قال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: هذه أول آية نزلت من سورة براءة.
يذكر - تعالى - للمؤمنين فضله عليهم، وإحسانه لديهم؛ في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده - تعالى -، وبتأييده وتقديره؛ لا بعَددهم، ولا بعُددهم، ونبههم على أن النصر من عنده؛ سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حُنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله ﷺ، ثم أنزل الله نصره، وتأييده؛ على رسوله، وعلى المؤمنين الذين معه، كما سنبينه - إن شاء الله تعالى - مفصلاً ليعلمهم أن النصر من عنده - تعالى - وحده، وبإمداده وإن قلَّ الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة - بإذن الله -، والله مع الصابرين".
هنا ما نقله عن مجاهد من أن هذه أول آية نزلت من "براءة"، والكلام في أول ما نزل، وآخر ما نزل مرجعه إلى النقل ممن شهدوا التنزيل، وبهذا الاعتبار إذا قال التابعي: إن هذه أول آية نزلت فإن هذا يكون له حكم المرسل، والمرسل من أنواع الضعيف؛ بهذا الاعتبار هذه أول آية نزلت من "براءة"، و"براءة" لم تنزل جملة واحدة، وهذه الآية: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا من الآيات التي مر ما قد يفهم منه أنها نزلت قبل فتح مكة كما قال الله : أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ [سورة التوبة:13-14]، وأما هذه الآية فصريحة أنها نزلت بعد فتح مكة، وغزوة حنين - فالله تعالى أعلم -، وهنا يقول الله : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ المواطن جمع موطن وهي مقامات الحرب كيوم بدر وغيرها مما نصر الله به المسلمين، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ الرحب هو المكان الواسع، والرحب يعني السعة وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ يعني على سعتها، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ هذه حال الإنسان المنهزم:
وضاقت الأرضُ حتى ظن هاربهم | إذا رأى غيرَ شيء ظنه رجلا |
فالشاعر يصف حال المنهزمين: حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شيء يعني يظن أنه مقاتل أو فارس يطارده، فهنا ضاقت بما رحبت، والناس يقولون: على الرحب والسعة، والرحب يعني المكان الواسع، يعني لو قالوا: على الرحب - والرحب يعني على السعة، والمكان الواسع - فيؤدي نفس المعنى:
فما زلتَ تحسب كلَّ شيء بعدهم | خيلاً تكر عليهمُ ورجالاً |
هذا يصف حال المنهزم.
"النضري" ليس من بني النضير وإنما هو مالك بن عوف النصري وهو قائد هوازن، ومَن جاء معهم من ثقيف، وكان قائدهم غير مالك بن عوف، لكن القائد العام هو مالك بن عوف النصري؛ وإلا فإن مع هوازن من بني عبد ياليل، ومعهم آخرون من بني جشم، وكان معهم قائد كبير عمره مائة وعشرون سنة وهو دريد بن الصمة الشاعر المعروف كان فارساً، وداهيةً، ورجلا مجرباً، ولم يكن فيه غناء من جهة الحرب لضعفه، وكبر سنه، وكان أعمى؛ لكن جيء به للانتفاع برأيه، لما جاءوا به سأل عن المكان، وسأل عما فعل مالك بن عوف فقيل له: إنه أمر الناس أن يخرجوا بأموالهم، ونسائهم، وكل شيء، فجعلوا النساء، والأطفال؛ خلف الجيش، وجعلوا خلفهم الإبل، والبقر، والغنم؛ بحيث إن الإنسان يموت دون أهله، وماله، فلما قالوا لدريد بن الصمة نبر بنغمة يعني أصدر صوتاً من شفته يستهزئ، وقال: راعي غنم، وذكر أن هذا لا يصلح؛ لأن الرجل إذا انهزم فإنه لا يرده شيء، المنهزم لا يلوي على شيء، فمالك بن عوف أبى، وهددهم إن لم يقبلوا كلامه أن يقتل نفسه! فالحاصل أنه حصل ما حصل، وانهزموا الهزيمة المعروفة، وكان دريد يقول:
يا ليتني فيها جَذَعْ | أخُبُّ فيها وأضع |
لذلك قتل بعد المعركة، أسر، ثم ضربت عنقه وهو شيخ كبير أعمى، والسبب أنهم كانوا يستفيدون من رأيه في الحرب، جاءوا به من أجل هذا.
حنين في شرق مكة، يبعد عن مكة حوالي "30" كيلو، وأنت متجه من جهة عرفة طريق الطائف إلى مكة تأتيك الشرائع بعد ثلاثين كيلو تقريباً أو "28" كيلو، هناك وادي حنين منسوب إلى قرية هناك وبئر.
هؤلاء كانوا رماة عُرفوا بهذا لا تكاد تخطيء لهم رمية، فجاءت النبال كأنها مطر تزعزعه الريح، والمسلمون على غفلة ما ظنوا أن هؤلاء قد وُجدوا في هذا المكان، وكمنوا لهم في الوادي، فصاروا أمام سيل من مطر من النبال، فتقهقرت دوابهم، وتقهقر الناس، وانهزموا، وما بقي مع النبي ﷺ كما جاء في بعض الروايات إلا تسعة، وقيل غير ذلك، ثم بعد ذلك دعا النبي ﷺ أهل الشجرة، وأهل سورة البقرة، فعطفوا عليه عطف البقر على أولادها، قالوا: لبيك لبيك، وكان الرجل منهم إن لم يطاوعه بعيره من شدة الهلع من كثرة النبال، والرماح، والحراب؛ نزل فتركه.
