يقول تعالى: وَمِنْهمْ أي ومن المنافقين، مَنْ يَلْمِزُكَ أي: يعيب عليك فِي قَسْم الصَّدَقَاتِ إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتهمون المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ أي: يغضبون لأنفسهم".
بمعنى لا ينكرون للدين؛ يعني إنكارهم ليس غيرة لله ، وطلباً للحق، والعدل، يعني حينما يقوم رجل ويقول: اعدل فإنك لم تعدل، فيقول: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله مثل هذه المقامات التي يقولها بعض الناس وهو لا يريد بها وجه الله ، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن من الناس من يقوم في الظاهر بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فينكر على أهل الظلم ظلمهم، وأهل البغي والفساد فسادهم، فإذا أعطى شيئاً من الدنيا من ولاية، أو أعطي من مال، أو غير ذلك؛ صار شريكاً لهم، وإذا تأملت الكثير من النفوس وجدت ذلك ظاهراً فيها لأنك تجد عند هذا الإنسان أصلاً من منابت هذا الشر، ومن التخلق به بالنسبة لما تحت يده ما يدل على أنه لو كانت له قدرة، وتمكن؛ لفعل ما هو أعظم مما ينتقده ويعيبه على غيره، انظر إلى حاله، وسلوكه؛ إذا كان معلماً مع طلابه، انظر إلى حاله وسلوكه إذا كان مديراً مع من تحت يده، انظر إلى حاله في الأموال، وكيف تورعه فيها، وإذا تمكن أن يأخذ أرضاً، أو مكسباً من المكاسب بأي طريقة من الطرق؛ فقد لا يتوانى، ولا يتورع، وهكذا تجد أحياناً الإنسان يعيب أشياء، وإذا نظرت إلى حاله من الظلم، ومن بحسب ما عنده بحسب ما يمكنه، لكن لو اتسعت قدرته لفعل أعظم مما ينتقد، وهذا كثير للأسف، فقد يقوم في الظاهر على أنها غيرة لله ، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وقد يخطب خطبة قوية، ويتكلم، وإذا نظرت إلى حاله تقول: هذا لو كان له من الأمر شيء للقي الناسُ منه أضعافَ ما ينتقد، تأمل في أحوال الخلق تجد هذا، فشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: من الناس من يكون بهذه المثابة لا يكون أمره لله، فإذا أعطي، أو قُرِّب، أو ولي؛ فإنه يتحول إلى شريك لهذا الذي كان يعيبه، وينتقده، وينكر عليه، ويحتسب، والله المستعان.
وهذا الذي ذكره قتادة شبيه بما رواه الشيخان عن أبي سعيد في قصة ذي الخُوَيصرة - واسمه حُرْقوص - لما اعترض على النبي ﷺ حين قسم غنائم حنين، فقال له: اعدل فإنك لم تعدل، فقال: لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل، ثم قال رسول الله ﷺ وقد رآه مقفياً؛ إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مُرُوق السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء"[3]، وذكر بقية الحديث".
أسماء المنافقين موحشة مثل هذا الاسم "حرقوص"، وهذه الرواية التي ذكرها عن قتادة: وذُكر لنا أن رجلاً من أهل البادية ... إلى آخره مثل هذا الإسناد لا يصح، ثم ذكر قصة ذي الخويصرة، وهما واقعتان، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: " ذَكَرَ كثيرٌ من أهلِ العلمِ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في حرقوصَ بنِ زهيرٍ ذِي الخويصرةِ التميميِّ رأسِ المنافقينَ، قالوا: وَجَدَ النبيَّ ﷺ يُقَسِّمُ مالاً فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ اعْدِلْ؛ فإنك لَمْ تَعْدِلْ - قَبَّحَهُ اللَّهُ -، وَقِصَّةُ ذِي الخويصرةِ معروفةٌ ثابتةٌ في الصحيحِ، ولكن الذي يظهرُ أن هذه الآيةَ ليست نازلةً فيه، وإن زَعَمَ كثيرٌ من كبراءِ المفسرينَ أنها نازلةٌ في ذِي الخويصرةِ، وإنما قُلْنَا إن الأظهرَ أنها نازلةٌ في غيرِه أن المعروفَ أن القسمةَ التي قال فيها حرقوصُ بنُ زهيرٍ التميميُّ المعروفُ بذي الخويصرةِ أصلُ الخوارجِ - قَبَّحَهُ وَقَبَّحَهُمُ اللَّهُ - أن ذلك في قَسْمِ النبيِّ لغنائمِ حنينٍ، قال ذلك فيه، وهذه الآيةُ يُصَرِّحُ اللَّهُ فيها بأنهم لَمَزُوهُ في قسْمِ الصدقاتِ وهي الزكواتُ، والصدقاتُ غير الغنائم، فالأظهرُ أن الأصوبَ فيها هو ما قاله ابنُ جريجٍ - رحمه الله - وغيرُه أنها نَزَلَتْ في رجلٍ من الأنصارِ من المنافقينَ؛ حَضَرَ النبيَّ ﷺ يُقَسِّمُ مالاً من الصدقاتِ فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ اعْدِلْ فإنك لم تَعْدِلْ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ فيه"[4].
وفي حاشية العذب النمير تعليقاً على كلام الشيخ الشنقيطي - رحمه الله -: " الذي يظهر أنهما واقعتان متشابهتان:
الأولى: في قَسْم غنائم حنين، وذلك في الجعرانة حيث قال له رجل: "يا محمد اعدل" كما في حديث جابر ، عند البخاري (3138) ومسلم (1063).
الثانية: في قَسْمِ ذُهيبة بعث بها علي من اليمن، والنبيُّ ﷺ في المدينة، وقد قسمها رسول الله ﷺ بين أربعة نفر، فقال رجل: يا رسول الله اتق الله ... الحديث، كما في حديث أبي سعيد الذي تقدم تخريجه قريبًا، وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري ومسلم التصريح باسمه وهو ذو الخويصرة التميمي، وكذا في رواية ابن جرير (14/303) والواحدي في أسباب النزول ص249، وفيهما أيضًا التصريح بأن هذه الحادثة كانت سبب نزول الآية.
قال الحافظ في الفتح (8/ 68): "تنبيه: هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين، ووَهمَ من خلطها بها" اهـ.
وقال في (12/ 293): "وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد" اهـ".
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (5562)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8155)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [سورة المعارج:4]، وقوله - جل ذكره -: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [سورة فاطر:10]، برقم (6995)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1063).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (5/581-582).