الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ وَتَعْلَمَ ٱلْكَٰذِبِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ۝ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [سورة التوبة:43-45].
روى ابن أبي حاتم عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، وكذا قال مُوَرِّق العِجْلي وغيره.
وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور، فرخَّص له في أن يأذن لهم إن شاء: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [سورة النور:62]، وكذا رُوي عن عطاء الخرساني.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذِنُوا رسول الله؛ فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
ولهذا قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: في إبداء الأعذار، وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ يقول تعالى: هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه".


فقوله - تبارك وتعالى - هنا: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ المشهور في المعنى - وهو المتبادر، وهو الذي يدل عليه السياق، والملابسات التي نزلت فيها الآيات - أنه كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنها معاتبة من الله : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ابتُدئت بهذه البداية اللطيفة، قدم المعاتبة بالعفو، ومن أهل العلم من يقول: إن هذه ليست معاتبة، وإنما كقولك لمن تخاطبه: أصلحك الله ما شأن كذا وكذا؟، أو عفا الله عنك ما شأن كذا وكذا؟، وإذا كان المعنى على هذه فإنه يوقف عليها، يقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، والأقرب هو الأول - والله تبارك وتعالى أعلم - أنها معاتبة؛ ولذلك يوصل الكلام عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فليس هذا باستفتاح كلام كما يقوله بعضهم، فمن الناس من يستفتح الكلام بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ تقول: لأبيك أو لأستاذك أو نحو هذا تقول: عفا الله عنك أين أجد كذا وكذا؟، والأول أرجح يقول: قال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور؛ فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يعني باعتبار أن الآية التي في سورة النور ناسخة لآية براءة، وإذا كانت ناسخة فالمعنى أنه ترك الأمر للنبي ﷺ، أذن له أن يأذن لمن شاء منهم، فهذا على النسخ، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال؛ ولهذا فإن بعض أهل العلم حاول أن يجمع بين الآيتين بين الآية التي عندنا هنا لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وبين آية النور: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ [سورة النور:62]، فقال بعض أهل العلم: إن الآية التي في سورة براءة فيها النهي عن الإذن قبل الاستثبات، قبل أن يتبين له الصادق من الكاذب، والآية التي في سورة النور بعد الاستثبات بعد أن يتبين له، وهذا ليس من الظهور لدرجة كافية، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذه الآية بموضوع يختلف عن موضوع آية النور أصلاً، فهذه الآية في الإذن لهم عن التخلف في الغزو، يأتون، ويعتذرون إليه بمعاذير كاذبة، فكان يأذن النبي ﷺ لمن تخلف منهم، وهو كاذب، فمن هؤلاء المعتذرين هؤلاء المنافقون، فأما الآية التي في سورة النور فهي تتحدث عن أدب من آداب المؤمنين أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، ثم قال بعد ذلك: فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، يعني من آداب المجالسة مع النبي ﷺ، ويمكن أن يؤخذ هذا الأدب أيضاً مع غيره طالما أنه أدب من آداب المجلس، فإذا كانوا معه على أمر جامع يعني ليس بمجلس عفوي، وإنما اجتمعوا لأمر من الأمور ما يذهب الإنسان يقوم من المجلس من غير إذن، يستأذن إذا عرضت له حاجة، ولا شك أن هذا هو الأدب اللائق خلافاً لأهل الجفاء، فالله أدَّب المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي ﷺ، ولا يجهروا له بالقول، ولا يقوموا عنه إن اجتمعوا معه على أمر من الأمور حتى يستأذنوه، فهذه في آداب المجالسة، والمخالطة، والمصاحبة، ويمكن أن يؤخذ منها أيضاً - أي آية النور وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ [سورة النور:62]، أنهم لو كانوا معه في الغزو لم يذهبوا حتى يستأذنوه، مثل لما كان الصحابة مع النبي ﷺ يرابطون على الخندق الله  قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا [سورة النور:63] سواءً من المجلس، أو من المقام الذي هم فيه في القتال؛ لأن الله سمى ذلك جميعاً مجلساً كما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة المجادلة: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا [سورة المجادلة:11] فإن المجالس فسرها بعض السلف في سورة المجادلة بمجالسته ﷺ، وفسرت بالمجالس للصلاة يعني كما في صلاة الجمعة تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ، وفي القراءة الأخرى في المجلس وهذه تدل على هذه، وفسرت أيضاً بالمجالس في القتال قاله بعض السلف، وكل هذه المعاني صحيحة، إذا طلب منكم التفسح سواءً في مقام القتال في مجلس القتال، الصفوف، أو في مجلسه ﷺ بدلاً من أن يقام أحد من مجلسه فيكون ذلك إيذاءً له، وجرحاً لمشاعره، فنهى النبي ﷺ عن هذا، تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فهذا كله يقال له: مجالس، فأذنْ لمن شئت منهم، ففي القتال من الناس من يتسللون من مقام المرابطة كما حصل في الخندق، منهم من يستأذن وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [سورة الأحزاب:13]، وبعضهم يتسلل دون أن يستأذن فهنا هذه الآية في الاستئذان في القعود عن الغزو عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [سورة التوبة:43] في غزوة تبوك، وتلك في الاجتماع به ﷺ، ومجالسته، أو الكون معه في أمر جامع؛ لا ينسحب أحد، ولا يخرج أحد، لا يذهب أحد حتى يستأذن، فهذا أدب مع النبي ﷺ، وهو أدب يطلب مع غيره ممن حصل لهم مثل هذا، اجتمعوا على شيء، وليس كل من أراد أن يخرج خرج!، هذا يخرج يتكلم بالهاتف، وهذا يخرج يشرب، وهذا يخرج يرجع إلى بيته، هذا ليس من الآداب في شيء، هذه أخلاق صحراوية لا تصلح، فرباهم القرآن على خلاف هذا؛ هنا قال: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ، لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ يعني هنا فسرها أو نقل ما يدل على أن "حتى" بمعنى أنه يقول له: لا يأذن لهم حتى يتبين الصادق، ويتبين الصادق أنه إن قال له: لا، وهو صادق؛ فسيتحامل على الخروج، ويخرج لا يجد بداً، لكن المنافق أو الكاذب سيقعد، ويتخلف، ويتبين بهذا نفاقه، فهو مبيّت أصلاً للقعود، وجاء يعتذر بهذه الأعذار الكاذبة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ، وبعضهم يقول غير هذا في المعنى، لكنه غير ظاهر.