الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله - تعالى -: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي: بيّن لها ذلك، وهداها إلى ما قدر لها.

قال ابن عباس: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا بين لها الخير، والشر، وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والثوري ."

وهذا اختيار ابن جرير، فيكون هنا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا بين لها طريق الخير، وطريق الشر كما قال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10] هذا اختيار ابن جرير.

"وقال سعيد بن جبير: ألهمها الخير، والشر."

هذه العبارة مجملة يحتمل أن يكون المراد بها علمها وبين لها، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أخص من هذا، قال ابن زيد: جعل فيها فجورها، وتقواها، هذا كله كأنه تفسير على المعنى، جعل فيها بمعنى أنه إذا بين له طريق الخير، وطريق الشر يكون قد جعل ذلك فيه - والله أعلم - والإلهام يقولون: إنه يعبر به عن حدوث علم في النفس من غير اكتساب، يعني حدوث علم في النفس من غير تعليم، ولا تجربة، ولا تفكير، فهو حاصل بغير دليل، ألهمها فجورها، وتقواها فهذا بمعنى قول من قال: جعل ذلك فيها، ونحو هذا.

"وقال ابن زيد: جعل فيها فجورها، وتقواها.

وروى ابن جرير عن أبي الأسود الديلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل فيه الناس، ويتكادحون فيه، أشيء قُضي عليهم، ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم ﷺ وأُكدت عليهم الحجة؟ قلت: بل شيء قُضي عليهم، قال: فهل يكون ذلك ظلما؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً، قال: قلت له: ليس شيء إلا وهو خلقه، وملك يده، لا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون، قال: سددك الله، إنما سألت لأخبُر عقلك، إن رجلا من مُزينة - أو جهينة - أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه، ويتكادحون، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم ﷺ وأكدت به عليهم الحجة؟ قال:  بل شيء قد قضي عليهم قال: ففيم نعمل؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يُهيئه لها، وتصديق ذلك في كتاب الله: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[1] رواه أحمد، ومسلم."

ظاهر هذا الحديث أن الإلهام هنا ليس بمجرد الإرشاد، والبيان، بل ما هو أخص من هذا، وذلك بما يجبل، أو يخلق عليه العبد من الهدى، والضلال، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فالله - تبارك وتعالى - يوفق قومًا للهدى فيكونون مهتدين، ويخذل آخرين فيكونون ضالين، والقرينة الدالة على هذا أيضًا من الآيات لاحظ هنا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا سيأتي في الكلام على عود الضمير أن من أهل العلم من يقول: إنه يعود إلى الله زكاها الله، زكى نفسه، وقول من قال وهو الأشهر الذي عليه الجمهور: زكاها أي: زكى نفسه، فعلى هذا القول يكون الجزء الأول فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا يكون في الهدى، والضلال الذي هو بمعنى التوفيق والحرمان، فهذا فعل الرب - تبارك وتعالى - عن علم وحكمة، والجزء الثاني قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا على المعنى الذي ذكرنا المعنى الآخر أن الضمير يرجع إلى صاحبها إلى الإنسان قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا يكون ذلك في إثبات الاختيار، والمشيئة للعبد، وأن ذلك لا يخرج عن مشيئة الله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة التكوير:29] فمشيئة العبد لا تخرج عن مشيئة الله - تبارك وتعالى - فالعبد له مشيئة، واختيار، وفعل، والرب - تبارك وتعالى - له مشيئة، واختيار، ومشيئة العبد لا تخرج عن مشيئة الرب، فالحديث يدل على هذا المعنى فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - والله أعلم -.

  1. رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2650)، وأحمد في المسند، برقم (10088).