الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
لَوْ خَرَجُوا۟ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا۟ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم بيَّن الله - تعالى - وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا أي: لأنهم جبناء مخذولون، وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة، والبغضاء، والفتنة، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم، وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين، وفساد كبير.
وقال محمد بن إسحاق: كان الذي يستأذن - فيما بلغني - من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول، والجَدُّ بن قيس، وكانوا أشرافاً في قومهم، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قومٌ أهل محبة لهم، وطاعة فيما يدعونهم إليه؛ لشرفهم فيهم، فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ".


هنا يقول الله : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ أي خروجهم للقتال، فثبطهم ثنى عزائمهم عن ذلك، وقد يرد سؤال هنا وهو أن الله يحب الجهاد في سبيله، ويدعو إليه، وأمر به عباده المؤمنين، فكيف قال هنا: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ {انْبِعَاثَهُمْ} أي الغزو؟

والجواب عن هذا واضح على عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو أن الله يحب الجهاد ديناً، وشرعاً، فكره انبعاث هؤلاء إليه فثبطهم قدراً، كره انبعاثهم؛ لأن هؤلاء لا يخرجون يجاهدون في الواقع، هؤلاء يخرجون للإفساد، فخروجهم يحصل من جرائه مفسدة عظيمة للمسلمين كما ذكر بعده لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ يعني أسرعوا، خِلالَكُمْ يعني للإفساد بينكم، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يطلبونها لكم، والمشكلة أن فيكم سماعين لهم، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فكره الله انبعاثهم لهذا، فخروجهم ليس بجهاد وإنما هو عكس مقصود الجهاد، وإن كانوا قد خرجوا بصورة المجاهدين، فهم أهل شر، وإرجاف، وإفساد بين الناس، فالله أراده ديناً، وشرعاً، وكرهه لهم، أو ثبطهم عنه قدراً كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ، وهنا أيضاً: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ قال: قدراً، يعني قيل لهم ذلك قدراً فكان لا بد من تخلفهم؛ لأن الله قدَّر ذلك، وهذا من أحسن ما تفسر به - والله أعلم -؛ لأن بعضهم يقول: وَقِيلَ اقْعُدُوا يعني الشيطان ألقى ذلك في قلوبهم، وبعضهم يقول: قال ذلك بعضهم لبعض: اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ، وبعضهم يقول: إن النبي ﷺ قال ذلك على سبيل الغضب، والسخط عليهم؛ حينما استأذنوه وهم أغنياء اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ، والأقرب - والله أعلم - ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ فعبر به عن الخذلان لهم، والمراد بـ"القاعدين" النساء، والصبيان، وأهل الأعذار من الزمنى، والمرضى، و الأعرج، والأعمى، فرضوا بهذا، وهذا لا يرضى به من كان مؤمناً صادقاً، فعليٌّ لما خلفه النبي ﷺ في المدينة قال له: يا رسول الله أتجعلني مع النساء، والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي[1]، فالمؤمن الصادق لا يرضى بالتخلف عن رسول الله ﷺ؛ ولهذا كان أصحاب الأعذار الصادقة - ليسوا بأصحاب أعذار -، فكان الفقراء الذين لا يجدون ما يتجهزون به إذا جاءوا إلى النبي ﷺ، وقال لهم: لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ [سورة التوبة:92-93] الخوالف يعني مثل هؤلاء النساء، والمرضى، يقول: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً أي: لأنهم جبناء، مخذولون، والخبال معناه الفساد بالنميمة، وإيقاع الاختلاف، والأراجيف بين المؤمنين، مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً فيحصل الوهن، والضعف في الجيش، فخروجهم لا خير فيه، وإنما هو ضرر على المسلمين قال: أي: لأنهم جبناء، مخذولون، وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ الخلل الفرجة بين الشيئين، وقيل: منه الخلة يعني الحاجة، والفقر، والمسغبة خلة، وفسر بهذا الخصاصة وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] كما في سورة الحشر في مدح الأنصار وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ قيل هو من خصاص الدار، بمعنى الخلة التي تكون كالشقوق في الجدران، والسقف؛ تظهر منها أشعة الشمس، ومنه الخلل الذي في المنخل وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي بينكم يعني يسعون بينكم