الجمعة 30 / ربيع الأوّل / 1446 - 04 / أكتوبر 2024
06- ابن القيم البدائع. القواعد 845-847
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الأولى / ١٤٣٣
التحميل: 2547
مرات الإستماع: 2580

قال المؤلف رحمنا الله وإياه:

"فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل، وتبين وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، ولم يحصر الله ورسوله طرق العدل في أمور معينة، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهو من الدين".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- بشيء من الاختصار والتصرف.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يتكلم عن السياسات والعمل بمقتضى ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في أصول الأئمة الأربعة ما يتصل بهذا الموضوع، وكلام أهل العلم وخلافهم في مثل هذه القضية، فمن الناس من يقصر العمل بما ورد في الكتاب والسنة فقط، ومن الناس من يتوسع ويضع من النظم والقوانين المخالفة لهدي الرسول ﷺ، ولما جاء في شريعته، ما لا يُحتاج إليه، فإنَّ في الشريعة غُنية عنه، فهذا باطل، وهناك نوع لا يخالف مقتضى الشرع، وتدعو إليه الحاجة بحسب الزمان والمكان، فهذا حيث يُتوصل به إلى الحق والعدل، وإقامة دين الله -تبارك وتعالى- وشرعه، فلا إشكال فيه، وهذا له صور تأتي -إن شاء الله تعالى-، وأمثلة متنوعة، لكن من أجل أن يُفهم مثل هذا بمثل هذه السياسات عمر في وقت من الأوقات منع المؤلفة قلوبهم من النصيب الذي لهم في الزكاة، باعتبار أن الله أعز دينه، ولكنه لم يلغِ الحكم الشرعي، لكن رأى ألا يصرف هذا السهم في ذلك الوقت، فهذا من السياسات التي هي من سنة الخلفاء الراشدين، فما ألغى الحكم، ولكنه رأى أن هذا الوقت الذي أعز الله فيه دينه، لا يحتاج إلى صرف المال لهؤلاء من أجل استقطابهم، وتأليف قلوب هؤلاء نحو الإسلام، لكن الحكم باقٍ أن لهم سهمًا يخصهم في الزكاة، إما لدفع شرهم، وإما لاستمالتهم نحو الإسلام، فعمر ما ألغى هذا الحكم، ولكنه ترك إعطاء هؤلاء لسياسة رآها لا تخالف الشرع.

وقل مثل ذلك في إيقاعه الطلاق لما توسّع الناس، وكثر ذلك في زمانه، وتساهلوا وتعجلوا أمرًا جعل الله لهم فيه فسحة ومهلة وسعة، فصاروا يوقعون الطلاق الثلاث دفعة واحدة، فعمر أوقعه عليهم، فهذا من باب سياسة الراعي للرعية بما يحصل به إصلاحهم، والارتقاء بهم، وزجر الناس عما لا يليق، فهذا لا إشكال فيه، وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما تولى الخلافة ما استطاع أن يزيل جميع الأمور التي كان ينكرها، لكن كان يتدرج في ذلك؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فكان له سياسة في الإصلاح شيئًا فشيئًا، فبدأ بنفسه وأهل بيته، وكان يأخذ من قرابته الواحد بعد الواحد، فيأخذ ما أخذوه من بيت مال المسلمين، فيرتدع آخرون، وإذا نفر الناس من الحق الذي أقامه فيهم فتح لهم شيئًا من السعة في الدنيا، فينفرون من هذه، ويركنون لهذه، فكانت سياسته معهم في الإصلاح بحسب المستطاع، بهذه الطريقة، ينقلهم شيئًا فشيئًا، وتُوفي -رحمه الله- وما استطاع أن يقيم كل ما كان يصبو إليه من العدل والحق الذي يُؤمن به، فهذا كله متعلقٌ بأمر السياسة.

