يقول تعالى منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه مع القدرة عليه، ووجود السعة، والطَّوْل، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ، ورضوا لأنفسهم بالعار، والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف؛ بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أَمْنٌ كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال الله - تعالى - عنهم في الآية الأخرى: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19] أي: علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء.
وقال تعالى في الآية الأخرى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ الآية [سورة محمد:20].
وقوله: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أي: بسبب نكولهم عن الجهاد، والخروج مع الرسول في سبيل الله، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم؛ فيجتنبوه".
قوله هنا: اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ بعضهم فسره بالمنزلة، والشرف، أي الناس الذين يُنظر إليهم، ويقتدي بهم، ويمكن أن يفسر بالمعنى الآخر وهو أنه الغنى، والسعة اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ، فهم لا عذر لهم أغنياء، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ [سورة التوبة:93]، هنا قال: رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أي بسبب نكولهم عن الجهاد رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ هم جمعوا بين أمرين: الرضا بالقعود من غير عذر، وحصل لهم الطبع نتيجة لذلك فأثَرُ ذلك عدم الفقه قال: لا يفهمون ما فيه صلاح لهم، والفقه - كما هو معروف - أخص من الفهم، فالفقه هو الفهم فيما يدِق فمثل هذه الأمور: كون الإنسان يتطلب الحياة الحقيقية الكاملة في المواطن التي يظنها الآخرون أنها تكون سبباً لتلف النفس، وذهاب المال ... إلى آخره، هذا يحتاج إلى فقه، هم يظنون أن هذه مهلكة، الذهاب مع النبي ﷺ لقتال الروم، وهذه المسافات البعيدة ونحو ذلك؛ ما علموا أن هذه هي الحياة الحقيقية.