يقول تعالى: وإعلامٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وتَقَدُّمٌ، وإنذار إلى الناس، يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك، وأظهرها، وأكثرها جمعاً".
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أذان أيضاً نكرة، ويقال فيه - كما قيل في "براءة" -: يحتمل أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي: هذا أذان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وابتُدِئ به لعلة من العلل المسوّغة كما سبق الكلام على "براءة"، والواو هنا وَأَذَانٌ عاطفة على جملة براءة، بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: إعلام، الأذان: هو الإعلام، يؤذنهم أي: يعلمهم بالبراءة منهم، ومن عهودهم.
هنا قال: إِلَى النَّاسِ، وبَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ مِن: لابتداء الغاية، أي: براءة واصلة مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ قال: وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك، وهذا عليه عامة أهل العلم قال به كثير من الصحابة فمن بعدهم، واختاره من المفسرين ابن جرير والقرطبي، وورد في ذلك أحاديث صحيحة عن النبي ﷺ، من هذه الأحاديث المرفوعة - إضافة إلى كثير من الآثار - حديث رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: خطبنا رسول الله ﷺ يوم النحر على ناقة حمراء مخضرمة فقال: هذا يوم الحج الأكبر[1] أخرجه الإمام أحمد والنسائي في الكبرى، ورجاله ثقات.
وكذلك حديث ابن عمر: "أن النبي ﷺ وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟، قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر أخرجه البخاري تعليقاً، ووصله أبو داود في المناسك باب يوم الحج الأكبر، وابن ماجه، والحديث ثابت صحيح.
وورد أيضاً عن جماعة من الصحابة أحاديث، ومن ذلك حديث أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، يؤذن يوم النحر، والله يقول: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ، فكان يؤذن في يوم النحر، ثم قال: وإنما قيل الأكبر - يعني يوم الحج الأكبر - في مقابل الحج الأصغر وهو العمرة، وفي أحاديث أخرى منها حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي ﷺ قال: يوم النحر يوم الحج الأكبر وهذا فيه ضعف، فعلى كل حال من جهة النظر يوم النحر فيه عامة أعمال الحج، فيه رمي الجمار، وفي ليلته الوقوف بعرفة، وفيه نحر الهدي، وفيه أيضاً الطواف، وفيه التلبية، والتكبير، والحلق، كل هذا في ذلك اليوم، هذا قال به كثير من الصحابة والتابعين، وكثير من أهل العلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وممن قال به من الصحابة علي، وعبد الله بن أبي أوفى، والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر، وهو مروي عن ابن عباس، وقال به خلق لا يحصيهم إلا الله من التابعين فمن بعدهم - والله أعلم -.
يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك.
رسولُهُ مرفوع يعني أن الله بريء، ورسوله بريء من المشركين، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وسبب كتابة النحو أن زياد بن أبيه كان أميراً على العراق فطلب من أبي الأسود الدؤلي أن يكتب له، قيل: في كتابة النحو، يقال: إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من كتب النحو، وإن علي بن أبي طالب قال له: "الكلام: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، فالاسم كذا، وانح نحو هذا"، فقيل له: النحو، وتشكيل المصاحف يقال: إن زياد بن أبيه طلب ذلك من أبي الأسود الدؤلي لأن المصاحف لم تكن مشكولة، ولا منقوطة، فامتنع من هذا، يقال: إنه جعل رجلاً يقرأ - حيث يسمع - في طريقه؛ فقرأ بجر "رسوله" في قوله: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهُ فصار المعنى بهذا الاعتبار أن الله بريء من رسوله ﷺ، ففزع أبو الأسود الدؤلي، وذهب إلى زياد؛ فوافق أن يكتب المصحف مشكولاً، هكذا ذُكر، وجاءت قراءة بالجر، لكنها غير متواترة، ولا أحد يحمل ذلك على المعنى الباطل إطلاقاً، ولا يتصور هذا من مسلم، لكن القراءة تلك الشاذة بعضهم قال: إن الإعراب أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "المشركين" مجرور وَرَسُولِهُ قالوا: جر للمجاورة، وبعضهم قال غير هذا.
هنا أطلق البشارة على خلاف المعنى المشهور؛ وهو الإخبار بما يسر، فهنا ذكرها في الإخبار بما يسوء، فالغالب المعروف المشهور أن البشارة تقال في الإخبار بما يسر، وهذا وإن كان هو الغالب إلا أن إطلاقها في الإخبار بما يسوء صحيح، وليس بمجاز، ومعروف في كلام العرب، ومنه هذه الآية: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ كما قال الشاعر:
وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ | تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ |
فعبر بالتحية عن الضرب الوجيع كما قال الآخر:
يبشرني الغرابُ ببيْنِ أهلي | فقلتُ له ثكِلْتُك مِن بشيرِ |
وقول الآخر:
وبشرتَني يا زيدُ أنّ أحبتي | جفوْني وأنّ الودَّ موعدُه الحشرُ |
وبشرتني، فسمى ذلك بشارة، وهذا موجود في كلام العرب، وعلى كل حال قيل للبشارة بشارة؛ لأنه يظهر أثر ذلك في بشرة الإنسان، إذا بشرتَه ظهر ذلك على وجهه.
ورواه البخاري أيضاً أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يُؤذِّن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل: "الأكبر"، من أجل قول الناس: "الحج الأصغر"، فَنَبَذَ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله ﷺ مشركٌ[3].
وهذا لفظ البخاري في كتاب "الجهاد".
وروى محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال: لما نزلت "براءة" على رسول الله ﷺ، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس، فقيل: يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا فقال: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يَطُوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو له إلى مدته، فخرج علي على ناقة رسول الله ﷺ العضباء، حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو إلى مدته".
من له عهد فهو إلى مدته، وهذا موافق لقوله: فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، فهذا ما يدخل في فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
يقول: فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام، وأهل المدة إلى الأجل المسمى، يعني يريد أن يقول: إن الذين لا عهد لهم فالإمهال في حقهم إلى نهاية الأشهر الحرم.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4380)، ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان يوم الحج الأكبر، برقم (1347)، وأبو داود، كتاب المناسك، باب يوم الحج الأكبر، برقم (1945).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة التوبة، برقم (4378)، ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان يوم الحج الأكبر، برقم (1347).
- رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، برقم (3006).