وهذه السياسة الشرعية نحتاج إليها حاجة ماسة اليوم، ولكن يحتاج العبد أن يبتغي بتصرفاته وجه الله، هذا المطلب الأول، يكون له نية صحيحة خالصة.

الأمر الثاني: أن يعرف حقائق الدين، وإن كان جاهلاً بذلك، فإنه يكون له لجان شرعية جيدة وعالمة بشرع الله -تبارك وتعالى- فيعرض عليهم ما يعرض له.

الأمر الثالث: أن تكون التصورات صحيحة عند هؤلاء، يعني يتصورون الإسلام، ويعرفون الإسلام، ويقرون به على الوجه الذي جاء به الرسول ﷺ كما هو، ولا يكون مشوهًا في نفوسهم، وبعد ذلك يُنظر عبر هؤلاء العلماء فيما يمكن أن يُؤجل أو يُؤخر، أو يُترك لمدة من الزمان، وما الذي يُبدأ به، وما أشبه ذلك، هذا يحتاج إليه، وانظروا الآن اللغط الكثير الذي يحصل في مثل تونس، أو في مثل مصر، فمثل هؤلاء يعني حينما يقولون في بعض البلاد: بأنهم لا يطبقون شرع الله، أو أنهم لا يطالبون بجعل الشريعة من المواد التي يرجع إليها هذا الدستور، أو من المرجعيات لهذا الدستور، فضلاً عن أن يطالبوا بتطبيق شرع الله، ويزعمون أن الناس غير مهيأين لهذا، وأنهم بحاجة إلى أمور... إلى آخره.

وحينما يتحدثون عن التبرج والاختلاط والحريات بإطلاق هكذا، أقول: هناك فرق بين أولاً من يكون قصده الإصلاح، لكن هناك أمور يقول: أعجز عنها، هذا الشرط الأول: أن يكون يريد الإصلاح لا الإفساد.

الأمر الثاني: أن يكون هذا الإنسان تصوراته عن الدين صحيحة، أما إذا كان منحرفًا هو يتصور الدين بطريقة مشوهة أصلاً، فإذا قيل له: تقصد التدرج أن تترك هذه الأوضاع من السفور والتبرج، وأنواع المنكرات في البلد، ونحو ذلك، يقول: لا، هذا هو الإسلام، ليست مرحلية، ولا تدرج، فهذه مصيبة، وهذا معناه: أنه ما فهم الإسلام على حقيقته، وأن فهمه للإسلام فيه خلط، فهذه مشكلة كبيرة، فهو لا يريد أن يطبق الإسلام الذي جاء به الرسول ﷺ، وإنما يطبق دينًا منحرفًا، وبعض هؤلاء وصل بهم الأمر إلى أنهم يرون حتى الحدود الشرعية محل أخذ ورد، وأن القضية تتغير بتغير الزمان، كما يقول بعض كبار هؤلاء المنحرفين، أمثال الترابي، فهذا شرط، ثم بعد ذلك يُنظر عبر علماء ثقات: ما الذي يمكن أن يُؤجل؟ وما الذي يمكن أن يُقدم؟ وما الذي يمكن أن يُؤخر؟ وما الذي تعجز عنه قُدَر الناس وإمكاناتهم في ذلك المكان؟

