الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ۝ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة:113-114].
روى الإمام أحمد عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حَضَرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أيْ عَمّ! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله،، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملَّة عبد المطلب؟، فقال: أنا على ملة عبدالمطلب، فقال النبي ﷺ: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فنزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ قال: ونزلت فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56] أخرجاه[1].
وروى ابن جرير عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه أن رسول الله ﷺ لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا، فقلنا: يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي[2]، فما رئي باكياً أكثر من يومئذ.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية: فإن رسول الله ﷺ أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك؛ فقال: فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه، فأنزل الله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ الآية.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: كانوا يستغفرُون لهم حتى نزلت هذه الآية، فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ الآية".


هذه الروايات وغيرها مما لم يذكره كثيرة جداً، منها الصحيح، ومنها الضعيف، وقد ثبت أنها نزلت في قصة أبي طالب لما قال له النبي ﷺ: لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عن ذلك أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -، وثبت أنها نزلت حينما سمع عليٌّ رجلاً يستغفر لأبويه؛ فأنكر عليه هذا، فاحتج بأن إبراهيم ﷺ استغفر لأبيه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت، وهكذا ما جاء من روايات منها ما صح، ومنها ما لم يصح في طلب النبي ﷺ الاستغفار لأمه، فلم يؤذن له، فالشاهد أن الروايات التي صحت في سبب النزول متنوعة، فإن كان الزمان متقارباً فيمكن أن يقال: إن هذه الآية نزلت بعد هذه القضايا جميعاً، وإذا كان الزمان متباعداً فيمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين، يمكن أن يقال: إن هذا حصل فنهى الله نبيه ﷺ، وهل يتصور أن يقع هذا من أحد بعد نزول الآية؟

الجواب أن هذا يتصور من غير النبي ﷺ، من الناس من يخفى عليه، فتنزل الآية كما قال الحافظ - بغير هذا الموضع -: إن الآية تنزل تذكيراً بالحكم، يمكن هذا، وأحياناً لا يقال مثل ما ورد في سبب نزول يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، صح أنها نزلت بسبب العسل، وأيضاً بسبب تحريم الجارية، فهنا لابد أن يقال: من أهل العلم من يلجأ إلى الترجيح، أو يقال للجمع: إن الزمان كان متقارباً، ولا يمكن أن يقال: إن كان الزمان متباعداً حكم بتكرر الآية؛ لأن النبي ﷺ ما يمكن أن يحرم ما أحل الله له مرتين، وهكذا ما جاء في قوله - تبارك وتعالى - في اللعان: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [سورة النور:6] في قصة هلال بن أمية، وعويمر العجلاني، فلابد أن يقال هناك بأن الزمان كان متقارباً فنزلت الآية بعد هذه الوقائع جميعاً، ويمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين؛ لأن النبي ﷺ قال لكل واحد منهما: البينة أو حدٌّ في ظهرك[3]، فلو كانت نزلت عليه كان طلب منه اللعان - أي من الثاني - لكن هنا يتصور، ولكن هل يتصور في جميعها؟ يعني هل يتصور أن النبي ﷺ قاله في قصة أبي طالب، وهذا كان في مكة، فنزلت سورة براءة من آخر ما نزل، والواقعة في مكة، وقد تنزل الآية من السورة قبل نزول أكثرها، ويحكم على السورة بأنها مكية، أو مدنية؛ باعتبار صدر السورة، باعتبار الأغلب، فالشاهد أن هذه الآية تكون نزلت في مكة في قصة أبي طالب، ثم أيضاً نزلت متأخرة جداً حينما أراد النبي ﷺ أن يستغفر لأمه حينما مرَّ بقبرها، وبعض الروايات التي وردت في هذا - وإن كان فيها ضعف - أنه حينما رجع من تبوك أراد أن يذهب؛ هذه فيها ضعف، يذهب إلى مكة؛ فمرَّ بقبرها، ومروره بقبرها كان متأخراً يعني إما أن يكون هذا في عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة، أو يكون ذلك بعد فتح مكة، أو في حجة الوداع، فهو متأخر، فهل يمكن أن يقال: إن النبي ﷺ استغفر لعمه أبي طالب، فنزلت الآية هنا، ثم أراد أن يستغفر لأمه؛ هذا فيه إشكال كبير، إلا أن يقال: إن النبي ﷺ لم يستغفر لمّا مر على قبر أمه، وإنما قال: استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يؤذن لي استأذنه ولم يستغفر، فأما وقوع هذا من بعض الصحابة، وأنهم احتجوا بأن إبراهيم ﷺ استغفر لأبيه، فيمكن أن يقال: إن هذا خفيَ عليهم، فنزلت الآية تذكيراً - والله أعلم -.

