الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
[105] من قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} الآية 235 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية 237
تاريخ النشر: ٢٩ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 3637
مرات الإستماع: 2344

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة البقرة:235].

يقول تعالى: ولا جناح عليكم أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزوجهن من غير تصريح، قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس -ا- في قوله: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها -يعرض لها بالقول بالمعروف، وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة، ونحو هذا ولا ينتصب للخطبة.

ورواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس -ا: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء هو أن يقول: إني أريد التزويج وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة.

وهكذا قال مجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وقتادة والزهري ويزيد بن قصيد ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: إنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها كما قال النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس -ا- حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها: فإذا حللتِ فآذنيني فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد -ا- مولاه فزوجها إياه.

فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

هذا الخطاب في الآية يفهم منه رفع الجناح -وهو الإثم- فيما يعرض به الإنسان من خطبة النساء اللاتي توفي عنهن أزواجهن، بأن يقول: أنا أبحث عن امرأة، أو مثلك يُرغب فيها كثيراً، ونحو ذلك من العبارات التي تشعر بأن رغبته متجهة إليها. 

وعبارات أهل العلم في التمثيل على التعريض متفاوتة، وقد يختلفون في بعض الألفاظ هل هي من قبيل التصريح أو التعريض، فمثلاً لو قال لها: لا تسبقيني بنفسك، فبعض أهل العلم عده تعريضاً، وعده آخرون تصريحاً، إلا أنه إن لم يكن من قبيل التصريح فهو قريب منه غاية القرب؛ لأن فيه إشعاراً بالحجز. 

فالمقصود أنه يجوز أن يقول لها كلاماً يشعرها برغبته فيها دون أن يصرح، ومثلها المطلقة المبتوتة -بمعنى أنها طلقت ثلاثاً- فيجوز للرجل أن يعرض لخطبتها، بخلاف المرأة التي طلقت طلاقاً رجعياً، وما زالت في عدتها بعد الطلقة أو بعد الطلقة الثانية، فلا يجوز لأحد أن يصرح بخطبتها أو يعرض بذلك؛ لأنها ما زالت في عصمة الزوج، ولا تخرج من عصمته إلا بانقضاء العدة، ولا يجوز لها أن تخرج من بيته أو يخرجها كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1].

وأما مراد ابن كثير في قوله: "فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها، ولا التعريض بها" فإنه يقصد المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً، لا المرأة التي طلقت قبل الدخول ولا عدة عليها، أو المرأة التي بتّ في طلاقها ولو كانت في عدتها كالمطلقة ثلاثاً.

وقوله: أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ أي: أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة القصص:69]، وكقوله: وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ [سورة الممتحنة:1].

والمعنى أنه يبيت في نفسه تزوجها بمجرد انقضاء العدة فهذا لا مؤاخذة فيه، وإنما المؤاخذة فيما إذا تحدث به صراحةً، والله أعلم.

ولهذا قال: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي: في أنفسكم فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الذكر باللسان، لكن من غير تصريح بالخطبة، وذلك راجع إلى قلة صبره وخشيته أن تفوته هذه المرأة، والأمر لا يستغرب فقد كان الناس قديماً يتسابقون على المرأة المفارقة لزوجها إما بطلاق أو وفاة زوج فينتظرون متى تنقضي العدة ليتقدموا لخطبتها، فهذا الذكر جائز بشرطه وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، وبعضهم يذكر في التعريض عند الولي ما سبق كأن يقول: إذا انقضت عدتها فآذني أو أخبرني أو أعلمني أو لا تسبقني بتزويجها أو نحو ذلك، فهذا من ذكرها، والله أعلم.

ولقد اختلف أهل التأويل في معنى "السر" الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به على أقوال:

فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سراً.

وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم كأن يقول لها الرجل: "لا تسبقيني بنفسك".

وقال غيرهم: إن كلمة السر في الآية تطلق على الجماع، والمعنى لا يذكر لها قدرته على الجماع وقوته على ذلك، وما قد يرغبها فيه ويدعوها إليه، وسماه سراً لأن الجماع لا يكون إلا في السر.

وقال بعضهم: هو الزنا، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، وعلل ذلك بأن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة "سرا"؛ لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطَّلع عليه فيسمى لخفائه "سرا"، ثم لا معنى لذكر السر بمعنى الخفاء وما يقابل العلانية إذا كان التصريح بالخطبة لا يجوز علانية ولا سراً، وكذا لو أنه أخبر أو عرض بخطبتها فلم يعد ذلك من قبيل السر. 