فهذه أمور إذا وُجدت بعد ذلك يبقى الخطأ في الاجتهاد، ويكون محل تفاوض وتناصح وتذاكر، لا تراشق ولا اتهام، فإذا وُجدت هذه الأمور: صحة القصد، وصحة الفهم، وأيضًا معرفة الدين والشرع، بأن يكون عالمًا بذلك، وما يتكلم بجهل، ويكون العلماء هم الذين يقررون هذه القضايا الكبار، بعد ذلك يبقى اجتهادات قد يخطئ في هذه، ويصيب في هذه، وكلٌ يُؤخذ من قوله ويرد، والإنسان إذا بذل جهده إذ اكان أهلاً للاجتهاد، واجتهد فأخطأ، فله أجر، وإذا أصاب فله أجران، فهذا لا إشكال فيه، ونحن نعلم أن يوسف في  أرض مصر ما استطاع أن يحكم بشريعة يعقوب كما هو معلوم؛ ولهذا قال الله مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] فقانون الملك في مصر لو طبقه على أخيه الذي جعل السقاية في رحله، كانت العقوبة ليس أن يأخذه، وإنما هي عقوبة أخرى تعزيرية، وربما غرامة، أو نحو ذلك، ويرجع مع إخوانه، فالله يقول: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] يعني: ما يضمه إليه لو طبق عليه قانون الملك، فقانون الملك إذن هو يختلف عن شريعة يعقوب ، فما كان يوسف يستطيع مع تمكنه في أرض مصر، وصار هو العزيز أن يقيم ما يريد من العدل، وقل مثل ذلك في النجاشي الذي صلى عليه النبي ﷺ، وشهد له، وما استطاع أن يحكم بشرع الله في أرض الحبشة، ولم يكن له أعوان.

وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الأمثلة بعينها، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهناك من استطاع أن يصلح أشياء، مثل عمر بن عبد العزيز، وعجز عن أشياء، لكن نحن نقول: ينبغي للإنسان أن يكون له قصد صحيح، وأن يفهم الإسلام فهما صحيحًا، وأن تقرر مثل هذه الأشياء في التدرج، وسياسة الناس في هذا عبر علماء، أما أن يتكلم من لا علم له ولا بصر، ويكون مفاهيمه أصلاً عن الإسلام خطأ ومشوهة، ويقول: هذا هو الإسلام، ولسنا نتدرج، فهذه لا شك أنها مصيبة، وتجر على الأمة مصائب وأمور، وتحسب على الشرع، والله المستعان.

"حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء:

الأول: رد الحق لمخالفته هواك، فإنك تُعاقب بتقليب القلب، ورد ما يرد عليك من الحق رأسًا.

الثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فإنك تُعاقب بالتثبيط والإقعاد والكسل، فمن سَلِم من هاتين الآفتين، فلتهنه السلامة".

يقول: "احذر من أمرين لهما عواقب سوء:

الأول: رد الحق لمخالفته هواك، فإنك تعاقب بتقليب القلب" يعني: إذا جاءك الحق فاقبل، فإنك إذا انصرفت عنه، وأعرضت، وأدرت له ظهرك، فقد تُعاقب بتقليب القلب، كما قال الله : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110] يعني: بصائرهم، وانظروا السبب كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] يعني: بسبب أنهم لم يؤمنوا به أول مرة، حينما طرق أسماعهم، هذا معنى الآية، وكثير من الناس من لا يفهمها على وجهها وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] فهؤلاء -نسأل الله العافية- عاقبهم الله على رد الحق أول مرة، بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك؛ ولهذا يقول الله في مثل هؤلاء وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام:111] فماذا أكثر من يكلمهم الملائكة، ويحيي الله لهم الموتى، يقومون يكلمونهم، ويحشر لهم كل شيء، ومع ذلك ما يمكن أن يؤمنوا؛ لماذا؟ لأن الله قلب أفئدتهم وأبصارهم عن الحق، فالإنسان إذا جاءه الحق، وسمع عن الله، ونُصح وذُكِّر وعرف حكمًا شرعيًا، فعليه أن يذعن ويقبل وينقاد، وفي الأمثال المعروفة -أمثال الأمم-: أن الفرص لا تطرق بابك مرتين، قد تطرق الباب أول مرة، فإذا أعرضت عُوقبت بتقليب القلب.

الثاني: التهاون بالأمر، فإذا حضر وقته، فإنك تعاقب بالتثبيط، يعني: سمعتَ الله أكبر، فالله أكبر من كل شيء، وأكبر من جهاز الجوال الذي في يدك، وأكبر من الكمبيوتر، وأكبر من جلوسك مع أهلك وأولادك، وأكبر من كل شيء، فإن العبد قد يُعاقب بالتثبيط والإقعاد والكسل، كما قال الله : فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة:83] لماذا؟ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83] فلما تثبطوا عن الأمر في وقته وحينه عاقبهم الله بذلك.

