يقول تعالى محرضا لنبيه على المنافقين: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ أي: لقد أعملوا فكرهم، وأجالوا آراءهم في كيدك، وكيد أصحابك، وخذلان دينك، وإخماده مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي ﷺ المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة، ومنافقوها".
يعني حاربه منافقوها قبل أن يظهروا النفاق حينما كانوا من المشركين، ومعلوم خبر عبد الله بن أبيّ لما جاء النبي ﷺ على حمار يعود سعد بن عبادة ، فمر على مجلس فيه المشركون، والمسلمون، فوضع عبد الله بن أبيّ - قبل أن يظهر إسلامه - وضع كمه أو طرف عمامته على أنفه، وقال: لا تغبروا علينا! فلما وقف النبي ﷺ يعظهم، ويذكرهم، ويدعوهم إلى الله قال: أيها الرجل اجلس في رحلك - يعني في مكانك، أو في بيتك -، فمن أتاك فأسمعه حديثك، ولا تغْشَنا في مجالسنا، فقام عبد الله بن رواحة ، وقال: بل يا رسول الله اغشنا في مجالسنا، وعبد الله بن أبيّ كان ذلك الوقت لم يظهر الإسلام، فحصل بين الناس شجار، وضرب بالجريد، وبالنعال، فالمقصود أنهم كانوا يقاومون إلى آخر شيء يمكنهم أن يقاوموا به، ثم بعد غزوة بدر قال لهم - قبحه الله -: هذا أمر قد تَوجَّه فادخلوا، يعني لا سبيل لمقاومته، شب، وخرج عن الطوق، فدخلوا فيه ظاهراً، وبدءوا يكيدون له إلى آخر نفس.
هؤلاء المنافقون طول الفترة التي بقوا فيها لم يكن أحد منهم مقرباً إلى النبي ﷺ في يوم من الأيام إطلاقاً، ولم يكن أحد منهم يذكر له بلاء قط في يوم من الأيام أبداً، ولا مقام ينصر فيه دين الله ، فعبد الله بن أبي كان يقف قبل صلاة الجمعة، ويمسك المنبر، ويجلس يتكلم قبل وقوف النبي ﷺ على المنبر، ويقول: أيها الناس لقد ساق الله إليكم هذا النبي، وكذا فآمنوا به، واتبعوه، فلما وقع منه ما وقع حينما قال: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8] لما جاء ليقوم سحبوه، وأخرجوه من المسجد، وطردوه، ودفعوه بالباب، فلقيه بعض الصحابة فقال: كأنما قلت هجراً، يعني أنا ماذا قلت: أنا أمرت بطاعته!! غضبان، فمواقفهم كلها تدل على النفاق، حتى أسماؤهم غلط! يعني هذا الذي اسمه ربما صالح وآخره اسمه "أُبيّ"، والباقون كلهم كالجد بن قيس أسماء موحشة ينقبض منها القلب، يعني انظر إلى أسماء هؤلاء الجد بن قيس، ومخشي بن حمير، وإن كان مخشي بن حمير ذكر أنه تاب آخر الأمر، وهو من الناس الذين نزلت فيهم آيات براءة، فأسماؤهم موحشة إذا سمعتها ينقبض القلب منها بخلاف أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب الأسماء التي إذا سمعها المؤمن انفتح لها قلبه، وهذه الجد بن قيس، وابن نبتل، وغيرها من الأسماء، الحمر المستنفرة، فلا يأتِ من يقول: ما دام فيه منافقون ما الذي يعرفنا أن الصحابة هؤلاء الذي رووا ما يكونون من المنافقين؟
والجواب أن المنافق يدخل ويخرج، ويقول: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ [سورة محمد:16] لا يفقه، ولا يحفظ، ولا ترتفع همته لشيء، وإذا حضر المجلس نام هو فقط، فشغلُه جالس يطالع في الموجودين، ليس له شغل إلا هذا، لا يحفظ آية، ولا يحفظ حديثاً، ولا ينتفع بشيء، ليس أهل لذلك، ولذلك ما يمكن لهذا أن يروي حديثاً، وحتى لو رواه لا يقبلون منه، فالصادق يعرف من كلامه وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [سورة محمد:30] ويعرف من قسمات وجهه، ويعرف من حاله، ومسلكه، وطريقته، هذا أمر لا يخفى عند الناس، وقد ذكر بعض أهل العلم مثل: ابن الجوزي كلاماً طويلاً في هذه القضية أن الناس يعرفون الصادق ولو لم يتكلم، ويجدون محبةً له، ولو لم يطلعوا على حقيقة عمله في السر، يجدون طمأنينة إليه، ومحبة، ويكون له من الذكر الجميل حتى في أشياء لربما لم يعملها، أو في أمور يعملها في السر فيظهرها الله ، والكاذب تنقبض منه القلوب، وينقبض منه الناس، ويكرهونه، ويجعل الله له من النفرة في قلوب المؤمنين ما لا يخفى، فهؤلاء المنافقون الله حافظ دينه، لا يمكن أن يكون هؤلاء حملة للدين، ولذلك لا تراهم أبداً في موقف واحد مشرف في الجهاد، أو في غيره، حتى لو كان يلتبس على الناس، يعني الرجل الذي قال فيه الصحابة: فلان أبلى اليوم، وفلان كذا فقال النبي ﷺ: هو في النار[1]، فلا يقال: الله ختم له بالسعادة، فلان جيد، فلان شهيد، لا، هو في النار، فيذهب، ويتابع، ثم يصاب بالجراحة الشديدة، ويتكئ على ذباب سيفه، ثم يقتل نفسه، ويقول: كنت أقاتل حمية لقومي!! لاحظ! كنت أقاتل حمية لقومي! تبين أمره للنبي ﷺ حينما قيل: فلان كذا، قال: هو في النار، حتى الذي غلّ الشملة، بينما كثيراً ما كان ﷺ يقول: دخلت أنا، وأبو بكر، وعمر، وخرجت أنا، وأبو بكر، وعمر، ويرسل معاذاً إلى اليمن، ويقول عن عمر : لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً آخر[2]، والأشياء التي جاءت في مناقب الصحابة، ومحبة النبي ﷺ لهم كما في قوله: إنك لست منهم، إنك تحب الله ورسوله أو كما قال النبي ﷺ لثابت بن قيس بن شماس لما كان يرفع صوته، خشي أن يحبط عمله: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [سورة التوبة:117]، وبعدها وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ [سورة التوبة:118] هكذا تأتي الآيات، فهذا أمر لا يخفى أبداً، ولا يمكن أن يأتي نقل الدين، والرواية، والعلم وكذا؛ عن طريق هؤلاء المنافقين إطلاقاً، فالواحد منهم يبقى ليأكل فقط هذا غاية همه، هو لأجل ماذا ينافق، ويتقلب، وكل يوم طالع له كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14] "أتوها" يعني يعطون الكفار الغزاة الذين دخلوا المدينة مباشرة، هم يعلنون الردة، فهؤلاء لا يكونون من حملة الرسالة، ولا من القادة، ولذلك ما تجد في أي مقام، ولا حتى قائد سرية؛ من المنافقين.
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم (112).
- رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي ، برقم (3480).