ويمكن القول إن المراد من المواعدة سراً أن لا يكون ذلك من دون علم الناس أو اطلاعهم، ثم السر يمكن أن يكون بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر إذا قصدوا به الحفظ، واحترزوا من فشوه وظهوره.

والخلاصة أن المعنى الأول -أي لا تبرموا اتفاقاً معهن لا يطلع عليه أحد- هو الأقرب، ويبعد أن يكون المراد بالمواعدة الجماع؛ لأنه ليس له أي شبهة إطلاقاً لا عقد ولا نكاح...، وكذا المعنى الذي اختاره ابن جرير؛ لأنه لو كان المراد أنه يريد أن يزني بها بحجة أنه سيتزوجها بعد انقضاء العدة لما قال: لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، ولقال: ولا تزنوا بهن، أو لا تجامعوهن لهذه الحجة.

فالخطاب في الآية مفهومه النهي عن مواعدة المعتدات سراً؛ إذ الرجل لشدة ما يوجد في نفسه أحياناً من حرصه على أمر خشية أن يفوته، فإنه قد يتأول لنفسه أو تحمله العجلة على الاتفاق مع هذه المرأة من دون سائر الناس، وهذا لا يجوز، والله أعلم.

وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي وعكرمة وأبي الضحى والضحاك والزهري ومجاهد والثوري: هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره.

وقوله: إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا....

هذا المقطع من الآية يضعف ما ذهب إليه ابن جرير من أن المراد من المواعدة سراً أن يطلب منها الزنا، إلا إذا جعل هذا الاستثناء منقطعاً، وذلك لأن الزنا ليس فيه قول معروف، وما عرف هذا القول عن أحد، والله أعلم.

قال ابن عباس -ا- ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض، كقوله: إني فيك لراغب، ونحو ذلك.

وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة: ما معنى قوله: إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا، قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها، يعني لا تزوجها حتى تعلمني، رواه ابن أبي حاتم.

هذه العبارات في الحقيقة قريبة من التصريح ولقد ذكرها العلماء من باب التمثيل ليس غير، وبعضهم أدرج ما ليس بتصريح في حقيقته في التعريض وإن كان قريباً من التصريح، ومثال التصريح بالخطبة أن يقول لها: أنا أتقدم لخطبتك...

وقوله: وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة.

هذا القول قال به أيضاً جمع من أهل اللغة كالنحاس، ولعل علة النهي عن العزم مع أن المحظور هو إيقاع العقد في فترة العدة هو من باب المبالغة، وإذا ورد النهي عن التصريح بالخطبة في عدة المطلقة طلاقاً رجعياً فما بالك بالعزم الذي هو أبلغ من مجرد الخطبة. 

وقال بعضهم: العزم والعقد شيء واحد، وهذا الكلام بناء على تعريف العزم بأنه: عقد القلب المصمم، والمعنى: لا تعقدوا عقد النكاح في قلوبكم، ولا يفسر العقد في الآية إلا بمعناه الشرعي وهو: ما يحصل به الإيجاب والقبول بين الزوجين الذي يترتب عليه أحكام استحلال البضع ونحو ذلك.

قال ابن عباس -ا- ومجاهد والشعبي وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان والزهري وعطاء الخرساني والسدي والثوري والضحاك: حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة.

سمي الكتاب كتاباً لأنه محدود بحد، وكل محدد بأجل معلوم فهو كتاب، والعدة المحددة هي أربعة أشهر وعشرة أيام في غير ذات الحمل، وأما في الحامل فالعدة بوضع الحمل، ولهذا قال الله : إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103] أي: مكتوباً محدود الأوقات مقدراً.

وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة.

وقوله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.

لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:236] أباح -تبارك وتعالى- طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها.

قال ابن عباس -ا- وطاوس وإبراهيم والحسن البصري: المس: النكاح.

استعمال المس بمعنى الوطء معروف في كلام العرب، وقد يأتي بمعنى المباشرة واللمس المجرد، تقول: هذا لم تمسه الأيدي، لكنه إذا قيل للمرأة فقد يراد به الوطء، بل الوطء داخل فيه قطعاً ولا شك، ولكن هل تنزل الخلوة منزلة الوطء؟ بمعنى إذا سمى للمرأة صداقاً ثم أرخى لها ستراً وخلا بها ثم طلقها دون مساس، فهل ذلك ينزل منزلة الوطء؟

معلوم أن الرجل إذا طلق امرأته بعد ما سمى لها صداقاً وإن لم يدخل بها فإنها تستحق نصف المهر، وأما إذا أرخى لها ستراً وكشف لها وجهاً فجمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الخلوة بها ولو لم يطأها تنزل منزلة الوطء فتستحق المهر كله.