"الفعل إذا كان منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة، فهو المحرم، فإن ضعُفت تلك المفسدة، فهو المكروه، ومراتبه في الكراهة بحسب ضعف المفسدة، هذا إذا كان منشأ للمفسدة".

قبل أن نجاوز هذه الجملة، الأشياء التي في هذه الحياة الدنيا، كما يقول الشاطبي -رحمه الله-: لا يوجد فيها مصلحة محضة، والمصالح هي اللذات، وما في معناها، ولا يوجد فيها مفسدة خالصة من كل وجه، هذه قاعدة، الأشياء التي في هذه الحياة الدنيا، انظر إلى ما فيها من ألوان اللذات في الحياة الدنيا، الطعام هل يوجد لذة خالصة من كل وجه؟ ما فيها شوائب؟ هذا يقولون: يسبب الكوليسترول، وهذا يسبب أنواع من الأمراض، وهذا يسبب السكر، وهذا يسبب كذا، وهذا خطير في كذا، وهذا فيه كذا، واللحوم لها آثار كذا، وكل شيء، فما في هذه الحياة الدنيا شيء يُعتبر لذة ومصلحة خالصة، لا تشوبها مفسدة، كما أنه لا يُوجد مفسدة محضة، يعني: الخمر والميسر مثلاً، ماذا قال الله فيهما؟ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] فالخمر مثلاً في مضامين ذكر المنافع، يقولون: تشجع الجبان، فيصير شجاعًا إذا شربها، فيرى أنه فوق الناس، فيقبل على الأعداء، ويفتك بهم، والبخيل يجود، فينحر لهم الإبل، ويطعمهم الطعام، وهو قبل ذلك لا يخرج من يده شيء، فهذه من جملة المنافع، لكن بما أنه لا يخلو شيء من مفسدة، ولا يتمحض شيء لمصلحة في هذه الحياة الدنيا، وإنما اللذات الكاملة في الآخرة، والمفاسد الكاملة في الآخرة قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الزمر:15] من دخل النار، فليس له أدنى مصلحة في ذلك، ومن دخل الجنة فليس فيها أدنى مفسدة، لا مرض، ولا هم، ولا تعب، ولا ملل.

فإذا كان الأمر كذلك، فالعبرة بالغالب، هذه هي القاعدة الشرعية، خلافًا لما يقوله أصحابه البرمجة العصبية، حيث يقولون: انظر إلى الفارغ من الكأس، ولا تنظر إلى المليان، حتى لو فيه عُشْر الكأس، انظر إليه، كيف أنظر إليه؟ العبرة بما غلب، إذن الخمر سننظر إليها بهذا الاعتبار، ونقول: هات الخمر، انظر إلى الجزء الذي فيه المصلحة، تستطيع أن تقترب من الشيء، هكذا يزعمون، ويصدقهم بعض من لا بصر له بما جاء به الرسول ﷺ.

العبرة بما غلب، هذا في الناس، وفي الأشياء التي يتعاطها الناس، ويتناولونها في الذوات والأعيان والمعاني والفعال، فالعبرة بما غلب، فالمصالح الراجحة هي المعتبرة شرعًا.

والنبي ﷺ قال عن البقر: إن ألبانها -أو لبنها- شفاء، وسمنها دواء، ولحمها أو لحومها داء[1]، فهل المقصود: أن الغالب عليها الداء؟ لو كان كذلك لكانت محرمة، ولكن مقارنة بغيرها من اللحوم المباحة فيها نسبة الداء أكثر من غيرها، لكن الغالب عليها المصلحة.

