الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُوا۟ وَهُمْ فَٰسِقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [سورة التوبة:84].
أمر الله - تعالى - رسوله ﷺ أن يَبْرَأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له، أو يدعو له؛ لأنهم كفروا بالله، ورسوله، وماتوا عليه، وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين كما روى البخاري عن ابن عمر - ا - قال: لما توفي عبد الله -ىهو ابن أبيّ - جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله ﷺ، فسأله أن يعطيه قميصه يُكَفِّن فيه أباه؛ فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسولُ الله ﷺ ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله ﷺ: إنما خيرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه رسولُ الله ﷺ، فأنزل الله آية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[1].
وقد رُوي من حديث عمرَ بن الخطاب نفسه أيضاً بنحو من هذا، وفيه: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فُرغ منه - قال: فَعَجَبٌ لي وجراءتي على رسول الله ﷺ - والله ورسوله أعلم -، قال: فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ، فما صلى رسول الله ﷺ بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله ".
وهكذا رواه الترمذي في التفسير، وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري[2]".


فقوله - تبارك وتعالى -: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ يقول الحافظ - رحمه الله -: أمر الله - تعالى - رسوله ﷺ أن يَبْرَأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له، أو يدعو له وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ للدعاء، والاستغفار، ومن أهل العلم من فسره بغير هذا، وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أي: لا تتولَّ دفنه، ولا تباشر ذلك، ولا تقبره، والله نهاه عن القيام على قبره، والقيام على قبره يشمل القيام على القبر للدعاء له، والاستغفار، وتولي الدفن، وهو منهي عن الصلاة عليه، وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ويدخل ضمناً في النهي عن الصلاة عليه أيضاً المعنى اللغوي للصلاة وهو الدعاء؛ لأن صلاة الجنازة إنما شرعت للدعاء للميت كما هو معلوم، فـ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ صلاة الجنازة، وهذا يدل على أنه لا يدعو له، وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ لا تتولَّ دفنه، وتقبره، أو تقف على قبره للدعاء له، فكل هذه المعاني - والله أعلم - تضمنتها الآية، وابن جرير - رحمه الله - اختار من المعنى وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أي لا تتولَّ دفنه، بخلاف قول ابن كثير هنا، ويمكن الجمع بين هذه الأقاويل - والله أعلم -، ثم أورد الحديث في سبب النزول في صلاة النبي ﷺ على عبد الله بن أبيّ قال كما روى البخاري عن ابن عمر والحديث مخرج في الصحيحين، وقوله في آخر الآية: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هذا إما للتعليل يعني لأنهم كفروا، فكل من كفر يعني الكافر والمنافق لا يقوم الإنسان على قبره، ولا يتولى دفنه، ولا يدعو له، ولا يصلي عليه، لا يدعو له بالرحمة، والمغفرة؛ لكن من الممكن أن يدعو له بالهداية بحياته قال: وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، والفسق هو مطلق الخروج: الخروج عن طاعة الله ، ومنه ما هو خروج أكبر، ومنه ما هو خروج أصغر، فهنا قال: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال في تفسير هذه الجزئية قبل الحديث: لأنهم كفروا بالله، ورسوله، وماتوا عليه يعني أنهم كفروا بالله، ورسوله، وماتوا وهم فاسقون، يعني ماتوا على الكفر هذا معنى كلام ابن كثير، وهو معنى ظاهر، بمعنى أنه ختم لهم بهذا، وبعض أهل العلم يقول: إنه وصفهم بالفسق - يعني بعد الكفر - باعتبار أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، يعني أن دينه يأمره بما يجمل، وما يليق فيما يتعلق بالوفاء بالعهد، والصدق في الحديث؛ فيكون هذا الكافر متديناً، ويكون دينه يمنعه من هذه الأشياء، ويلتزم بها، وهم ليسوا على جادة، ولا خلق، ولا دين يتقيدون به يمنعهم من هذه الأشياء؛ ولو كان باطلاً، ففسره بعضهم وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ فسره بالفسق في المعنى المشهور عرفاً، تقول: فلان فاسق فيكون ذلك سبباً لذهاب عدالته، ورد شهادته، وما أشبه ذلك؛ لأنه يأتي من الذنوب إما صغائر الخسة، أو يكثر من الذنوب والمعاصي حتى يغلب ذلك عليه، ويعرف به، هكذا فسره بعضهم، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنه لا يفسر بهذا، يعني ليس معنى كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هم كفار، وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ الفسق الذي يطلق على صاحب الذنوب، والمعاصي، لا، وإنما هنا الفسق الأكبر يعني وَمَاتُوا على هذا الكفر؛ هذا المعنى، ما هو مات فاسق بمعنى أنه مقارف لإخلاف الوعد، ونقض العهد، والتلون، وما يفعله المنافقون من كل رزية، ورذيلة، لا يرعوون عن شيء في سبيل حفظ أموالهم، وحقن دمائهم، فيحلفون على الكذب - نسأل الله العافية -، ليس هذا المراد بقوله: وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، وانظروا إلى المثال الذي يذكره الأصوليون دائماً إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6] حمله كثير منهم على الفسق الذي هو الفسق الأصغر، فَاسِقٌ بِنَبَأٍ يعني الفاسق الذي يكذب، ويخلف الوعد، ويحلف على الكذب، ولا يتورع عما حرم الله ، قالوا: فمفهوم الموافقة من باب الأولى، إن جاءكم كافر فتثبتوا، فيوردون على أنفسهم إيراداً وهو أن هذا مفهوم الموافقة الأولوي أنه من قبيل الظني؛ قالوا: لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، فيتورع من الكذب ديانة؛ لأن دينه يحرم عليه الكذب، فلهذا نتثبت إذا جاءنا بالخبر؛ لأن هذا الإيراد يجعل مفهوم الموافقة في قوله: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ أي كافر من باب أولى، لكن لا نقطع بهذا لأنه قد يكون عدلاً في دينه، ومفهوم الموافقة الأولوي منه ما هو قطعي مثل: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [سورة الإسراء:23] الضرب قطعاً من باب أولى، لكن مثلاً نهى عن التضحية بالشاة العوراء فالعمياء من باب أولى، هذا ليس قطعياً؛ لأن القصد هو أن العور لا ترى معه إلا نصف المرعى، فيكون ذلك مظنة للهزال، فالتي تكون عمياء هي لا ترى المرعى أصلاً فهي ترعى، وهي رابضة؛ يأتيها صاحبها بأفضل العلف، ولا تحتاج أن تمشي مسافات، وتبحث عن العشب ونحو هذا، فهذا مظنة السِّمن، ولهذا يقولون: إن مفهوم الموافقة هذا ظني وليس بقطعي، والواقع أن المثال الذي يذكرونه إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ لا يصلح لهذه القضية - أي مفهوم الموافقة الظني -؛ لأن الفسق يطلق على الفسق الأصغر، والفسق الأكبر إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ سواء كان كافراً، أو كان يشمل هذا وهذا، فلا يقال: الكافر من باب أولى؛ لأن الكافر أصلاً فاسق، وهذا المثال مشهور عند الأصوليين جداً، والسبب أنهم حملوا الفاسق على صاحب الذنوب، والمعاصي، وما أشبه ذلك.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4393)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر ، برقم (2400).
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3097)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1131).