وقال بعضهم: إنها لا تستحق إلا نصف المهر، وحملوا المساس في الآية على الظاهر وهو الجماع، والله أعلم.

بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها، ولهذا أمر –تعالى- بإمتاعها، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ [سورة البقرة:236].

التفويض نوعان:

مفوضة البضع: وهي المرأة التي لم يحدد لها مهر، يقال: امرأة مفوضة على بضعها.

مفوضة المهر: أن تفوض وليها في تحديد مهرها.

قوله سبحانه: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ عند الجمهور أن هذه الآية المقصود بها صنف واحد، وهي من طلقت قبل الدخول بها واجتمع فيها هذا الوصفان مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي: صداقاً، فإنها تستحق المتعة بالإجماع جبراً لخاطرها، ويبقى الخلاف في الأنواع الأخرى هل تجب المتعة لكل مطلقة كما في قوله -تبارك وتعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:241] أم لا؟ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.

وبالنسبة لابن جرير -رحمه الله- فيرى أن الآية جاءت لتقرر حكمين بالنسبة للنساء غير المدخول بهن، الأول: المرأة التي سمى لها صداقاً فهذه يجوز للرجل أن يطلقها، وتعطى نصف الصداق المسمى، الثاني: المرأة التي لم يسم لها صداقاً فيجوز له أن يطلق، ولا تستحق مهراً، وإنما تعطى شيئاً لجبر خاطرها، وهو المتعة، والله أعلم.

وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسِيد -ا- أنهما قالا: تزوج رسول الله ﷺ أميمة بنت شراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيين[1].

لم يأت في تحديد المتعة شيء من الكتاب ولا من السنة، وثبت عن بعض أهل العلم تحديد أعلى المتعة وأدناها، ولكن هذا لا دليل عليه، وقال بعضهم: ينظر في المتعة إلى حال المرأة وما يصلح لمثلها غنىً وفقراً، لكن الله لم يربط المتعة بحال المرأة وما يصلح لها، وإنما علق المتعة بالزوج بحسب حاله من عسر ويسر وغنىً وفقر، مصداق ذلك ما ذكره الله بقوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ يعني على من وسع الله  عليه رزقه، ومن ضيق عليه رزقه بحسب استطاعته، فذلك بحسب العرف.

وقوله -تبارك وتعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ المراد بالإحسان في الآية الإحسان الواجب، ومن ذلك إعطاء المتعة لهذه المطلقة غير المدخول بها ولم يسم لها الصداق، وهذا أحسن ما يقال فيه، والله أعلم.

ومثله ما قاله الله في عموم المطلقات: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:241] فلقد فهم بعض أهل العلم أن الإمتاع لا يجب على الرجل؛ لأن الله إنما أناطه بصنف من الناس وهم المتقون، وليس كل الناس من المتقين، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن التقوى واجبة على الناس جميعاً، وقد خاطب الله  جميع الناس بها، فقال من قائل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ... [سورة النساء:1]

وأما قوله: "ثوبين رازِقِيين" أي: ثوبان أبيضان من الكتان.

وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:237]، وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى، حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثمّ واجب آخر من متعة لبيّنها، لاسيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية، والله أعلم.

وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه متى كان قد سمى لها صداقاً ثم فارقها قبل دخوله بها فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق.

المطلقة قبل الدخول وقبل تسمية الصداق، هذه تجب لها المتعة بالإجماع بنص الآية، ولكن اختلف العلماء في المرأة التي طلقت قبل الدخول وقد سمي لها الصداق هل تجب لها المتعة أم لا؟

ذهب كثير من أهل العلم أن هذه لا متعة لها وإنما تعطى فقط نصف الصداق واستدلوا بقوله سبحانه: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فذكر الله نصف المهر المسمى ولم يذكر المتعة.

 وقالت طائفة: إن المتعة واجبة على عموم المطلقات، و"أل" في المطلقات للجنس تفيد العموم، وقالوا: إن القرآن كله كنص واحد، فما ذكر في موضع فإن ذلك يغني عن تكراره في كل موضع، ولهذا يقول الله لنبيه ﷺ لما اجتمع عليه نساؤه للمطالبة بزيادة النفقة والتوسعة عليهن كما في سورة الأحزاب: فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [سورة الأحزاب:28]

والسراح وإن اختلف أهل العلم في معناه، إلا أن الأقرب أن المراد به الطلاق بقرينة ذكر المتعة معه، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ لأن الطلاق لا أذية معه، وبهذا الاعتبار لو وقع عليهن الطلاق فإنه يكون بعد الدخول، ورغم ذلك فقد نصت الآية على فرض متعة لهن، وهذا القول ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله.