انظر كما قال في مراقي السعود:

وَانْظُرْ تَدَلِي دَوَالِي العِنَبِ فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ[2]

يعني: لا أحد أفتى بتحريمها، مع أن هذا العنب ممكن يعصر خمر، أليست تعصر فتكون خمرًا؟ هل قال أحد من العلماء: يحرم زراعة العنب والفواكه؛ لأن احتمال نسبة 3% أو 1% أو واحد من مليون يعصرونها خمر، لا أحد قال بهذا، وإنما قالوا: مباحة؛ لماذا؟ لأن العبرة بما غلب، وقل مثل ذلك بيع السيارات، يقال: قد يستعملها الإنسان في أمور محرمة، نقول له: لكن الغالب عليها الانتفاع المباح، ومن ثم يجوز للإنسان أن يبيع السيارات للناس، لكن إذا عرفت أن زيدًا بعينه سيستعملها في الحرام يحمل عليها الخمر مثلاً، أو نحو ذلك، فهذا لا يباع له؛ لأن الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

وكما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "فاجتماعُ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ لا شَكَّ أنه ذريعةٌ لِفِعْلِ بعضِ الفواحشِ، ولم يَقُلْ أحدٌ من المسلمين بِسَدِّ هذه الذريعةِ، فَلَمْ يَقُلْ أحدٌ من العلماءِ: إنه يجبُ أن يُجْعَلَ جميعُ النساءِ في البلدِ على حِدَةٍ، ويُجعل عليهن حِصْنٌ من حديدٍ قَوِيٍّ، وأن يكونَ البابُ قَوِيًّا من حديدٍ، والمفتاحُ عِنْدَ رَجُلٍ تَقِيٍّ وَرِعٍ مأمونٍ ذي شيبةٍ، وذي أزواجٍ، لم يقل أحدٌ هذا من الناسِ؛ لأن وقوعَ الفاحشةِ ولو وَقَعَتْ من بعضِ الأخساءِ أمرٌ نادرٌ بالنسبةِ إلى مصالحِ المجتمعِ، ومعاونةُ الرجالِ والنساءِ على المجتمعِ الإنسانيِّ في مَصَالِحِهِ الدنيويةِ والأخرويةِ، فهذه الذريعةُ أُلْغِيَتْ لِعِظَمِ هذه المفسدةِ"[3].

ففي هذا المثال يقول لم يقل: إن النساء يعزلن في حصن عليه سور وباب من حديد، ويوضع له حراس، ذو شيبة؛ لأن هؤلاء الرجال والنساء الذين يسكنون في البلد الواحد يمكن هذا يواعد هذه، ويمكن آخر يلقي عليها ورقة و..و.. إلى آخره، فهذا مثال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- فهذه مفسدة محتملة تقع، ولكن المصلحة من سكنى الناس، وإقامتهم في البلد الواحد الرجال والنساء يتجاورون في البيوت، فمثل هذا مصلحته غالبة، فهنا يقال: لم يقل أحد من العلماء: إنه يجب عزل الرجال عن النساء في البلد، فالنساء يكن في حصن لوحدهن، والرجال بمنأى عنهن، وإذا بغى امرأته يذهب ويطلبها عن طريق هذا الحارس، هل يوجد أحد قال بهذا؟! لا أحد يقول بهذا، لاحظتم؟ فإذن العبرة بالغالب في باب المصالح والمفاسد، فما غلب فيه المفسدة فهو حرام، وما غلبت فيه المصلحة فهو المعتبر الحلال هذا النوع الأول.

"وأما إذا كان مفضيًا إليها، فإن كان الإفضاء قريبًا فهو حرام أيضًا".

