الجمعة 11 / ذو القعدة / 1446 - 09 / مايو 2025
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا ۚ هِىَ حَسْبُهُمْ ۚ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ أي: على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم، خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها مخلدين، هم والكفار، هِيَ حَسْبُهُمْ أي: كفايتهم في العذاب، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي: طردهم، وأبعدهم، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ".


فقوله - تبارك وتعالى - هنا: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ قال: أي نسوا ذكر الله، نَسُوا اللَّهَ يمكن أن يحمل هنا على ما ذكره المصنف - رحمه الله -: نسوا ذكر الله أي ذكره بالقلب، واللسان، والجوارح؛ بأنواع الذكر، وإذا حُمل على هذا المعنى فلا إشكال فيه، فمن نسي الله بقلبه بمعنى أنه لم يؤمن به، ولم يستحضر عظمته، وما يليق به، ولم يتوكل عليه، ولم يقم في قلبه من الأمور الواجبة في الإيمان؛ فضلاً عن الأمور المستحبة، فالخوف، والرجاء، والمحبة، والتوكل؛ منه قدر واجب، فهؤلاء نسوا الله بقلوبهم، فلم يراقبوه، ولم يخافوه، ولم يؤمنوا به، ولم يتوكلوا عليه فَنَسِيَهُمْ وكذلك أيضاً نسوه بجوارحهم فلم يعبدوه، ونسوه بألسنتهم فلم يذكروه، فهذا المعنى بهذا الاعتبار لا إشكال فيه إذا فهم من هذه العبارة هذا العموم، وإلا فإنه يمكن أن يعبر عن هذا فيقال: نَسُوا اللَّهَ أي: تركوا الإيمان به، وأعرضوا عن عبادته بالقلب، واللسان، والجوارح بهذه الأمور، والمقصود بالنسيان هنا الترك؛ لأن النسيان في كلام العرب يأتي لمعنيين:
المعنى الأول: ذهاب المعلوم من الذهن، قد يكون الإنسان عَلِم شيئاً أو حفِظه ثم بعد ذلك ينساه

ذهابُ ما عُلِمَ قُل نسيانُ والعلمُ في السهوِ له اكتنانُ

فالسهو يكون الشيء موجوداً في ذهن الإنسان لكنه يصيبه شيء من الذهول عنه فقط، وإلا فهو متيقَّن عنده تقول: سهوت عن هذا الشيء، بخلاف نسيه إذ نسيه انمحى من الذهن، فالنسيان يأتي بمعنى الترك، ويأتي بمعنى ذهاب المعلوم من الذهن، فهنا المقصود بالنسيان نَسُوا اللَّهَ يعني الترك؛ تركوا الإيمان، تركوا العمل بطاعته، هذا أيضاً كقوله - تبارك وتعالى - في سورة الحشر: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وقوله هنا أيضاً: فَنَسِيَهُمْ قال: أي عاملهم معاملة مَن نسيهم، بمعنى تركهم، ويمكن أن يقال هنا مباشرة: إن النسيان المضاف إلى الله - تبارك وتعالى - دائماً هو الترك، هو بمعنى الترك - المعنى الآخر للنسيان -، وليس هذا من قبيل المجاز، وإنما هو حقيقة، والله - تبارك وتعالى - لا يضل، ولا ينسى لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طه:52]، فالله منزه عن النسيان الذي هو ذهاب المعلوم، وهو سبحانه: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الطلاق:12]، فيكون المعنى هنا فَنَسِيَهُمْ أي تركهم فلم يشملهم برحمته، ولم يدخلهم جنته، وتركهم في العذاب يخلدون لا يخرجون منه أبداً كما قال : فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا [سورة الأعراف:51]، ينساهم في النار يعني يتركهم في النار لا يخرجون منها جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26]، والفاء هنا تدل على التعليل نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ وهي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإيماء، والتنبيه، بعضهم يقول: إن هذا من باب المشاكلة نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ لا حاجة لهذه المشاكلة، المشاكلة عندهم نوع من المجاز عند كثير من أهل البلاغة، ولا حاجة لهذا، وليس من باب المشاكلة، والنسيان بالمعنى الذي ذكرته لا إشكال في إضافته إلى الله - تبارك وتعالى -، وهكذا قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فلاحِظ المؤكدات هنا "إنّ" بمنزلة إعادة الجملة مرتين إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الفصل بضمير الفصل بين طرفي الكلام يفيد تقوية النسبة.
نسبة الصفة للموصوف أو الموصوف للصفة ودخول "ال" على "الفاسقين" هُمُ الْفَاسِقُونَ يشعر بأن هؤلاء قد استحقوا من هذه الصفة الأكملَ منها كأنه لا فاسق إلا هؤلاء، وكل ما مر عليك في القرآن بهذه الطريقة وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254] وأشباه ذلك فهو من هذا الباب - والله أعلم -.