الجمعة 30 / ربيع الأوّل / 1446 - 04 / أكتوبر 2024
حديث «إن بالمدينة لرجالًا..»
تاريخ النشر: ٢٢ / رجب / ١٤٢٣
التحميل: 5689
مرات الإستماع: 18000

إن بالمدينة لرجالاً

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول النووي -رحمه الله- في باب الإخلاص وإحضار النية:

وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا مع النبي ﷺ في غزاة، فقال، إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم وادياً حبسهم المرض، وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر[1]، ورواه البخاري عن أنس ، قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي ﷺ، فقال: إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا، حبسهم العذر[2].

جابر بن عبد الله من صغار أصحاب النبي ﷺ، وقد تخلف عن غزوة بدر وأحد؛ لأن أباه طلب منه أن يبقى عند أخواته، فبقي براً بأبيه، وخرج أبوه فقتل بأحد بأسياف المسلمين ، ثم بعد ذلك لم يتخلف جابر عن النبي ﷺ في غزوة واحدة، فغزا بعد أحد مع النبي ﷺ تسع عشرة غزوة.

وقد شهد بيعة العقبة، هو وأبوه وخاله، وهذا يعني أنه من السابقين الأولين للإسلام، أسلم قبل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، وقد روى كثيرًا من الأحاديث عن النبي ﷺ تبلغ أربعين وخمسمائة وألفًا، وبهذا يعتبر من المكثرين في رواية الحديث، وهو آخر من مات من أصحاب النبي ﷺ بالمدينة، وذلك في عام ثلاث وسبعين للهجرة، وكان عمره أربعاً وتسعين، وصلى عليه أبان بن عثمان -رحمه الله تعالى- وكان في ذلك الوقت أميراً على مدينة رسول الله ﷺ.

كان بعض أصحاب النبي ﷺ إذا تجهز لغزوة جاءوا إليه، بعضهم فقراء، وبعضهم من ذوي الأعذار التي لا يتمكنون معها من الخروج معه ﷺ، فلربما طلب منه هؤلاء الفقراء أن يحملهم على رواحل، فيقول لهم النبي ﷺ لا أجد ما أحملكم عليه، فيتولون ويرجعون إلى أهليهم تفيض أعينهم من الدمع، أن لا يجدوا ما ينفقون، يحزنون خزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، فتذرف أعينهم الدموع، ويبكون على عجزهم هذا، وعلى تخلفهم عن رسول الله ﷺ في هذه الغزوات، بخلاف المنافقين الذين كانوا يعتذرون من النبي ﷺ، كما قال الله يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ [التوبة:94] يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم، قل لا تعتذروا، فكانوا يتخلفون عن رسول الله ﷺ بأعذار واهية، كاذبة، كل ذلك تثاقلاً عن أمر الله -تبارك وتعالى.

فهؤلاء الذين تخلفوا بعذر في غزوة تبوك قال عنهم النبي ﷺ: إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، يعني: ما سرتم سيرًا، أو ما سرتم في مكان من الأمكنة ولا قطعتم واديًا، والوادي معروف هو مسيل الماء.

ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض، كانوا معكم في الأجر، وهذا يدل على أن المجاهد أو من خرج في سبيل الله أنه يكتب له عمله منذ أن خرج، فيكتب له مشيه وقيامه، وقعوده، وصنعه للطعام، وحركاته جميعًا تكتب له بمجرد خروجه من بيته، وليس جهاده فقط هو ما يعمله في قتال العدو إذا لقيه، وإنما هو في عمل صالح وجهاد بمجرد الخروج، ولهذا يقول النبي ﷺ: ما سرتم مسيراً ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم.

ثم بين عذرهم، وقد يسأل سائل فيقول: كيف ذلك وهم لم يخرجوا؟ فقال جواباً على هذا السؤال المتوقع: حبسهم العذر، وهذا يدل على أن الإنسان إذا هم بالعمل الصالح، وأراده وقصده لكنه عجز عنه، أو حال دون ذلك حائل أنه يكتب له هذا العمل كما لو أنه عمِلَه، وهذا أدلته كثيرة، وهذا الحديث واحد منها.

وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر، وهذا يعني أنهم يستوون معهم في الأجر والثواب عند الله تعالى.

وعند البخاري من حديث أنس: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي ﷺ فقال: إن أقواماً خلفنا بالمدينة، ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر، فهذا يدل أيها الإخوان دلالة واضحةعلى أهمية النية وأثرها في الأعمال، والله يقول عن المجاهدين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120]، فالجوع الذي يصيب المجاهد، والعطش والتعب والإرهاق كل ذلك ينال به أجرًا عند الله -تبارك وتعالى.

وأبو هريرة قد روى عن النبي ﷺ الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري في صحيحه: من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإنّ شِبَعه، ورِيَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة[3]، هذا فرس، وهو جالس في البلد، وكل حركة يتحركها هذا الفرس حينما يجول فإن تلك الخطوات تكتب لصاحبها، ولربما كان نائمًا.

وقد جاء أيضاً في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أنس مرفوعًا إلى النبي ﷺ: من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه[4]، فالمهم أن توجد عنده النية الصادقة، ولهذا فإن الإنسان يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله.

آثار عن السلف في النية

وقد قال عمرو بن الليث حينما رُئي في المنام -وكان من قادة المسلمين الكبار- قيل له: ما فعل الله بك؟، قال: أشرفت يوماً من جبل على جيوشي، فأعجبتني كثرتهم فتمنيت أني كنت حضرت مع رسول الله ﷺ فنصرته، هذا في اليقظة كان يتمنى، حينما رأى كثرة الجيوش التي معه كان يتمنى أن يكون مع رسول الله ﷺ، فيكون ناصراً له بهذه الجيوش، يقول: فشكر الله لي وغفر لي.

وقد صدق ابن المبارك -رحمه الله- حين قال: "رب عمل صغير تكثّره النية، ورب عمل كثير تصغره النية".

وقال بعض السلف: "أخلص النية في أعمالك يكفِك القليل من العمل"، هذا كله يدل على شأن النية، والله أثنى على الذين بايعوا النبي ﷺ في بيعة الرضوان، وأشار إلى أمر يتعلق بنياتهم الصحيحة، فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18].

وهذا عمر بن الخطاب يكتب إلى أبي موسى الأشعري  لمّا ولاه على البصرة، يكتب له نصيحة يقول فيها: "من خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بغير ما يعلم الله من قلبه شانه الله".

وهذا داود الطائي يقول: "رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به خيرًاوإن لم تَنْصَبْ".

وكان بعض السلف يحب أن يتعلم الناسُ أحكامَ النيات، كما قال يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل".

والشارح المعروف من شراح البخاري وهو ابن أبي جمرة، كان يقول: "وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد في تدريس أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك".

وهذه النية: عمل العبد المباح العادي -الأكل والشرب- إذا احتسبه تجعله عبادة لله ، يقول زبيد: "أحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في طعامي وشرابي".

وأوصى الإمام أحمد -رحمه الله- ابنه يقول: "يا بني انوِ الخير، فإنك ما تزال بخير ما نويت الخير".

والنبي ﷺ يقول: وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى فِي امرأتك[5].

هذا واسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (3/ 1518)، رقم: (1911).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو(3/ 1044)، رقم: (2684).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من احتبس فرسا (3/1048)، رقم: (2698).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (3/1517)، رقم: (1909).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، باب ميراث البنات، (6/2476)، رقم: (6352)، ومسلم (3/1250)، رقم: (1628).

مواد ذات صلة