مفضيًا إليها يعني: أنه يوصل إلى المفسدة، وهذا الإفضاء سيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- فيما يتصل بسد الذرائع في الأصول التي اعتمد عليها الأئمة الأربعة في مذاهبهم وفقههم، سيأتي الكلام على سد الذرائع، فهذا المفضي هو الذريعة، فإذا كان إفضاؤه إلى المحرم كثيرًا، يعني: هو ليس بمحرم في نفسه، ولكنه يفضي إلى ذلك كثيرًا، فمثل هذا يكون محرمًا، يقول: مثل الخلوة بالأجنبية، والسفر بها، ورؤية محاسنها، فهذا في نفسه ليس بمحرم، يعني ما حرمه الشارع لذاته، ولكنه حرمه لأنه يوصل إلى مفسدة غالبًا، فكان محرمًا، واختلاط الرجال بالنساء هذا محرم؛ لأنه يفضي غالبًا إلى مفسدة؛ ولهذا تجد الأشياء التي حرمها الشارع على نوعين:

نوع: هو مفسدة في نفسه، أو منشأ المفسدة: الشرك بالله ، والزنا، وشرب الخمر، وأنواع الفواحش، فهذا محرم، وهو منشأ المفسدة.

وهناك أشياء تؤدي إلى هذا، فالله حرم على النساء التبرج، وأن يبدين زينتهن، وأن يخضعن بالقول؛ لماذا؟ قال: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] ونهاهن عن أن يضربن بأرجلهن؛ ليعلم ما يخفين من زينتهن، تضرب رجلها ليسمع صوت الخلخال هذا حرام أو حلال؟ هذه كلها محرمة، هل هي محرمة لذاتها؟ لا؛ لأنها تؤدي إلى الفاحشة، وتؤدي إلى المنكر؛ ولهذا كان الغناء رقية الزنا، والقضايا المتعلقة بالشرك، وذرائع الشرك، والبناء على القبور، وتجصيص القبور، والصلاة إلى المقابر، هل هو محرم لذاته أو لأنه يفضي إلى محرم؟ لأنه ذريعة إلى الشرك، فحرم، فهذا من باب الذرائع، وعندنا التصوير هل هو محرم لذاته أو لأنه ذريعة للشرك؟! هذا أشد محرم لأمرين:

الأول: لذاته؛ لأنه مضاهاة لخلق الله.

والثاني: أنه ذريعة من ذرائع الشرك.

فمن قال: بأن التصوير الحديث هذا ليس فيه مضاهاة لخلق الله، وسلمنا له جدلاً، فتبقى العلة الثانية، وهو أنه من الذرائع إلى الشرك، فحرم لهذا، فحتى لو ما هو مضاهاة لخلق الله، فإنه لا يجوز؛ لأنه من ذرائع الشرك، فهذه أشياء حرمت لا لذاتها، ولكن لغيرها.

"فهذا القسم يُسلب عنه اسم الإباحة، وحكمها، وإن كان الإفضاء بعيدًا جدًا لم يسلب اسم الإباحة، ولا حكمها، كخلوة ذي الرحم المَحْرَم بها، وسفره بها، وكنظر الخاطب، فإن قرب الإفضاء..." إلخ.

الآن خلوة الناس بالمحارم، الخال والعم، والأخ بأخته، وابن الأخ، هذا يوجد من لا خلاق له من قد يفعل ما لا يليق له، أليس كذلك؟ أو ينظر بريبة، أو يفعل أمورًا محرمة، لكن هذا قليل؛ لأن الفطر تأبى ذلك، فهذه المفسدة لم يعتبرها الشرع مفسدة قليلة بعيدة نادرة، فألغاها الشارع، وسيأتي الكلام على المصالح والمفاسد أيضًا، فمثل هذه أهدرت، وبقي الأقارب من ذوي المحارم يجوز لهم أن يختلطوا ببعض، وأن يسافر بها، وما إلى ذلك.

"فإن ضعفت تلك المفسدة فهو المكروه، ومراتبه في الكراهة بحسب ضعف المفسدة" ضعفت هذه المفسدة فهذا هو المكروه، مثل ماذا؟ فيه مفسدة، لكن لم ترق إلى مستوى التحريم، مثل ماذا؟

النوم بين العشاءين يكره، في نهي، والبخاري ذكر بابين متعاقبين في هذا؛ لأنه قد يفضي إلى تضييع صلاة العشاء، فإن وُجد ما يوقظه، فلا بأس، فيكون مكروهًا النوم بهذا الاعتبار؛ لأنه يفضي إلى مفسدة، وهي تضييع صلاة العشاء، لكن هل هذا الإفضاء غالب؟

الآن لو كان هذا هو الغالب لكان محرمًا، لكنه ضعُف هذا الإفضاء، لكنه ليس بنادر، فصار مكروهًا، ومثل ماذا؟ مداعبة الشاب لزوجته، وتقبيلها في نهار رمضان، فالأصل أنه مباح، لكنه يفضي إلى أمر محرم، وهو الجماع بالنسبة للشاب، فلذلك يقال يكره لهذا أن يداعب زوجته، لكن إن علم أنه إن داعبها لا يملك نفسه ماذا يكون الحكم؟ يكون محرمًا، فيكون بحسب قوة الإفضاء.

وهكذا نظر الخاطب هو ينظر إليها بحضرة وليها، فهذا رجل أجنبي ينظر إليها، والصحيح: أنه ينظر إلى ما يُعجبه منها، فتخرج حاسرة الرأس، وليس عليها عباءة، فهذا الإفضاء قليل بعيد، فمن هنا كان مباحًا، بل مشروعًا، وأهدرت المفسدة هذه القليلة، في مقابل المصلحة العظيمة، وهو أن ذلك مظنة أن يؤدم بينهما، وأن يحصل توافق بين الزوجين.

يقول: "فإن قرب الإفضاء قربًا ما فهو الورع" والورع هذا نوعان:

ورع واجب من المحرم، وورع مستحب، مثل ماذا الأشياء التي نقول ينبغي للإنسان أن يتورع منها؟ بعض التعاملات المالية التي لا نجزم بتحريمها، لكن يخشى أن توقعه في بعض الأمور المحرمة، أو نحو ذلك، فهو يتورع من هذا خير له، ومثل المشاهدات والأشياء التي في بعض القنوات التي تحتمل، نقول: لو تورع منها، لكان خيرًا له.

وهناك ورع بارد، وهو أن يتورع من شيء لا يصح التورع منه، كالذي يتورع من الجلوس في المكان البارد، ويقول: أخشى أن يكون على حساب نعيم الآخرة، أو يتورع مثلاً من أشياء ليس لها مجال في التورع أصلاً، كالذي يتورع من إعلاق الجوال فيُتصل عليه، ويزعج المصلين، وهو بزعمه يتورع من أن يلمسه، لئلا يكون هناك حركة في الصلاة مثلاً، وهناك ورع بارد في أشياء هي أوضح من هذا، كـأن يتورع أن يأكل عند الناس، ولا يقبل ضيافة أحد خشية أن يكون في مكاسبهم شيء، فيقال: هذا ورع بارد، وهذا يتفاوت أيضًا، فبعض الناس قد يتورع من الكتابة في قلم المكتب يكتب فيه رقم هاتف، وهو يأكل الحرام الصريح، ويتورع من هذه الأشياء اليسيرة، فيقال: هذا ورع بارد، ويتورع من الاستياك في نهار رمضان، أو في وقت الصوم، ويقول: أخشى أن يدخل شيء يتحلل من هذا السواك إلى الجوف، فيقال له: هذا ورع بارد، وهكذا في أمثلة وصور كثيرة.

يقول: "وهو في المراتب على قدر قرب الإفضاء وبعده، وكلما قرب الإفضاء كان أولى بالكراهة والورع، حتى ينتهي إلى درجة التحريم".

يكفي هذا.

والله أعلم.

اللهم صلِّ وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5555) وصححه الألباني صَحِيح الْجَامِع (1233 , 4060) والصَّحِيحَة (1533).
  2. نشر البنود على مراقي السعود (2/ 266).
  3. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 91).

مواد ذات صلة