الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۗ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ [سورة التوبة:34-35].
قال السدي: "الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى".
وهو كما قال، فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [سورة المائدة:63]، والرهبان: عُباد النصارى، والقسيسون: علماؤهم كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [سورة المائدة:82].
والمقصود: التحذير من علماء السوء، وعُبَّاد الضلال كما قال سفيان بن عيينة: "من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى"، وفي الحديث الصحيح: لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟[1]، وفي رواية: فارس والروم؟ قال: وَمَن الناسُ إلا هؤلاء؟[2].
والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم، وأحوالهم؛ ولهذا قال تعالى: لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم، ورياستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خَرْج، وهدايا، وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله ﷺ استمروا على ضلالهم، وكفرهم، وعنادهم، طمعاً منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات، فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها، وعوضهم بالذلة، والمسكنة، وباءوا بغضب من الله.
وقوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق، ويُلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون.
وقوله: وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العُبَّاد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك:

وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها؟

وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: "هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة".
وروى البخاري من حديث الزهري عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال: "هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال".
وكذا قال عمر بن عبد العزيز، وعراك بن مالك: نسخها قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [سورة التوبة:103]".


قوله - تبارك وتعالى -: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ "صد" هنا تحتمل أن تكون لازمة، وأن تكون متعدية، لازمة بمعنى يصدون في أنفسهم فهم يأخذون - أو يأكلون - أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله في أنفسهم، ويحتمل أن تكون بمعنى المتعدية، ولا مانع من الجمع بين المعنيين؛ لأنهم يصدون في أنفسهم عن الحق، ويصدون غيرهم من الناس عن اتباعه، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا هذا الجزء يحتمل أن يكون مرتبطاً بما قبله يعني أنه يعود إلى هؤلاء الذين تحدث عنهم إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يعني أن ذلك من أوصافهم أيضاً يأكلون أموال الناس بالباطل، ويكنزون الذهب، والفضة، ولهذا قال معاوية حينما وقع بينه وبين أبي ذر - رضي الله عن الجميع - محاورة، واختلاف؛ فكان أبو ذر يرى أن ما زاد على حاجة الإنسان أنه كنز يكوى به جبينه، وظهره، وجنبه، فمعاوية لما قرأ أبو ذر هذه الآية قال له: هذه في أهل الكتاب، فأبو ذر قال: "هذه فينا، وفي أهل الكتاب"، فهذه الآية ليست في أهل الكتاب، وإنما هذه الآية عامة، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فهي لا تعود إلى الأحبار، والرهبان، وإنما هذا كلام مستأنف وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا، والكَنز أصله في المعنى يرجع إلى الضم، والجمع، فكل شيء جمعت بعضه إلى بعض فإن العرب تقول عنه: كنز، ولهذا يقال: مكتنز اللحم مثلا بمعنى مجتمع، وقوله: وَلاَ يُنفِقُونَهَا فذكر هنا الذهب، وذكر الفضة، وأعاد الضمير مفرداً، فيحتمل أن يكون الضمير يعود على أحدهما لاعتبار من الاعتبارات، كمن قال: إنه يعود إلى الذهب، الضمير الآن مفرد، ذكر شيئين، وأعاد الضمير على أحدهما، يمكن أن يكون عائداً إلى أحدهما فعلاً، وهو الذهب وَلاَ يُنفِقُونَهَا فالذهب العرب تذكره، وتؤنثه، فـوَلاَ يُنفِقُونَهَا يكون عائداً إلى الذهب، والفضة معطوف عليه بهذا الاعتبار، ويحتمل أن يكون ذلك يعود إلى الفضة باعتبار أنها الأكثر في الاستعمال عندهم، فالذهب قليل، وأكثر ما كانوا يتعاطون ويتداولون الدراهم من الفضة، وَلاَ يُنفِقُونَهَا أي الفضة، ويحتمل أن الضمير يرجع إلى الأمرين لكنه أعاده إلى أحدهما اكتفاء بذلك عن الآخر، أو ليدل على الآخر كما سبق في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11]، وهذه الآيات يحتمل أن يكون انفَضُّوا إِلَيْهَا باعتبار أن التجارة هي المقصودة، فأعاد الضمير إليها وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا، ويحتمل غير هذا، و هنا يمكن أن يكون أعاد الضمير إلى أحدهما إلى الفضة مثلاً ليدل ذلك على الآخر، وهذا كثير في كلام العرب، يقول الشاعر:

رَماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي بريئًا ومن جُولِ الطَّوِيِّ رماني

يعني بريئين، فهذا معروف في كلام العرب يعود الضمير إلى أحد المذكوريْن لمعنى من المعاني، وبعضهم يقول: إنه يعود إليهما، والمقصود وَلاَ يُنفِقُونَهَا يعني الأموال يكنزون الذهب، والفضة، ولا ينفقونها، وبعضهم يقول: وَلاَ يُنفِقُونَهَا يعني الزكاة، وهذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: إن الذهب، والفضة؛ جنسان تحتهما أفراد: دنانير، ودراهم، وَلاَ يُنفِقُونَهَا يعني باعتبار ما تحت هذا الجنس الذي هو الذهب، والفضة؛ كما قال الله : وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [سورة الحجرات:9] ما قال: اقتتلا باعتبار أن الطائفتين كل طائفة تحتها أفراد فأعاد الضمير مجموعاً بعد أن ذكر شيئين، والعلم عند الله .
قوله: وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ هذا الذي عليه عامة الصحابة ، بل كل الصحابة - سوى أبي ذر - وهو الذي عليه أهل العلم: أن المقصود من لم يخرج الزكاة، والنبي ﷺ حينما أرسل معاذاً إلى اليمن أخبره بأن يأمرهم بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن أطاعوه لذلك فيخبرهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات، ثم ذكر الزكاة، والإنسان لا يزكي إلا إذا كان غنياً، وهذا الغنى معناه أنه عنده فوق حاجته، والمواريث تكون، إذا كان الإنسان ينفق ما زاد على حاجته لن يكون هناك ميراث، وأصحاب النبي ﷺ كان عندهم أموال، وأخبارهم في هذا مستفيضة عبد الرحمن بن عوف، عثمان بن عفان، وأما ما قد يفهم منه أن الإنسان لا يجوز له أن يدخر شيئاً مثل الرجل الذي توفى من أهل الصفة فوجد أنه قد ترك دينارين، فقال النبي ﷺ: كَيَّتان[3]، فهذا محمول على أنه كان في أول الأمر لضيق الحال، والشدة؛ لا يجوز للإنسان أن يدخر فوق حاجته، ثم بعد ذلك رُخص للناس أن يدخروا، وإذا كان الإنسان قد أخرج الزكاة فإن ذلك لا يكون كنزاً سواءً كان فوق الأرض، أو في باطنها، قلّ ذلك، أو كثر ؛هذا الذي عليه عامة الصحابة، وأهل العلم ، أما أبو ذر فقد اعتذر له بعض الصحابة ومن بعدهم بأنه كان يأتي النبي ﷺ، جاء إلى النبي ﷺ، وسمع منه أشياء، ثم رجع إلى قومه، وبقي فيهم مده طويلة، وفاته أشياء، فلم يبلغه بعد ذلك الترخيص في هذا - والله تعالى أعلم -، ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية منسوخة بقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [سورة التوبة:103] والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولذلك يمكن أن يقال: إن هذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي محكمة، وهي في من لم يخرج الزكاة؛ فهو متوعد بهذه العقوبة.

"وقد جاء في مدح التقلل من الذهب، والفضة، وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة؛ ولنورد منها هنا طرفاً يدل على الباقي، روى عبد الرزاق عن علي في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال النبي ﷺ: تَبًّا للذهب، تَبًّا للفضة يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: فأيَّ مال نتخذ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك، فقال: يا رسول الله! إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأيَّ مال نتخذ؟ قال: لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وزوجة تعين أحدكم على دينه[4]".
  1. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (6889).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (8309)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وبرقم (8433)، ولفظه: وما الناس إلا أولئك، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (788)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لجهالة عتيبة وبريد بن أصرم، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (6258)، وابن حبان في صحيحه برقم (3263)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2637).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (23101)، وقال محققوه: " حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح غير سلم - وهو ابن عطية الفقيمي - فقد لينه الحافظ ابن حجر في التقريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2907).