نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ يعني ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها.
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ يعني أخبر عنه بأنه بهذه المثابة، فاجر خاطئ.
والمقصود صاحب الناصية، وهذا الذي مشى عليه المفسرون، وبه قال ابن جرير، ومن هنا فلا حاجة لئن يقال كما يذكر بعض من يتكلم في الإعجاز: إن موضع الكذب في هذا الموضع، قال: فأضاف إليها الكذب فقال: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ من يتكلم في القرآن يجب أن يعرف معهود العرب في الخطاب، فالعرب يضيفون الشيء إلى الناصية، يقولون: هذه ناصية مباركة، ولا زال العوام عندنا إلى اليوم، يقولون - وإن كانت العبارة عليها تحفظ -: "تباركوا بالنواصي، والبقاع" يعني إذا جئت تتزوج امرأة، تشتري مملوكًا؛ ابحث عن ما كان مظنة للبركة، والبقاع: تشتري عقارًا، أرضًا، بيتًا تسكن فيه، تحرَّ المواضع التي تكون محال البركة، لكن التحفظ هنا على قولهم: "تباركوا" فإن التبارك إنما يكون لله - تبارك وتعالى -، فهو مختص به، والبركة منه وحده، ولكن الله قد جعل البركة في من شاء من خلقه من الذوات، والبقاع، والأزمنة، وما إلى ذلك.
فالمقصود أن الناس حينما يقولون هذا قديمًا وحديثًا: هذه ناصية مباركة، هل يقصدون أن البركة في الإنسان هي في هذا الموضع، في مقدم الرأس في هذا الجزء من الدماغ؟
لا يقصدون هذا، ولا يخطر لهم على بال، ولا يدور في خيال، ولا يعرفونه، وإنما يقصدون صاحب الناصية، وكذلك حينما يقولون: هذه ناصية كاذبة، هذه ناصية خاطئة، يعني هنا في قوله: نَاصِيَةٍ في صفته: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ هل يقال أيضًا: إن الموضع من الدماغ الذي يصدر منه الإجرام هو في مقدم الرأس، في هذا الموضع؟ قد أضاف إليها أمرين: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ هل هذا هو الموضع من الدماغ الذي يحتاج إلى معالجة حتى يصير الإنسان على حال مستقيمة؟ هل مصدر الكذب هنا، ومصدر الإجرام والانحراف؟ - "خاطئة" لأن الخاطئ هنا غير المخطئ، المخطئ من وقع في الخطأ من غير قصد، والخاطئ هو من وقع فيه بقصد -، فهل هذا هو الموضع الذي يكون لهذه الأمور؟
ليس هذا هو المراد، بصرف النظر عن كون العلم الحديث - إن صح ذلك - اكتشف أن موضع الكذب في هذا، نحن لا ندري عن هذا إن كان صحيحًا، فالآية لا تتحدث عنه، إن صح هذا علميًا فالآية لا تتحدث عنه، وإنما تتحدث عن معهود العرب في الخطاب: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ يعني صاحب الناصية، فهذه طريقة العرب في مخاطباتها، ولذلك كان من الأسس، من الأشياء المهمة، بل الشاطبي جعل شروط الاجتهاد ترجع إلى اثنين، وألغى جميع الشروط الأخرى وقال: ممكن أن يرجع فيها إلى أهل الاختصاص، جعل هذا يرجع إلى اثنين أساسيين، مع كثرة ما يذكره الأصوليون من شروط الاجتهاد حتى جعلوه بمنزلة الممتنع، الشاطبي قال: يكفي أن يُعتبر في ذلك أمران: الأمر الأول: اللغة، فهم اللغة، ومعهود العرب في مخاطباتها، قال: بحيث يصير الذي يكون مجتهدًا، أو يتكلم على الأحكام، ويستنبط يكون عربيًّا، أو بمنزلة العربي في فهمه، ومعرفته بلغة العرب، ووجوه المخاطبات، عربي أو بمنزلة العربي هذا الشرط الأول.
الثاني: معرفة مقاصد الشريعة، وركز على هذين، معرفة لغة العرب ووجوه المخاطبات في غاية الأهمية، ولهذا كانوا يقولون: أهلكتهم العجمة، فإذا عرف معهود العرب في مثل هذه المخاطبات فإننا نسلم من كثير من التكلفات، وحمل الكلام على غير مراد الله - تبارك وتعالى -، والله تعالى أعلم.
وهذا الوعيد لأبي جهل؛ لأنه سبب النزول، وقد صح هذا، هو لا يختص به، فمن فعل فعله فإنه أيضًا متوعد بذلك، كل من نهى عن الإيمان، عن طاعة الله ، عن طاعة رسوله ﷺ، ينهى عن الخير، يحارب الفضيلة، فهو متوعد بهذا: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ تلك الناصية الكاذبة الخاطئة، وهذا الكلام يتوجه إلى كل الأشرار من صحفيين وغيرهم، ممن يفترون الكذب، ويشوهون الحقائق، ويقلبونها ويزوّرون كثيرًا، فهذا الوعيد يلحق كل هؤلاء الذين هم بهذه المثابة.