الأحد 09 / ربيع الآخر / 1446 - 13 / أكتوبر 2024
حديث «بارك الله لكما في ليلتكما» (1-2)
تاريخ النشر: ٢٣ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 2564
مرات الإستماع: 5386

كان ابن لأبي طلحة يشتكي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء في باب الصبر من كتاب رياض الصالحين: حديث أنس قال: كان ابنٌ لأبي طلحة يشتكي[1].

هذا الابن أخ لأنس بن مالك راوي هذا الحديث، هو أخوه لأمه، وذلك أن أم أنس وهي أم سليم -وقد اختلف في اسمها قيل: رمثة، وقيل: سهلة، وقيل: الرميصاء، وقيل: الغميصاء، وقيل: مليكة، وغلب عليها هذه الكنية- كان لها أولاد من زوجها الأول، ومنهم أنس بن مالك ، ثم بعد ذلك تزوجت أبا طلحة الأنصاري واسمه زيد بن سهل الأنصاري، فهذا الولد الذي كان لأبي طلحة هو أخ لأنس بن مالك ، يعني: أن أنس يحكي عن أخيه وما جرى له ولزوج أمه مع أمه.

يقول: كان ابن لأبي طلحة، وهذا الابن هو الذي كان يداعبه النبي ﷺ إذا زارهم، فكان يقول له: يا أبا عُمير ما فعل النُّغَير؟[2]، فكان هذا الصغير له طائر، فذهب هذا الطائر، وكان هذا الصغير يتلهف على طائره.

وكان في هذا الولد صباحة، وجاء في بعض الروايات أنه ارتفع قليلاً، والطفل إذا مات وهو صغير في المهد فإن النفس قد لا تتعلق به كثيراً، ولكنه إذا ارتفع وصار يدرك فإن نفس الأبوين تتعلق به تعلقاً كبيراً، فإذا مرض أو مات فإن ذلك يكون أعظم وقعاً من موت الذي لا زال حديث الولادة.

فكان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، وقد جاء في بعض الروايات أنه تضعضع بسبب وَجْده من مرض هذا الولد[3].

وليس معنى قوله: يشتكي أنه كان يقول: أنا مريض، ولكن المعنى أنه أصيب بمرض، تقول: فلان شاكٍ، وفلانة شاكية، فلان يشتكي وجعاً، بمعنى أنه مريض، ولما كان المريض غالباً يذكر ذلك -يذكر علته، ولربما كان على سبيل الشكاية قيل لكل مريض: إنه شاكٍ.

والمقصود أن هذا الولد كان مريضاً، وكان أبو طلحة يخرج ويذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فخرج مرة، فقُبض الصبي، يعني: مات، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني؟ ورجوع أبي طلحة كان بناء -كما جاء في بعض الروايات- على بعث أم سليم -رضي الله عنها- ابنها أنساً ليدعوه، فذهب فدعاه، فجاء فقال: ما فعل ابني؟

بمجرد ما جاء سأل عن الولد، وفي السابق كان الأطفال يموتون بأمراض سهلة اليوم كالحمى والحصبة، وما أشبه ذلك، وليس عندهم هناك مقياس للحرارة، وليس عندهم أدوية وعلاجات وخافض يخفض هذه الحرارة، يرون هذا الصبي ترتفع حرارته، ويرون أنه يعافس الموت، وهم ينظرون إليه لا يستطيعون أن يفعلوا له شيئاً.

فقال: ما فعل ابني؟، يعني: يسأل عن علته، هل هو إلى الأفضل، أو أنه على حاله، أو أنه تردت حاله؟، قالت أم سليم: هو أسكن ما كان.

فهذه عبارة محتملة، هو فهم منها -هو أسكن ما كان- أن حالته مستقرة، وأنه هادئ في هذه الساعة، فاطمأن لهذا الجواب، والعبارة تحتمل شيئاً آخر، أسكن ما كان. أي: أن الموت قد أسكن جوارحه، فلم يعد به حراك، وهذا هو المقصود، وذلك من التورية، والإنسان يجوز له أن يوري، وقد جاء في الأثر: "أن في المعاريض مندوحة عن الكذب"[4].

فالإنسان ليس بحاجة إلى الكذب، والكذب حرام ولا يباح إلا في الحالات الثلاث، أحد الزوجين على الآخر، وفي الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، لكنه يستطيع أن يوري، أن يعرّض، ولا يكثر من ذلك حتى يُعرف به، فلا يُعرف له حق من باطل، لكن يستطيع إذا احتاج.

فإن قيل له: أين فلان؟ بدلاً من الكذب ويقول: غير موجود، يقول: ليس هاهنا، يعني: ليس بيدي، ويشير إلى يده.

وإن قيل لك: هل رأيت فلاناً؟ تقول: ما رأيته، يعني: ما ضربته على رئته، وما أشبه ذلك.

فقالت له: هو أسكن ما كان، فاطمأن لذلك، فقربت له العشاء، وهو الطعام الذي يؤكل آخر النهار ما بين المغرب إلى العشاء، فتعشى، ثم أصاب منها، جاء في بعض الروايات أنها تهيأت له وتزينت أحسن ما كانت تتهيأ وتتزين.

انظر إلى صبر هذه المرأة، فالصبي ميت، وموجود ولم يدفن، والإنسان في العادة إذا أصابه الحزن فإنه لا نظر له في الطعام، كأنما يأكل حجارة، لا يجد له مساغاً، إذا غلبه الغم والحزن والهم كأنما يتجرع أحجاراً، وكذلك لا يكون هذا الإنسان به همة إطلاقاً للوقاع، ولا يحصل منه أي رغبة في هذه الأمور، فهو في غاية الإعراض عنها، وإنما يحصل ذلك في حال الانبساط، ولذلك تجد الناس الذين عندهم أمراض نفسية –اكتئاب- يعانون من قلة القدرة على المعاشرة، وهذا أمر يعرفه الناس، ويعرفه الأطباء، ولا يخفى.

وهذا يدل على صبرها، وثباتها ويقينها الكامل، المرأة في العادة ضعيفة، فما الذي أورثها هذا الصبر؟ هو الإيمان بالله ، فتتحول النساء إلى مثل هذه الحال من التجلد والصبر العظيم الذي يعجز عنه أقوياء الرجال، والخنساء كانت تقول حينما بكت أخاها صخراً عاماً كاملاً:

ولولا كثرةُ الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي

فلما أُخبرت عن استشهاد أبنائها الأربعة في أحد الوقائع قالت: الحمد لله الذي بشرني باستشهادهم، فما الذي حولها من هذه الحال؟ هو الإيمان، فيحول النفوس إلى حال عجيبة، فإذا استقر في القلوب، واكتمل حتى صار الإنسان في حال من اليقين أورثه هذا الثبات العظيم.

وبعد أن تعشى وأصاب منها قالت: واروا الصبي، يعني: ادفنوه، فتنغص وتكدر، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله ﷺ، فأخبره.
  1. أخرجه البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه (5/ 2082)، رقم: (5153)، ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه وجواز تسميته يوم ولادته واستحباب التسمية بعبد الله وإبراهيم وسائر أسماء الأنبياء -عليهم السلام- (3/ 1689)، رقم: (2144).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس (5/2270)، رقم: (5778).
  3. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب الرغبة في أن يتعزى بما أمر الله تعالى به من الصبر والاسترجاع (4/ 65)، رقم: (6922)، وابن حبان في صحيحه (16/ 155)، رقم: (7187).
  4. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/ 446)، رقم: (4458).

مواد ذات صلة