الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ۝ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [سورة التوبة:56-57].
يخبر الله تعالى نبيه ﷺ عن جزعهم، وفزعهم، وفَرَقهم، وهلعهم؛ أنهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يمينًا مؤكدة، وَمَا هُمْ مِنْكُمْ أي: في نفس الأمر، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي: فهو الذي حملهم على الحلف، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي: حصناً يتحصنون به، وحرزاً يحترزون به، أَوْ مَغَارَاتٍ وهي التي في الجبال، أَوْ مُدَّخَلا وهو السَّرَب في الأرض، والنفَق، قال ذلك في الثلاثة ابنُ عباس، ومجاهد، وقتادة، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون في ذهابهم عنكم لأنهم إنما يخالطونكم كرهاً لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في هم، وحزن، وغَمٍّ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ، ونصر، ورفعة؛ فلهذا كلما سُرّ المؤمنون ساءهم ذلك، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين؛ ولهذا قال: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ".


الفَرَق هو شدة الخوف، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ فحلفهم هذا كما أخبر الله في مواضع من كتابه إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ [سورة المنافقون:1]، فهذه الشهادة بمنزلة الحلف، واتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المنافقون:2]، حتى في يوم القيامة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18]، استمرؤوا هذا فرأوا أن هذا الحلف يخلصهم من كثير من الحرج، والمواقف في الدنيا، والإدانة، فظنوا أن ذلك ينفعهم في الآخرة، فيحلفون إذا بعثهم الله من قبورهم، وهكذا أيضاً فَرَقُهم وصفه الله في مواضع كقوله - تبارك وتعالى -: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ [سورة الحشر:14] هذه في المنافقين، والكلام كله عن المنافقين تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة المجادلة:14]، هي في المنافقين، وكبيرهم عبد الله بن أُبيّ لما تولوا اليهود من بني النظير، وقال لهم: لا تخرجوا من دياركم، وسنقف معكم، ونقاتل معكم إن قتلتم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فكذبهم الله في هذا كله قال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ [سورة الحشر:12]، لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ [سورة الحشر:13] يعني أشد مرهوبية، كذلك وصفهم بحال الخوف، والشدة، فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19] ويَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4] إذا نزلت آيات إذا نادى المنادي للجهاد ظنوا أن هذه الدعوة والصيحة أنهم هم مستهدفون بها؛ لشدة خوفهم، وفَرَقهم؛ كحال المنهزم الذي صوره الشاعر بقوله:

ما زلتَ تحسب كلَّ شيء بعدهم خيلاً تكرّ عليهم ورجالاً

فهو يخاف، ويتوقع الشر، ويتوجس لما فيه من الريب، فالإنسان إذا كان صاحب ريبة فهنا وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، ثم صور شدة الحال التي هم فيها لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ يقول: لو وجدوا مكاناً يستعصمون به، وينحازون إليه؛ لذهبوا وما بقوا عندكم وقتاً يذكر لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ، قال: يسرعون، هذا من جمح الفرس إذا لم يردّه اللجام؛ ينطلق لا يلوي على شيء، يقول: لو يجدون مجالاً ما بقوا طرفة عين عندكم، فهم يعيشون في توجس، وخوف رهيب، ولكنهم مضطرون إلى هذا البقاء.