فسورة الضحى هي من السور النازلة بمكة، والموضوع الذي تدور عليه هذه السورة يمكن أن يُجمل بموضوع واحد وهو الألطاف، والمنن، والعطايا التي حبا الله بها نبيه ﷺ، هذا في الجملة.
قال - رحمه الله -: تفسير سورة الضحى وهي مكية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى:1-11].
روى الإمام أحمد عن جُنْدُب قال: اشتكى النبي ﷺ فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتت امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله : وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[1]رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير عن جُنْدُب هو ابن عبد الله البَجلي، ثم العَلقي به".
هذه الرواية المخرجة في الصحيحين هي سبب النزول أن النبي ﷺ انقطع عنه الوحي مدة، ثم بعد ذلك جاءت هذه المرأة من المشركين، وقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله، هذا كان سبب النزول، والوحي حصل له انقطاع، وفتور؛ بعدما نزل أوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [سورة العلق:1] ثم حصلت فترة انقطاع فأنزل الله سورة المدثر، فهي أول سورة بعد انقطاع الوحي، وهذا أيضًا فتور آخر انقطاع آخر دون الأول، وقد جاء في بعض الروايات لكنها لا تصح أن ذلك كان بسبب جرو كان في بيت رسول الله ﷺ كلب صغير قد مات تحت السرير، لكن الرواية في هذا لا تصح، وهي أن النبي ﷺ قال: ما بال جبريل لا يأتيني؟ فلما كنست الخادم أو الجارية الدار، وأهوت بالمكنسة تحت السرير؛ وجدت هذا الكلب، وأخرجته، فنزل الوحي على رسول الله ﷺ، هذا لا يصح، وجاء في بعض الروايات أن هذا بسبب قول المشركين: وَدَّعَه ربُّه، وقلاه، فأنزل الله: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى وهذه الرواية فيها ضعف، ولكن هذه التي في الصحيحين أن ذلك بسبب قول هذه المرأة فهذا هو سبب النزول.
"وفي رواية عن الأسود بن قيس: سمع جندبًا قال: أبطأ جبريل على رسول الله ﷺ، فقال المشركون: وَدَّع محمدًا ربُّه، فأنزل الله: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[2].
وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى قال العوفي عن ابن عباس: "لمّا نزل على رسول الله ﷺ القرآن أبطأ عنه جبريل أيامًا؛ فتغير بذلك، فقال المشركون: وَدَّعَه ربُّه، وقلاه، فأنزل الله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى"، وهذا قسم منه - تعالى - بالضحى، وما جعل فيه من الضياء.
الضحى هو الوقت المعروف في أول النهار بعد ارتفاع الشمس، وكما سبق عند قوله - تبارك وتعالى -: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [سورة الشمس:1] أن الضحى له أول، وأوسط، وأعلى؛ يعني الضحى الأكبر، والضحى الأوسط، وأول الضحى، فيكون ذلك من ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزوال كل هذا وقت للضحى، هنا الظاهر المتبادر أن المراد هذا الوقت، والقسم لا يكون إلا بمعظم، فهذا يدل على شرفه، وهو أجلى أوقات النهار، وأعظمها خيرًا وبركة؛ يعني أول النهار، فهو أكثر بركة من آخره، وبعضهم يقول: المراد بالضحى هنا ليس الوقت المعروف الذي يكون في أول النهار كهذا الوقت الذي نحن فيه الآن، فإنه قد ابتدأ الضحى، وإنما المقصود كل النهار، وأنه عبر عن النهار بالضحى يعني كأنه عبر عنه بجزء من أجزائه هو من أجلاها وأوضحها، عبر عن النهار بجزء هو من أوضح، وأجلى؛ أجزاء النهار، قالوا: ويدل على هذا أنه قابله بالليل وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى فالذي يقابل الليل ليس الضحى وإنما النهار، قالوا: هذه قرينة تدل على هذا المراد، وأن العرب تقول: ضَحَى فلان يعني إذا تعرض للشمس، وظهر وبدا لها، في قوله - تبارك وتعالى - لآدم ﷺ: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [سورة طه:119] يعني لا تكون ضاحيًا، وإنما يَضْحى الإنسان حينما يتعرض للشمس فيتأذى بشدتها، وحرها يعني لا تصيبك الشمس، فابن جرير - رحمه الله - اختار هذا المعنى أن المقصود بالضحى النهار بهذا الاعتبار على طريقة العرب في التعبير بمثل هذا، والأمر الثاني هو أنه قابله بالليل، وكثير من المفسرين يقولون: المراد بالضحى هو الوقت المعروف وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى فأقسم الله بالضحى، وأقسم بالليل إذا سجى، هنا قال: بالضحى وما جعل فيه من الضياء، فابن كثير حمله هنا على الوقت المعروف، فيكون بذلك قد خالف ابن جرير.
- رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4983)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1797)، وأحمد في المسند، برقم (18804)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، برقم (4950)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1797).