هذا بيان من الله - تعالى - لمَا أراد من نَفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك".
نفير الأحياء يعني أحياء العرب القبائل التي كانت حول المدينة.
وقد يقال: إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا: النفير المعين وبعده ﷺ تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه، وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً، ويتركوا النبي ﷺ وحده، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يعني: عصبة، يعني: السرايا، ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي ﷺ، وقالوا: "إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه"، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم، وليعلّموا السرايا إذا رجعت إليهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".
في هذه الآية كما ترون هذا الخلاف هل هي منسوخة أو محكمة؟ والخلاف واقع في المراد بالطائفة التي تتفقه هذه القاعدة أو الخارجة، فهنا قال: فنسخ ذلك بهذه الآية يعني انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً، ومَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ، فنسخ بـوَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، ومن أهل العلم من يقول: إنها مُحكمة؛ لأنه لا دليل على النسخ، ولا يوجد تعارض من كل وجه؛ لأنه يمكن الجمع بين هذه الآية وبين تلك الآيات، فعند ابن جرير - رحمه الله -، ومن وافقه؛ أن تلك الآيات هي حينما استنفرهم رسول الله ﷺ، فإذا أمرهم بالخروج، واستنفرهم؛ فلا يسعهم المقام والبقاء بعده - عليه الصلاة والسلام -، وأما هذه الآية فحيث لم يُستنفروا فلا يخرج جميعهم، وإنما يخرج بعضهم، ويبقى آخرون، ثم هنا قال: وقد يقال: إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم؛ ليتفقه الخارجون مع رسول الله ﷺ بما ينزل عليه من الوحي، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين، وبعده تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه، وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء، فقال هنا: ليتفقه الخارجون مع رسول الله ﷺ فصار وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يرجع إلى أقرب مذكور وهم الذين خرجوا، فالتفقه يكون بملازمتهم، ومصاحبتهم لرسول الله ﷺ، ومعرفة ما ينزل من الوحي؛ ليعرفوا أحكام الدين، وبعد ذلك هنا فسر الإنذار قال: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ يعني ينذرونهم بما يحصل من أمر العدو، وبما شاهدوا من أمره هذا معنى، وبعضهم يقول: هذا الإنذار بما حصل لهم من التفقه، والفهم بمصاحبتهم لرسول الله ﷺ،، وقال هنا: تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه، وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء، ومن أهل العلم من قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أي لطلب العلم ليتفقهوا في الدين، وهذا إذا كانوا لا يجدون العلم في بلادهم التي يقيمون فيها، فيسافرون في طلبه، ولكن هذا فيه بُعد، فالآيات تتحدث عن الجهاد، ولفظ النفير يدل على هذا المعنى، فإنه إنما يعبر به عن الجهاد كقوله - تبارك وتعالى -: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [سورة التوبة:38]، ثم ذكر هنا عن ابن عباس - ا - وما كان المؤمنون لينفروا كافة، قال: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً، ويتركوا النبي ﷺ وحده، فعكس المعنى الأول، هذا المعنى الجديد الذي نقله عن ابن عباس - ا -، وهو اختيار ابن جرير: أن التفقه يحصل بالقعود، في المعنى الأول التفقه يحصل بالخروج مع النبي ﷺ في الجهاد، ومصاحبته، فيعرفون ما نزل عليه، ويعرفون سنته - عليه الصلاة والسلام -، وأحواله في الحرب وغيرها، وهذا المعنى أن التفقه يكون بالقعود وليس بالنفير، فتخرج طائفة، يعني السرايا فالنبي ﷺ يبعث سراياه، وكان المسلمون يتسارعون، ويتسابقون إلى الخروج في هذه السرايا؛ فلا يقعد النبي ﷺ وحده في المدينة، وإنما يخرج من يخرج من هذه السرايا ممن تقوم بهم الكفاية، ويبقى آخرون مع النبي ﷺ يتفقهون في الدين، فإذا رجع إليهم أصحابهم الذين خرجوا في تلك السرايا فقّهوهم، وعلّموهم، فهذا معنى كما ترون هو عكس المعنى الأول تماماً، واحتج له ابن جرير بأن التخلف عن النبي ﷺ لا يجوز؛ لأن الله عاتبهم على ذلك حيث استنفرهم، فإذا خرج النبي ﷺ للجهاد وجب عليهم أن يخرجوا معه، فذلك بيَّنه قوله - تبارك وتعالى -: مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ هذا إذا خرج، ثم بيَّن لهم الحال إذا بقي في المدينة قال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية التي قبلها إذا خرج النبي ﷺ فليس لهم أن يتخلفوا عنه في هذه السرايا، فيبقى النبي ﷺ وحده، فتبقى معه طائفة من أجل أن يتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، قال هنا: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قال: يعني السرايا، وهنا قال: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم، ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون، لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ ابن جرير - رحمه الله - حمل هذا على التي تخرج، والإنذار بما شاهدوا من فعل الله بالكفار حينما يشاهدون غلبة المسلمين، وهزيمة الكفار، وما أشبه ذلك، فينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم؛ لئلا يحل بهم ذلك، فتقع بهم نقمة الله ، وهذه معانٍ تحتملها الآية، وابن القيم - رحمه الله - كان يرى أنه المعنى الأرجح - ونسبه إلى الأكثر -: أن الطائفة التي تتفقه هي التي تقعد، وقال: هذا ما يحصل به قوام الدين، وهو الجهاد، والعلم، فطائفة تخرج تجاهد، وطائفة تبقى تتفقه، وتتعلم.
وقال قتادة في هذه الآية: "هذا إذا بعث رسول الله ﷺ الجيوش، أمرهم الله أن يغزوا بنبيَّه ﷺ، وتقيم طائفة مع رسول الله ﷺ تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم".
قوله: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله ﷺ على مُضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقبِل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبي ﷺ، وأجهدوهم، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ الآية.
يعني الإنذار هنا عن الخروج إلى المدينة، وهذا الكلام بعيد، ولا يدل عليه ظاهر القرآن، وكان حقه أن يحذف من هذا المختصر يعني هنا الله يقول: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً على هذا القول الذي لا يوجد ما يدل عليه: أن المقصود هؤلاء الذين جاءوا إلى المدينة بسبب الجوع وهم لا يقصدون الهجرة، ولا الإيمان، هذا بعيد.