بالفساد يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني يطلبونها لكم، فهم يسعون لإيقاع الفتنة بين المؤمنين، هذا إذا قلت: بغيتُه لكذا، يعني طلبته له، وإذا قلت: أبغيته كذا يعني أعنته على طلبه، أبغوني ضعفاءكم، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ هنا فسرها قال: أي مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم، يستنصحونهم، وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي هناك ناس يقبلون منهم، ويستجيبون لهم، وهذا المعنى الذي رجحه ابن القيم - رحمه الله - خلافاً لمن فسره كابن جرير بأن فيكم سماعون لهم أي ينقلون حديثكم لهم، ينقلون الحديث لهم بمعنى كأنهم عيون، وجواسيس؛ ينقلون أخباركم، وحديثكم إليهم، ووجه ترجيح ابن القيم لهذا، ابن القيم رجحه بأن المنافقين أصلاً كانوا مخالطين للمسلمين، ولا يحتاجون إلى عيون، فهم أنفسهم عيون، هم مخالطون لهم؛ ولذلك جاءت الخطورة، فالمنافقون أخطر على المسلمين من الكافرين؛ لأنهم يخالطونهم صباح مساء في المسجد، وفي الغزو، وفي كل مكان، فيعرفون كل ما يجري معهم في داخل الصف، فهؤلاء هم الذي يمكن أن يدلّوا العدو على جوانب الضعف عند المسلمين، ويخبرون عن كل شيء يتعلق بهم من عَددهم، وعُددهم، وكلامهم، وما يخططون له، فهذه الخطورة، وابن القيم - رحمه الله - يقول: إن هؤلاء المنافقين ليسوا منعزلين، منفردين؛ فيحتاجوا إلى إرسال العيون من أجل التعرف على ما يجري، فهم مخالطون فلذلك سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: يقبل منهم، ويستجيب، وليس ينقل حديثكم إليهم، وأما ابن جرير - رحمه الله - فوجه الترجيح عنده وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، يقول: إن هذه اللفظة سَمَّاعُونَ لَهُمْ تستعمل في مثل هذا - في نقل الحديث -، وأما في الاستجابة فإنه يقال: فلان يسمع لفلان، أو سامع لفلان، لا يقال: سمّاع له، وجرت العادة أن يعبر عن الشخص المستجيب يقال: فلان يسمع لفلان، فلان سامع لفلان، أي سامع ومطيع، لكنْ سمّاع لفلان يقول: ما جرت العادة أن يعبر بهذا عن الاستجابة، والقبول.
والمعنى الأقرب - والله أعلم - المتبادر وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي مستجيبون، فيكم من يقبل، ويؤثر فيه هذا الكلام، فلو خرجوا لحصل الخلاف والشر بين المسلمين، يوجد من المسلمين من لا يتفطن، ولا يحذر من هؤلاء المنافقين، وما يلقونه، ويطرحونه؛ فيجلس فيقبل منهم، هذا هو المعنى الأقرب، والمعنى الثاني غير ممتنع، يعني من قال من أهل العلم كابن القيم - رحمه الله -: لو ناس بهذه المثابة يسمعون لهم فهم منهم، لكن قد لا يكون منافقاً، قد ينقل لهم الحديث ثقة بهم، وهو لا يعلم بنفاقهم، باعتبار منزلتهم، ومكانتهم من ناحية التعصب القبلي، أو غير ذلك، يمكن أن يوجد هؤلاء، ولذلك فإن النبي ﷺ لم يقتل المنافقين، ولم يقتل عبد الله بن أبيّ، ولما قام النبي ﷺ على المنبر في قصة الإفك وقال: من يعذرني برجل قد بلغ أذاه أهلي أو في أهلي... فقام أسعد بن زرارة من الأوس، وقال: يا رسول الله مرنا، إن كان منا معشر الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بأمرك، فقام سعد بن عبادة وقال: "كذبت والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله"! وقام رجل آخر يرد عليه قال: "بل كذبت أنت، وأنت منافق تدافع عن المنافقين"، هؤلاء ناس ليسوا من المنافقين، ولا من ضعفاء الإيمان، هذا سعد بن عبادة سيد الخزرج، وهذا أسعد بن زرارة، وجاء في بعض الروايات أن الذي قام سعد بن معاذ، لكن سعد بن معاذ قد لا يكون دقيقاً أن يقال أنه الذي قام، فهؤلاء كبار سواء كان سعد بن معاذ، أو أسعد بن زرارة، وأسعد بن زرارة هو الذي استقبل مصعب بن عمير قبل هجرة المسلمين إلى للمدينة، وهو الذي كان بمنزله القيم، أو العريف، أو الأمير على من آمن في البداية، فإذا كان هذا يقع بين هؤلاء الكبار الثقات؛ فكيف بالضعفاء، ضعفاء الإيمان، ومن كان إيمانه مدخولاً! وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ - والله أعلم -.

"ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فأخبر بأنه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا، ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام: 28]، وقال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [سورة الأنفال:23]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [سورة النساء:66-68] والآيات في هذا كثيرة".
  1. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن ، برقم (3503)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، برقم (2404).