هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم، وأموالهم؛ بهذه الصفات الجميلة، والخلال الجليلة".
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير ووافقه عليه ابن جرير معناه أن هذه الأوصاف المذكورة ترجع إلى ما سبق، إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ التائبين، العابدين، الحامدين، السائحين، هؤلاء هم الذين اشترى منهم أنفسهم، وأموالهم؛ بأن لهم الجنة، فهذا فردٌ لأوصافهم، وتفصيل لها، وقرأ ابن مسعود وهي قراءة ليست متواترة - بالجر "التائبين العابدين" إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين ... إلى آخره، بمعنى أن يكون هذا تفصيلاً لما سبق، الذين اشترى منهم أنفسهم، وأموالهم من هم؟ هم هؤلاء، وهنا الرفع في القراءة المتواترة يحتمل أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي: هم التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ، فيكون هذا يرجع إلى ما سبق إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ هم التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ هؤلاء هم الذين اشترى منهم أنفسهم، وأموالهم، ويحتمل أن يكون التَّائِبُونَ مبتدأ وتكون جملة جديدة، يعني الله - تبارك وتعالى - ذكر أوصاف الأولين إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ هذه طائفة ممن يدخلون الجنة، والطائفة الثانية هم أصحاب هذه الأوصاف التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ التَّائِبُونَ مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر مقدر يعني لهم الجنة، فيكون الذين وُعدوا بالجنة هم الطائفتين: الطائفة الأولى هم الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، والطائفة الثانية هم أصحاب هذه الأوصاف، وعلى القول الأول كل هذا طائفة واحدة موصوفة بهذه الأوصاف، فأولئك الذين يقاتلون في سبيل الله يجب أن تتحقق فيهم هذه الأوصاف على القول الأول المشهور أن يكونوا من التائبين، العابدين، الحامدين، السائحين ... إلى آخره.
يعني ذكر هذه الأوصاف التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ فالتوبة تكون بترك ما نهى عنه، والعبادة تكون بفعل ما أمر به، جمعوا بين هذا وهذا التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ، الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ.
أصل السياحة هي السير في الأرض ساحَ في الأرض، ساح الماء بمعنى جرى وانساب، يعني الذهاب على وجه الأرض يقال له: سياحة، فهنا السَّائِحُونَ من نظر إلى هذا المعنى إلى أنه الذهاب فسره بتفسيرات ترتبط بهذا المعنى، فبعضهم قال: الذين يسافرون في طلب العلم، وبعضهم قال: هم الذين يجاهدون في سبيل الله، فسياحة هذه الأمة الجهاد، يتنقل من أرض إلى أرض مجاهداً في سبيل الله، وبعضهم قال: هم الدعاة إلى الله، وبعضهم قال: هم الذين يعلمون الناس الخير، وأكثر أهل العلم - الجمهور - فسروه بما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا وهو الصيام قال: "ومن أفضل الأعمال الصيام، وهو ترك الملاذ من الطعام، والشراب، والجماع"؛ هذا الذي عليه الجمهور، واختاره ابن جرير - رحمه الله -، ووجه الارتباط مع المعنى هنا أن مَن يترك الملاذ يشبه السائح، يعني الذي يذهب في الأرض فإنه يتقلل ويترك كثيراً من ملاذه من النوم، والراحة، والأكل، وما اعتاده؛ وما أشبه ذلك فيفطم النفس عن كثير من مألوفاتها، فقالوا هذا يشبه هذا، فالصائم يترك هذه الشهوات لله ، يترك ما اعتاده من أكل، وشرب، ونكاح؛ طلباً لمرضاة الله، وهذه المعاني وغيرها مما ذكر أرجعه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - إلى أصل واحد، ففسر السياحة بسياحة القلب بذكر الله ، والتألّه له، ومحبته، والشوق إلى لقائه، واستحضار عظمته وما أشبه ذلك، فإذا وُجد هذا في القلب وجد فيه كل بر، ومعروف، وخصلة جميلة من جهاد، وهجرة، وطلب للعلم، وبذل له، وما إلى هذا من المعاني كالصيام ونحوه، واحتج لهذا بأن الله قال: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ [سورة التحريم:5]، وذكر من الأوصاف سَائِحَاتٍ قال: وليس المراد بذلك أنهن مجاهدات، أو يسافرن في طلب العلم، أو يُدِمنَ الصيام، فعائشة - ا - كانت تؤجل القضاء إلى شعبان، فمثل هذا قال: ليس هو المراد، وإنما المراد سياحة القلب، ولفتَ النظر إلى ما اقترن به وهو أن الله هنا في هذه الآية قال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ فهذا الاقتران التوبة والعبادة ترك ما نهى عنه، وفعل ما أمر به التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ، الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ذكْرُ اللسان، وذكْرُ القلب، فسر السائحين بهذا بذكر القلب، التأله لله وما إلى ذلك من معانٍ ذكرناها، ثم قال: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الركوع، والسجود؛ قرينان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ قرينان، وهكذا في وصف النساء الآتي ذكرَ الله : تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ وذكر أيضاً السائحات.
هنا قال: عطف هذه الأوصاف جميعاً بدون حرف العطف بدون "الواو"، وفي قوله: الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ذكر الواو فيحتمل أن يكون ذكر الواو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ باعتبار أنها خصلة واحدة، يعني هما متلازمان هي قضية واحدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي بعدها، وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ باعتبار أنه جاورها فذكر الواو معه، وهذا لا يخلو من إشكال بالنسبة لقوله: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ يعني هذا الجواب ما هو من الوضوح بمكان، القرب وحده قد لا يكون كافياً في تبرير هذا، والعطف بالواو يأتي في كلام العرب تارة تَذكرُ العطف بالواو، وتارة تُسقطُه في ذكر الأوصاف، ومنه قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4]، فذكر بعض هذه الأوصاف بالواو، وبعض هذه الأوصاف بغير واو، كقوله: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [سورة غافر:3]، فيذكر الواو مع هذا، ويحذفه في بعض المواضع، وبعضهم يقول: هذه الواو واو الثمانية، وإن كان بعض أهل اللغة كأبي على الفارسي ينكر واو الثمانية أصلاً!!، ويثبتها آخرون سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22]، وفي قوله في الآية المتقدمة: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا وهكذا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [سورة الزمر:73] فذكر الواو، والأمثلة على هذا كثيرة.