أن هؤلاء أناساً ندموا على ما فعلوا، ولم يعتذروا عند قدوم النبي ﷺ، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري؛ فأرجأ أمرَهم إلى أن صحت توبتهم، فتاب الله عليهم، ثم ذكر الأقوال في هذا.