الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا، وقدِموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجِعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً".


يعني قوله: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يحتمل أن يكون المراد يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:102] يعني الذين انهزموا يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فكما قال الله في الذين انهزموا في يوم أحد أو كادوا إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران:155]، فهنا ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يمكن أن تفسر بهذه الآية يتوب على من انهزم، والمشهور عند المفسرين - ولعله هو المتبادر والله تعالى أعلم - أنه لما ذكر هوازن، وما حل بهم، ومن جاء معهم، وأنه عذبهم قال: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ يعني منهم، فأسلموا، وجاءوا للنبي ﷺ طائعين منقادين، وأسلم قائدهم مالك بن عوف النصري لما لجأ إلى حصن الطائف، وحاصر النبيُّ ﷺ حصنَ الطائف، ويذكر أهل السير أن النبي ﷺ كتب إليه سراً، ووعده، فالرجل تسلل إلى رسول الله ﷺ من الحصن، وجاء إليه، وأسلم، ومدحه بقصيدة.

"فعند ذلك خَيَّرهم بين سبيهم، وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي، وامرأة".


هم جاءوا للنبي ﷺ بعد ذلك، وتكلموا معه، وذكروا له قصيدة يستعطفونه ﷺ بها، ويذكرون رضاعته عندهم، وما حل بهم من قدر الله - تبارك وتعالى -، وما حصل بهم من البلاء والمصيبة التي نزلت، فالنبي ﷺ خيرهم بين أزواجهم، وأولادهم، وبين أموالهم، فقالوا: "خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا"، أو قالوا: "أعراضنا" فاختاروا الأولاد، والنساء؛ فأمر النبي ﷺ بردها إليهم بعدما فُرقت يعني ابن عمر كان أخذ امرأة، وذهب بها إلى أخواله من أجل أن يصلحوها له، فكان يطوف بالبيت، وإذا برجل يأتي إليه يشتد ويقول: "إن رسول الله ﷺ قد رد إلينا نساءنا، وأولادنا".
هو جاء بهم خلف الجيش، كانوا مجتمعين، ما يحتاج أن يذهبوا إليهم في بيوتهم، في ميدان المعركة ستة آلاف.

"فرده عليهم، وقسم أموالهم بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائةً مائةً من الإبل".


يعني أعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى معاوية مائة، وأعطى صفوان مائة، وأعطى رجلاً ما بين جبلين غنماً، فكان ذلك سبباً لإقبالهم عليه - عليه الصلاة والسلام -، ومحبتهم له حتى قال قائلهم: "إنه ﷺ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر".

"وكان من جملة من أعطي مائة مالك بن عوف النَّصري، واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

ما إنْ رَأيتُ ولا سَمعتُ بمثْلِه في النَّاس كُلّهم بمثل مُحَمَّد
أوْفَى وأعْطَى للجزيل إذا اجتُدى ومَتى تَشَأ يُخْبرْكَ عَمّا في غَد

هذا البيت غير صحيح، والرجل حديث عهد بالإسلام، فلا يعلم ما في غد إلا الله، وتعرفون خبر الجاريتين كن يقلن:

أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمراء ما جئنا بواديكم

ثم لما جاء النبي ﷺ قلن:

  وفينا نبي يعلم ما في غد

فنهاهن النبي ﷺ وقال: لا يعلم ما في الغد إلا الله، وأمرهن أن يَعُدن على ما كن يقلنه من الكلام الأول، فهذا كان حديثَ عهد بالإسلام، مثلما قال حديثو العهد الذين كانوا معه حينما ذهب إلى حنين، ومروا على سدرة فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط[1]، والإنسان في مثل هذه الأمور يعذر بالجهل مثل حديث العهد بالإسلام يعذر بذلك.

وإذَا الكتيبة عَرّدَتْ أنيابها بالسَّمْهَريّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنَّد
فَكَأنَّه ليث على أشْبَاله وسط الهَبَاءة خَادر في مَرْصَد

وهذا وقع أيضاً في نفوس الأنصار حينما لم يعطهم النبي ﷺ، ووَكَلهم إلى إيمانهم، فقال بعضهم: إن النبي ﷺ لقي قومه فأعطاهم، ولم يعطنا، وسيوفنا ما زالت تقطر من دمائهم، فجمعهم النبي ﷺ وقال لهم كلامه المعروف - عليه الصلاة والسلام -: يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟، كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ﷺ؟، قال كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي ﷺ إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرةً فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[2].

  1. رواه الترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لتركبن سَنن من كان قبلكم، برقم (2180)، وأحمد في المسند، برقم (21897)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (5408).
  2. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم (4075)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، برقم (1061)