"وثبت رسول الله ﷺ وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع السير، وهو ينوِّه باسمه - عليه الصلاة والسلام -، ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول: إليَّ يا عباد الله، إليَّ أنا رسول الله، ويقول في تلك الحال:
أنا النبي لا كذب | أنا ابن عبد المطلب |
وهذا منتهى الشجاعة راكب على بغلة، لا تحسن الكر والفر، ولا تسرع، بغلة، والبغلة لا تستعمل لمثل هذا للإغارة على العدو، أو الخلاص منه والفرار لأنها تدرَك بسرعة، وينوِّه باسمه في هذا الموقف الرهيب، والنبال، والناس، انهزم الشجعان "12" ألفاً انهزموا، وما بقي معه إلا نحو تسعة وهو يقول:
أنا النبي لا كذب | أنا ابن عبد المطلب |
والذين ثبتوا في أول الأمر تسعة أو عشرة، وذكر الحافظ في الفتح كلاماً من هذا، وذكر بعض الأبيات التي افتخر بها من افتخر منهم، وكذلك في السيرة لابن هشام وفي غيرها، ثم بعد ذلك تتابع الناس، وتكاثروا، وثبت معه الذين رجعوا لما دعا وقال: يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة جاء معه عدد عشرات من الناس، وثبتوا مع رسول الله ﷺ، وتكلم من تكلم ممن خرج في هذه الغزوة ممن هم حدثاء عهد بالإسلام، وبعضهم لم يسلم مثل: صفوان بن أمية كان موجوداً في هذه الغزوة، خرج، وخرج أبو سفيان، وخرج مُسلمة الفتح، وصفوان خرج ينظر في هذه الغزوة ولم يخرج مقاتلاً، ومعه أخ له لأمه؛ فلما نظر إليهم منهزمين قال: الآن بطل سحر محمد، والله لا يردهم إلا البحر، فقال له صفوان بن أمية: "اسكت قطع الله لسانك، أو قال: فض الله فاك؛ لئن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن" يعني من باب العصبية أن يسودني رجل من قريش أحب إلى من أن يسودني رجل من هوازن، ثم بعد ذلك أسلم، وحسن إسلامه .
هذا أبو سفيان بن الحارث هو الذي يهجوه حسان بن ثابت، كان من أشد الناس عداوة للنبي ﷺ، وهو من أكثرهم شبهاً به في الخلقة، الذين يشبهون النبي ﷺ الفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث - وهوشديد الشبه به -، وكان شديد العداوة جداً، والهجاء الذي تعرفونه من كلام حسان في هذا وليس في أبي سفيان بن حرب قائد قريش:
ألا أبلغْ أبا سفيان عني | فأنت مُجوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ |
أتهجوه ولست له بكفءٍ | فشرُّكما لخيركما الفداء |
يقصد أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي ﷺ.
هذا هو الراجح: قيل بايعوه على الموت، والراجح أنهم بايعوه أن لا يفروا.
الشرذمة يعني فئة قليلة، والناس يتوهمون كثيرا أن الشرذمة يعني الطائفة المذمومة، وليس كذلك، مثل كلمة هَلَكَ يظنونها تعني المعنى المذموم، وليس ذلك صحيحاً، إنما تعني: فارقَ الدنيا حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [سورة غافر:34].
حينما رجعت الطائفة التي هي الخلاصة والصفوة، والتي تربت مع رسول الله ﷺ أصحاب الشجرة، أصحاب سورة البقرة؛ كما حصل في حروب الردة في قتال مسيلمة يوم اليمامة؛ تقهقر الناس، وانهزموا، فجاء خالد بن الوليد ، فكان الأعراب هم الذين في أول الصفوف؛ فأبعدهم وجاء بأصحاب رسول الله ﷺ من أهل بدر فوضعهم في الصفوف الأولى في الصف الأول فانتصروا.
"وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب أنه قال له رجل: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله ﷺ يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله ﷺ لم يفرّ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة، فلما لقيناهم، وحَمَلنا عليهم؛ انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول الله ﷺ وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب | أنا ابن عبد المطلب[1] |
قلت: وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة الوَغَى، وقد انكشف عنه جيشه؛ هو مع ذلك على بغلة وليست سريعة الجري، ولا تصلح لفرٍّ، ولا لكرٍّ، ولا لهرب، وهو مع هذا أيضًا يركضها إلى وجوههم، وينوِّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه - صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين -، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلاً عليه، وعلمًا منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان؛ ولهذا قال تعالى: ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ أي: طمأنينته، وثباته على رسوله، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: الذين معه".
يعني من المحتمل أن الله أنزلها على بقية المؤمنين، على الجيش الذين معه، فبعد ذلك حصل لهم الثبات، ورجعوا، وتتابعوا، ويحتمل أن يكون المراد وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني الذين رجعوا إليه فصبروا، وقاتلوا معه حتى حصل الانتصار.
العلماء اختلفوا في قتال الملائكة، والراجح أنه لم يحصل قتال من الملائكة إلا في يوم بدر، وأما ما عدا ذلك من المواطن فكانوا يثبتون المؤمنين، ويقذفون الرعب في قلوب الكافرين.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب، برقم (2709).