يقول تعالى: أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا، والآخرة؛ كما أصاب مَن قبلهم، وقوله: بِخَلاقِهِمْ قال الحسن البصري: بدينهم، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أي: في الكذب، والباطل".
هنا كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً باعتبار أن الخطاب هنا للمنافقين، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فهنا يقول: العمل نفس العمل، وما ذكره من كونهم أشد قوة، وأكثر أموالاً؛ وأولاداً؛ هذا وصف غير مؤثر بالنسبة للعقوبة، يعني السبب الجالب للعقوبة في الطائفتين: المتقدمة، ومن ضاهاها (أي الطائفة المتأخرة) هو الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لكن حينما أقصد أنه وصف غير مؤثر أي في باب القياس في أصول الفقه، أما من ناحية المعنى فإذا كان أولئك مع كثرة أموالهم، وقوتهم، ومع ذلك حلت بهم نقمة الله ، وبأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين؛ فأهلك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وفرعون، والمؤتفكات، كل هؤلاء؛ فإن أخذه لهؤلاء أيضاً يكون أمراً متحققاً، أو فحينما نقول وصف غير مؤثر أي في باب العلة في القيا، أوصاف غير مؤثرة يعني في تحقق المعنى، أو في وقوع الحكم، ومعنى وصف غير مؤثر من الناحية التفسيرية من ناحية العلة التي أوجبت وقوع هذا، هل هم لأنهم أكثر أموالاً، وأولاداً؟ أو لأنهم استمتعوا بخلاقهم، وخاضوا بالباطل؟ هذا هو السبب فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يقول هنا: قال الحسن البصري: "أي بدينهم"، الخلاق أصله بمعنى النصيب، والحظ كأنه يعني الشيء الذي خلق للإنسان فصار خلاقاً، والنصيب كأنه الشيء الذي نصب له، والقدر كأنه الشيء الذي قدر له، فخلاقه أي حظه، ونصيبه، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يعني استمتعوا بحظهم من الدنيا، وتمتعوا بألوان اللذات، وكانت لذاتهم أكمل من لذات هؤلاء المنافقين لأنهم أكثر أموالاً، وأولاداً، والأموال، والأولاد زينة الحياة الدنيا، فهذا معنى الاستمتاع بالخلاق استمتعوا بنصيبهم، وابن جرير - رحمه الله - يضيف إلى نصيبهم من اللذات، والدنيا، يضيف أيضا الاستمتاع بنصيبهم من دينهم الباطل، لكن يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إن هذه الآية تضمنت أمرين من معافسة الباطل، ومواقعته التي أوجبت العذاب، وهما: الولوج، والإغراق في الشهوات، والأمر الثاني الخوض في الشبهات بالباطل فقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يعني في باب الشهوات تمتعوا بألوان اللذات، وعافسوا ما عافسوا من حظوظ النفوس، ومطلوباتها، قال هنا: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ حذو القذّة بالقذّة، شابهتموهم في هذا وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا وهنا هذا باب الشبهات وابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: أي في الكذب، والباطل وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا بالتكذيب، والكفر، والاستهزاء بالرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وبالكتاب الذي أنزله عليكم، أو في أمر محمد ﷺ خضتم، وقلتم كذاب، وساحر وما شابه ذلك وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فيكون الأول في الشهوات، والثاني في الشبهات، فيكونوا جمعوا بين طرفي الضلال الشهوة، والشبهة، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، وشرحه في عدد من كتبه كإغاثة اللهفان، وإعلام الموقعين.
بالنسبة للحبوط قال هنا بطلت، وأصله من حبطت الدابة يعني أكلت حتى بشمت، ثم بعد ذلك ماتت كما قال النبي ﷺ: وإنّ كلَّ ما أنبتَ الربيعُ يقتلُ حَبَطاً أو يُلِّمُّ[1] يقارب الدابة يعني وهي تأكل كثيراً، فينتفخ بطنها، ولا تستطيع أن تصرف هذا الذي أكلته، فتموت.
قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هؤلاء بنو إسرائيل، شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحر ضَبٍّ لدخلتموه[2]".
قوله: بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده... يعني شبهنا بهم بالحديث، وإلا فالآية أعم من بني إسرائيل، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا كما جاء في الآية التي بعدها من تسمية هؤلاء الأقوام من قوم نوح، ومن بعدهم.
تكلم شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم فذكر نحو عشرة أوجه أو عشر صور من مشابهة هذه الأمة لبني إسرائيل في موضع واحد ذكرها، وفي أواخر الكتاب ذكر صوراً أخرى.
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6063)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم (1052).
- رواه البزار في مسنده، برقم (8411)، وأصله في مسلم كما سيأتي في الحاشية التالية.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8340)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، فمن رجال مسلم"، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سَنن اليهود والنصارى، برقم (2669).