والقائلون بالاستحباب، قالوا: إن الله لم يذكر المتعة في الآية لمن سمي لها الصداق وطلقت قبل الدخول، وأيضاً قال: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:241]، فخص به المتقين دون غيرهم، وسبق الجواب على هذا الإشكال.

وقال بعضهم: إن المرأة لا تستحق المتعة إلا إن كانت مطلقة قبل الدخول ولم يسم لها الصداق، والله أعلم.

مسألة:

المرأة الحامل إذا وضعت حملها بعد أن مات زوجها، فهل يجوز لها أن تغسّله؟

جمهور العلماء على جواز غسل المرأة لزوجها بل قد حكي عليه الإجماع وحكاه ابن المنذر وابن عبد البر وابن رشد وغيرهم، وقال الإمام أحمد: ليس فيه اختلاف.

وتبقى مسألة إذا مات الزوج عن المرأة وهي حامل ثم وضعت الحمل وانقضت عدتها بذلك، هل يجوز لها أن تغسّله؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب.

الأول: أن لها أن تغسله حتى ولو انقضت عدتها بوضع الحمل، وهو مذهب المالكية والمشهور عند الحنابلة والشافعية.

قال ابن القاسم في المدونة: ولو مات عن امرأته وهي حامل، فوضعت قبل أن يغسل لم يكن بأس أن تغسله، وإن كانت عدتها قد انقضت، وليس يعتبر في هذا العدة، ولا يلتفت إليها، ولو كان ذلك للعدة ما غسل الزوج امرأته؛ لأنه ليس في عدة منها.

وقال: الدردير في الشرح الكبير: وقدم على العصبة الزوجان، يعني في التغسيل، إلى أن قال: أو إن وضعت الزوجة بعد موته فيقضي -أي الحاكم- لها به، أي بتغسيله؛ لأنه حكم ثبت بالزوجية فلا يتقيد بالعدة كالميراث.

وقال الشربيني في مغني المحتاج: تغسل المرأة زوجها وإن انقضت عدتها وتزوجت.

وقال النووي في روضة الطالبين: إلى متى تغسل زوجها؟ قال: فيه ثلاثة أوجه، أصحها أبداً.

وقال البهوتي في شرح المنتهى: ولما انقضت عدتها بوضع عقب موته ما لم تتزوج.

وقال المرداوي في الإنصاف: وكذا لو ولدت عقب موته على الصحيح من المذهب، أي: أن لها أن تغسله.

ولاحظ أن الصحيح عند الشافعية أن لها ذلك أبداً، وعند الحنابلة يقيد ذلك بعدم الزواج.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز لها أن تغسله وهو مذهب الحنفية ووجه عند الشافعية ووجه عند الحنابلة وذكره الشيخ/ محمد بن عثيمين -رحمة الله عليه- في الشرح الممتع.

قال الكاساني في بدائع الصنائع: إلا المرأة لزوجها، أي يجوز لها أن تغسله إذا لم تثبت البينونة بينهما حال الحياة ولا حدث بعد وفاته ما يوجب البينونة، وقال: لأن إباحة الغسل مستفادة بالنكاح، فتبقى ما بقي النكاح، والنكاح باق بعد الموت إلى انقطاع العدة.

وقال ابن نجيم في البحر الرائق: قال في المحيط: لو مات عنها وهي حامل فوضعت لا تغسله لانقضاء عدتها.

وقال النووي في روضة الطالبين: إلى متى تغسل زوجها؟ فيه ثلاثة أوجه، سبق ذكر الأول، قال: الثاني: ما لم تنقضِ عدتها بأن تضع حملاً عقيب موته، والثالث: ما لم تتزوج.

وحَكى هذا القول وجهاً عند الحنابلة ابن مفلح في الفروع والمرداوي في الإنصاف، قال الشيخ/ محمد بن عثيمين -رحمة الله تعالى عليه- في شرح الممتع: مسألة: لو مات زوج عن زوجته الحامل قبل أن يغسل فهل لها تغسيله؟ قال: الجواب: ليس لها ذلك؛ لأنها بانت منه حيث إنها انقضت عدتها قبل أن يغسل فصارت أجنبية منه.

فملخص المسألة: أن بعض العلماء وهو الحنفية يقيدون جواز تغسيل المرأة بالعدة، وبعضهم يقيد ذلك بالزواج، والآخرون يجيزون ذلك مطلقاً، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

  1. رواه البخاري في كتاب الطلاق – باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق برقم (4957) (5/2013).

مواد ذات صلة