يعني بعضهم فسر نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فسر نظر بمعنى: قال، ولكن هذا على خلاف الظاهر، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ويحتمل أن يكون هذا النظر يدل على هذا المعنى يعني ينظرون نظرة يتساءلون فيها: هل يراكم أحد؟ فينسلوا دون أن يشعر بهم، ويحتمل أن يكون هناك تقدير معلوم من السياق نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ.
هنا فسر الانصراف بأنه انصراف عن الحق، ولا شك أن هذا حاصل لهم، ولكن الظاهر المتبادر أنهم انصرفوا عن المجلس الذي تتلى فيه هذه الآيات، لاسيما إذا كانت هذه الآيات تتحدث عن أوصاف المنافقين نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ فهذه قرينة تدل على أن انصرافهم هو انصراف عن المجلس وإلا ما نظر بعضهم إلى بعض يتساءلون هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ فهم يريدون الانسلال من المجلس دون أن يُشعر بهم، فيفسر الانصراف بهذا المعنى، وهو متضمن للانصراف الآخر، فإن انصرافهم عن مجلس النبي ﷺ حينما تنزل الآيات، أو تتلى؛ هو انصراف عن قبول الحق، فهم لا يريدون سماعه أصلاً؛ لأن ذلك يشق عليهم، ويثقل عليهم.
كما في الآية التي قبلها وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا بمعنى أنهم لا يتأثرون، ولا ينتفعون، فتزيدهم رجساً، وهكذا هنا وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون.
وقوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يفهمون عن الله خطابه، ولا يقصدون لفهمه، ولا يريدونه، بل هم في شغل عنه، ونفور منه؛ فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه".
يعني أنهم جمعوا بين أصلي الضلال: الانصراف عن الحق فلا يقبلون عليه، ولا يسمعونه، والأمر الثاني: انعدام الفقه والفهم عن الله - تبارك وتعالى -، إذا كان الإنسان لا يسمع الحق أصلاً، أو لا يريد سماعه، وإذا سمع فإنه لا يفهم، لا يفقه، فمثل هذا متى يسلك الطريق، ويعرفها، ويتبصر بما ينفعه؟ لا يمكن هذا، إذا كان الإنسان منصرفاً عن الحق، وإذا كان لا يريد سماعه أصلاً؛ فإنه لا يمكن أن يعرفه، وإذا سمعه ولكنه لا فقه له فإنه لا يعرف الحق، فهؤلاء جمعوا بين الإعراض عن الحق، وعن سماعه، وبين قلة الفقه، فالأول يدل على سوء قصدهم لا يقصدون الحق، ولا يريدونه، والثاني يدل على قلة فهمهم، واستيعابهم، فأنّى لهم بمعرفة الحق، وتمييزه من الباطل، وقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ يحتمل أن يكون من قبيل الدعاء عليهم، ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعا عليهم بصرف القلوب، وصرف القلوب بمعنى أن تكون صادة عن قبول الحق، فلا تنفذ إليها موعظة، ولا تقبل عن الله - تبارك وتعالى -، يكون القلب منكوساً مصروفاً جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26].
والتصدي يعني الإقبال على الشيء مع المناوءة، ليس ذلك بأصل معناه في اللغة كما قال الله : فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:6]، يعني تقبل عليه، وتوجه كلامك ودعوتك إليه تَصَدَّى فالتصدي هو بمعنى الإقبال عليه، والاهتمام به.
وفي الآية السابقة في قوله - تبارك وتعالى -: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ في قراءة حمزة وهي قراءة متواترة بالتاء أَوَلاَ تَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فيكون الخطاب موجهاً للمؤمنين، وفي بعض القراءات الشاذة أولا ترى يعني يا محمد - عليه الصلاة والسلام -.