"وقوله: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ قال ابن عباس: "ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، وفي رواية: لما مات تبين له أنه عدو لله".


يعني أنه ختم له بالشقاوة بالكفر، وكان يرجو أن يهديه الله للإسلام.

"وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم - رحمهم الله -.
وقال عُبَيْد بن عمير، وسعيد بن جُبَيْر: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حين يلقى أباه وعلى وجه أبيه القترة، والغبرة؛ فيقول: يا إبراهيم! إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك، فيقول: أيْ رَبي! ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي: قد مُسخ ضِبْعانًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار".


الذِّيخ هو ذَكر الضبع، وبعضهم قيده بذَكر الضبع الذي يكون عليه شعر كثير، فالله يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى، مَا كَانَ هذه في القرآن تأتي تارة للنهي مثل هذا الموضع، وكقوله: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [سورة الأحزاب:53]، وتارة تأتي بمعنى النفي كقوله: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، ووَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله [سورة آل عمران:145]، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال الله في   شأنه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، وهو قوله: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [سورة مريم:47] فهذا هو الوعد، والله يقول: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ [سورة الممتحنة:4]، إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ فهذا استثناء، فيحتمل أن يكون هذا الاستثناء عائداً إلى الأسوة، والقدوة، فلكم فيه أسوة إلا في هذا الأمر فإنه كان عن موعدة، ثم بعد ذلك تبين له أنه عدو لله، فترك الاستغفار له، فتكون أسوة فيها استثناء، ومن هذا أخذ بعض أهل العلم أن النبي ﷺ أفضل من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وهذا لا شك فيه، لكن هنا من ناحية أن الله لما ذكر الأسوة بالنبي ﷺ لم يستثنِ في سورة الأحزاب، وفي إبراهيم استثنى، ومن أهل العلم من يقول: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، فما يكون ذلك استثناءً من الأسوة.

"وقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "الأوّاه: الدَّعَّاء".


باعتبار أن "أواه" صيغة مبالغة، فقال: الدّعّاء وهذا الذي اختاره ابن جرير في معناه، الدّعّاء.

"وكذا روي من غير وجه عن ابن مسعود، وقيل: المتضرع.


قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ الدّعّاء بمعنى أنه استغفر لأبيه، والاستغفار دعاء طلب المغفرة، وكذا روي من غير وجه عن ابن مسعود ، وقيل: المتضرع، وهذا التضرع في معنى التذلل.

"وقيل: الرحيم، وقيل: الموقن المؤمن، وقيل: المُسبح، وقيل غير ذلك".


وقيل غير ذلك كمن فسره بأنه فقيه، أو يعلم الناس الخير، أو - وهذا من أشهر ما قيل فيه، وهو معنى قريب وجيد - أنه كثير التأوه، وهذا تفسير على الظاهر، ظاهر اللفظ لأوَّاهٌ يعني كثير التأوه، ومعنى كثير التأوه أنه يتأوه كثيراً من ذنوبه، فالذي يتأوه بمعنى أنه يحصل له ويتنفس بطريقة يعني فيها قوة أو نحو هذا يتأوه، وهكذا من يقول: أواه من ذنوبي لأوَّاهٌ أي كثير التأوه، وابن جرير - رحمه الله - فسره بالدّعّاء، كثير الدُّعاء، والتضرع إلى الله ، والسؤال بالحزن، والإشفاق.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4398).
  2. رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي ﷺ ربه في زيارة قبر أمه، برقم (976).
  3. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، برقم (2526)، وبرقم (4470)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور.