الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
08- ابن القيم البدائع. القواعد 858-860
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الأولى / ١٤٣٣
التحميل: 2782
مرات الإستماع: 2431

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فهذه الأمور التي يحتاج إليها القاضي من الأدلة، والأسباب، والبينات، الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- يمثل لها بأمثلة كثيرة، كما لو تنازع عنده اثنان اشترى أحدهما من الآخر سلعة، فذكر عند القاضي عيبًا، أراد أن يردها بالعيب، القاضي يحتاج أولاً إلى معرفة الحكم، مسألة الرد بالعيب، من حيث هو، هل ترد السلعة بالعيب أو لا؟ فعندنا أدلة تدل على هذا، مثل حديث المسرات، فالدليل يوصلنا إلى أن السلعة ترد بالعيب، هذا من حيث هو، هذا الأمر الذي ادعاه هذا، أنهُ عيب، هل هو عيب، أو لا؟ هل هو عيب معتبر، أو ليس بعيب بمعتبر شرعًا؟

هذا يحتاج إلى نظر، ومعرفة، الآن السلعة ترد بالعيب، فهذا الآن ادعى عيبًا بهذه الشقة التي اشتراها، أو السيارة التي اشتراها، ادعى عيبًا لم يعلم به، فأراد أن يرد، هل هذا يعتبر من العيوب المعتبرة، التي ترد بها السلعة، أو لا؟ توجب الرد، أو لا توجب الرد؟ فهذا يطبق الحكم الكلي على المعين يحتاج أن ينظر في العيب، فهذا بما يتصل بالأسباب، ثم أيضًا يحتاج إلى البينات، البينات هذه تتنوع، أحيانا تكون شهودًا، أحيانًا تكون أشياء في العقود مكتوبة، أحيانًا وثائق معينة، وهكذا في أمثلة كثيرة.

تنازع الرجل والمرأة في المتاع الذي في الدار، لمن هو؟ فوجدنا أشياء هي ملابس رجل، وجدنا ملابس امرأة، وجدنا كتبًا، وجدنا أدوات للزينة بالنسبة للنساء، فهذه المرأة ادعت أن هذه الملابس النسائية لها، قالت: هذا لي، فهنا هذه قرائن تدل على أن هذه الثياب لها، الكتب طيب، ننظر هذا طالب علم، وهي ليست كذلك مثلاً، فنحكم بها له، أو العكس.

امرأة متدينة، وطالبة علم، وابتليت بزوج صاحب مخدرات، وإنسان فاسد، سيء، وقال الكتب هذه لي، المكتبة هذه تساوي 300 ألف، وقالت: أنا طول عمري، وأنا أجمع فيها، هذه كتبي، فيحكم بها لمن؟ فهناك قرئن، فهذه يحتاج إلى معرفتها، فنحن عرفنا الحكم الكلي الآن، ثم ننزل على الشخص المعين، هذا الحكم، ونحتاج إلى مثل هذه الأمور من البينات والقرائن، وما أشبه ذلك.

لو تنازع النجار والخياط في القدّوم، والجلم، والمقص، والإبرة، والذراع، فهذه الأشياء نحكم بها لمن؟ الآن نجار وخياط، نعطي الخياط المنشار، والقدّوم، والمطرقة، والمسامير، والمنشار الكهربائي نعطيها للخياط!، أو نعطي النجار الإبرة، والمكينة، هذا لا يمكن، فهنا عندنا قرائن، فهذه الإبرة، والمكينة، والخياطة هذه للخياط، وتلك للنجار.

وهكذا تنازع الوراق والحداد فعندنا أشياء، أدوات حدادة، ولحام، وعندنا أشياء للوراق، قاطعة ورق، مسطرة، الآلات التي تخيط الكتب، وتجلدها، فهذه نعطيها للوراق، وتلك نعطيها للحام.

تنازع صاحب أبل، وصاحب غنم في إشداد، إشداد نعطيه صاحب الغنم، وإلا نعطيه صاحب الإبل؟ تعرفون الشداد، نعطيه صاحب الإبل، وهكذا.

"855- الفرق بين دليل مشروعية الحكم، وبين دليل وقوع الحكم، فالأول متوقف على الشارع، والثاني يعلم بالحس، أو الخبر، أو العادة.

فالأول: الكتاب والسنة، وكل دليل سواهما يستنبط منهما.

والثاني: مثل العلم بسبب الحكم، وشروطه، وموانعه، فدليل مشروعيته يُرجع فيه إلى أهل العلم بالقرآن والحديث، ودليل وقوعه يرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأسباب، والشروط، والموانع".

هذه القاعدة، يقول: الفرق بين دليل مشروعية الحكم، وبين دليل وقوع الحكم، دليل المشروعية، ودليل الوقوع، وبعبارة أخرى يعبر بها الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- دليل سببية الوصف[1] غير دليل ثبوت ذلك، دليل السببية غير دليل الثبوت، فدليل السببية يؤخذ من الشارع، وأما دليل الثبوت فإن ذلك يؤخذ من الحس أو العقل أو العادة.

فهنا يقول: الأول: الذي هو دليل المشروعية، الذي سميناه: دليل سببية الوصف، متوقف على الشارع، والثاني: دليل الثبوت أو الوقوع، يعلم بالحس أو الخبر أو العادة، الآن كون الشراب مسكرًا، لاحظ الأول دليل مشروعية الحكم، هذا يؤخذ من الشرع، سببية الوصف كون المسكر خمر، هذا من أين نأخذها؟ من الشرع، دليل سببية الوصف، أن هذا هو الوصف المؤثر في الحكم، هذه نأخذها من الشرع، كون الطلاق في حال الإغلاق الغضب الشديد الذي لا يعي معهُ لا يقع، وكذلك العتاق لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق[2] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- هذا دليل سببية الوصف، دليل مشروعية الحكم، هذه نأخذها من الشارع.

عندنا دليل الوقوع، أو الثبوت هذه نأخذها من الحس أو العادة أو الخبر، كون هذا الشراب مسكر، كيف نعرف هذا؟ ممكن نجري عليه تحليلات، تحاليل بالمختبر، أو بالحس فلان شرب فسكر العادة جرت أن مثل هذا، أو بالخبر، هذا الإنسان الذي طلق في حال من الغضب الشديد الذي لا يعي معه، فنحن نعرف أن دليل السببية، دليل المشروعية من الشارع، أنه لا يقع الطلاق في الإغلاق، لكن نريد نرى هذا، فوقوعه يعرف بالحس أو الخبر، أو نحو ذلك، فإذا أخبرنا أنهُ حينما تكلم بالطلاق، ما كان يعي ما يقول، قلنا: إن هذا الطلاق لا يقع، فدليل الوقوع، والثبوت، والحصول، والتحقق شيء، ودليل السببية أو المشروعية شيء آخر، واضح الفرق بين الأمرين؟

يقول: فالأول الكتاب والسنة وكل دليل سواهما، فمستنبط منهما، ما هو يستنبط منهما، عدلوها، فمستنبط منهما، يعني: الأصل هو الكتاب والسنة، وما عدا ذلك فهو راجع إليهما، فالقياس مثلاً يرجع إلى الكتاب والسنة، وإذا قلنا: قول الصحابي الذي لم يوجد له مخالف، لا يعرف له مخالف، أنهُ حجة، فذلك راجع إلى الكتاب والسنة؛ ولهذا يقولون: هو حجة بيانية، وليس بحجة رسالية، باعتبار أنهُ يكشف، يبين لنا عن أمر خفي علينا، وهو أنهُ عرف من حال النبي ﷺ أو نحو ذلك، فقال بهذا، جحة بيانية، وليست حجة رسالية، الحجة الرسالية الوحي، قال الله، قال رسوله، أما أقوال الصحابة فهم غير معصومين، فهي ليست حجة رسالية، لكنها حجة بيانية، تبين لنا عن أمر خفي علينا، من حال النبي ﷺ فقلنا: إنه إن لم يعلم له مخالف؛ فهو حجة بهذا الاعتبار.

"856- الأمر المطلق، والجرح المطلق، والعلم المطلق، والبيع المطلق، والماء المطلق، والمِلك المطلق غير مطلق الأمر إلى آخرها... والفرق بينهما أمور".

قبل أن يذكر الفرق، أوضح لكم هذه القضية، حينما نقول: الآن الإيمان المطلق، هل هو مثل مطلق الإيمان؟ الغنى المطلق، هل هو مثل مطلق الغنى؟ العلم المطلق، هل هو مثل مطلق العلم؟

وهكذا أيضًا لما نقول: مثلاً: الصبر المطلق، هل هو مثل مطلق الصبر؟ التوكل المطلق، مثل مطلق التوكل؟ التقوى المطلقة، مثل مطلق التقوى؟ الكفر المطلق، مثل مطلق الكفر؟

في فرق، أيهما أوسع مطلق الشيء، أو الشيء المطلق؟ هذا أوسع؟ تأملوا، تأملوا، لربما قصدتم أنه أوسع تقصدون به: أنهُ أكمل، أنا لا أقصد: أكمل.

الآن حينما نقول: مطلق الغنى، مطلق الإيمان، مطلق التوكل، مطلق الصبر، يدخل فيه الصبر الكامل، ويدخل فيه أدنى ما يطلق عليه من ذلك، أليس كذلك؟ يشمل هذا، وهذا، كل ما كان فيه هذا الوصف، ولو قليل فهو داخل فيه، أليس كذلك؟

مطلق النعيم، النعيم المطلق، الآن النعيم المطلق، يعني: الكامل، فالنعيم الكامل هل يشمل أدنى ما يطلق عليه أنه نعيم؟ لا.

لكن حينما نقول: مطلق النعيم، يصدق على القليل، والكثير، فأيهما أوسع؟ مطلق الشيء أوسع من الشيء المطلق؛ لأنهُ يدخل فيه الكامل، وغير الكامل، مما يوجد فيه أدنى ما يصدق عليه هذا الوصف.

الصحة المطلقة، ما فيه أي علل، ولا أمراض، ولا شيء، كاملة، وجيد، مطلق الصحة، يعني: ممشي حالة، هل مطلق الصحة، مثل الصحة المطلقة؟ مطلق القوة، مثل القوة المطلقة؟ القوة المطلقة لمن؟ لله، لكن هذا الإنسان الذي شاب، وقوي، ومفتول العضلات، عنده قوة، أم لا؟ لكن هل هي قوة مطلقة، أو مطلق القوة؟ الشاب الثاني النشيط القوي، لكن ما عنده هذه العضلات، قوي، أم لا؟ فالقوة تتفاوت، فكل ما يصدق عليه أنهُ قوة؛ فهو داخل في مطلق القوة.

العلم المطلق لمن؟ لله، طالب العلم عنده علم، فهذا داخل في العلم المطلق، أم مطلق العلم؟ يعني: ما يصدق عليه أنه علم، والعالم عنده علم، لكن ما هو مثل طالب العلم المبتدئ، فيكون هذا عنده علم، وهذا عنده علم، متفاوت، فهذا داخل في مطلق العلم.

الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، مطلق الإيمان، يعني: عنده الحد الأدنى من الإيمان مثلاً، يقال: عنده من مطلق الإيمان، مطلق الكفر، الكفر المطلق هو المخرج من الملة، مطلق الكفر سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[3] فقد يكون فيه شعبة، خصلة من خصال الكفر، لكنهُ لا يكفر، اتضح الآن بالأمثلة الفرق بين هذا، وهذا؟

نأتي للفروقات التي ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله-.

"منها أن الأمر المطلق إلى آخرها لا ينقسم إلى أمر الندب، وغيره، فلا يكون مَوردًا للتقسيم، ومطلق الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب، وأمر ندب، فمطلق الأمر ينقسم، والأمر المطلق غير منقسم".

لاحظ الأمر المطلق محمول على ماذا؟ الأمر المطلق محمول على الوجوب، لكن مطلق الأمر يصدق عليه أنهُ أمر، فهذا يحصل بأدنى حد؛ لاستحباب، فيه أمر، أم لا؟ هو مأمور، لكن الأمر غير ملزم، غير جازم، ففيه من مطلق الأمر، وليس فيه الأمر المطلق، فيقول: الأمر المطلق لا ينقسم إلى أمر ندب، وغيره، فلا يكون موردًا للتقسيم، ما يتقسم الأمر المطلق، إنما للوجوب، الذي ينقسم هو مطلق الأمر، وجد فيه قدر من الأمر، استدعاء الفعل.

"ومنها أن الأمر المطلق فرد من أفراد مطلق الأمر، ولا ينعكس".

الأمر المطلق فرد كما مثلت قبل قليل.

"ومنها أن نفي مطلق الأمر يستلزم نفي الأمر المطلق دون العكس".

الآن إذا نفينا الأمر المطلق، نفينا عن فلان الإيمان المطلق، يعني: الإيمان الكامل، هل معنى هذا أننا أخرجناه من دائرة الإيمان بالكلية؟ لا، عنده ربما الحد الأدنى، نفينا عنه العلم المطلق، هل معنى ذلك أن جعلناه في الحضيض، ما يعلم شيء كما خرج من بطن أمه؟

الجواب: لا، لكن نفينا عنه العلم المطلق، نفينا عنه مثلاً القوة المطلقة، أو الصبر المطلق، لكن عنده قدر من الصبر، ما نفيناه عنه، فنفي المطلق لا يقتضي نفي مطلق الشيء، هذا واضح، يعني: نفينا القدر الكامل فقط، لكن قد يبقى؛ بخلاف ما لو نفينا عنه مطلق الشيء، نقول: فلان ينفى عنه مطلق الإيمان، مطلق الإيمان منتفي عنه، لا يوجد مطلق الإيمان، لا يوجد من مطلق الإيمان عنده شيء، هذا معناه لا قليل، ولا كثير، لا يوجد عنده من مطلق الصبر شيء، لا قليل، ولا كثير اتضحت؟

الخامس من الفروق، لاحظ هذا الآن الواقع أنهُ الرابع، وهو ذكر عشرة فروق، لكن الشيخ عبد الرحمن -رحمهُ الله- اجتزئ ببعضها.

"الخامس أن الأمر المطلق نوع لمطلق الأمر، ومطلق الأمر جنس للأمر المطلق".

 هذا واضح مما سبق، مطلق الأمر جنس، يشمل الأمر المطلق، ويشمل أدنى ما يصدق عليه أنهُ أمر، جنس معناه أنه أعم، وأشمل، يدخل تحته أفراد أو أنواع، يدخل تحته أنواع، فإذا جينا قلنا مثلاً: مطلق الإيمان، يدخل تحته الإيمان المطلق، ويدخل تحته ما دون ذلك، على تفاوت، لو قلنا مثلاً: مطلق العلم، يدخل فيه العلم الكامل الذي هو علم الله، ويدخل فيه كل ما يصدق عليه أنه علم.

"إلى أن قال: التاسع أن من بعض الأمثلة هذه القاعدة: الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان".

ممتاز عرفتم الآن الفرق؟

"فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص، والكامل".

مطلق الإيمان، قد يكون للصورة الكاملة، وقد يكون كلها داخلة تحته.

س: العبارة لا يطلق إلا على الكامل الكمال؟

ج: نعم الكمال المأمور به، لا يطلق إلا على الكامل، يعني: الايمان الكامل، الكمال المأمور به، ما هو الكمال المأمور به؟ الذي استوفى صاحبه ما يجب مع ترك الأشياء التي تنافي الإيمان، ثم يفعل أمورا مستحبة، ويترك أمورا، فهذا هو الإيمان الكامل، وإذا قال الشارع: لا يؤمن من فعل كذا، ليس بمؤمن من فعل كذا، فهذا يكون نقص من إيمانه الواجب، يعني: معرض للوعيد، إذا نفى عنه الإيمان، إذا كان ذلك لا يخرجه من حقيقة الإيمان بالكلية، وقل مثل ذلك حينما يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] إذا جاء بأسلوب القصر، والحصر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4] فهذه الأوصاف التي ذكرها تدل على أنها من الإيمان الواجب؛ لأن الإيمان قول، وعمل، وأنها إذا نقصت؛ فقد نقص من ايمانه الواجب؛ فيكون معرضا للعقوبة، فعندنا كمال واجب، وعندنا كمال مستحب في الإيمان، فإذا قلنا: الإيمان المطلق، فمعنى ذلك أنه الذي استوفى الكمال الواجب، والكمال المستحب.

"فالنصوص التي علقت الأحكام الدنيوية على الإيمان هي مطلق الإيمان، والنصوص التي فيها المدح واستحقاق الثواب والسلامة من العقاب للإيمان المطلق، وسرد نصوصًا في ذلك".

الآن النصوص التي علقت الأحكام الدنيوية على الإيمان فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [البقرة:137] إذا دخلوا في حقيقة الإيمان، ولو لم يكن ذلك بالصورة الكاملة الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] لم يخلطوه بشرك، فهذا ممكن أن يحمل على الإيمان المطلق، الإيمان الكامل باعتبار أنهُ يكون لهم الأمن المطلق، والاهتداء المطلق، وينقص من أمنهم واهتدائهم بحسب ما نقص من إيمانهم، فالحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، ففي سورة ينخرم، وهو الشرك وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] الذي هو الشرك، فعندنا الآن الأشياء التي يتعلق بها، يقول هنا: فالنصوص التي علقت الأحكام الدنيوية على الإيمان، بحيث يحقن دمه، وماله، يحرز ماله، ونحو ذلك، إذا آمن، فهنا مطلق الإيمان، الحد الذي يصدق عليه أنه يقول: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، بهذا يكون قد عصم ماله ودمه، لكن التي جاءت في سياق المدح، هنا يقول: استحقاق الثواب والسلام من العقاب الإيمان المطلق التي فيها المدح وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68] قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] وأشباه ذلك إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] فهذا كله للإيمان المطلق، لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن[4] هذا مطلق الإيمان، أم الإيمان المطلق؟ الإيمان المطلق؛ لأنك لو قلت مطلق الإيمان، ما الذي يحصل؟ تخرجه من الإيمان بالكلية، وهذا قول الخوارج، والمعتزلة، يخلدون في النار فاعل الكبيرة، لكن نحن نقول: انتفى عنه وصف الإيمان المطلق، لكن بقي لهُ مطلق الإيمان، اتضح الفرق؟

قل مثل هذا في أشياء أخرى غير الإيمان، يعني: الماء المطلق طهور، هذا الماء المطلق من غير قيد، لكن مطلق الماء، ينقسم إلى: ماء نجس، وماء طهور، وعند من يجعل المياه ثلاثة يقول: طاهر، وطهور، ونجس، هذا اسمه مطلق الماء، يعني: يصدق عليه أنهُ ماء، لكن حينما نقول: الماء المطلق، فهنا هو الطهور، وهكذا حينما نقول: الملك المطلق، هذا ما يكون إلا للأحرار، لكن مطلق الملك عند بعض أهل العلم يصدق على المملوك باعتبار أنهُ ممكن أن يملك بعض الأشياء؛ إذا أذن له السيد مثلاً، في مسألة المكاتب يملك ما حصله، وجمعهُ مثلاً، حتى يعطيه لسيده، وقل مثل ذلك: الفاسق المطلق هو من؟ الكافر، لكن مطلق الفاسق، مطلق الفسق، الفسق المطلق هو الكفر، ومطلق الفسق؟ يحصل بالمعصية، وبالكفر يصدق على هذا وهذا.

"857- ما تبيحه الضرورة يجوز الاجتهاد فيه حال الاشتباه، وما لا تبيحه الضرورة، فلا".

لاحظ هذه مهمة ما تبيحه الضرورة يجوز الاجتهاد فيه حال الاشتباه، هنا في مقام ضرورة، في غير الضرورة لا مجال للاجتهاد الآن بغير الضرورة، لو اشتبهت زوجته بأجنبية، في ليلة الزفاف اشتبهت في أكثر، مجموعة، زواج جماعي، وكل واحد له غرفة في هذا الفندق، وأعطوه رقم، وضيع الرقم، وشك، أو اختلط رقمه برقم أحد أصحابه، رقم الغرفة، هل يجوز له الدخول؟ يقول: لصاحبه كل واحد يدخل الغرفة، نعد إلى العشرة، والذي يطلع له يدخل، أو يجتهد، أو يرجح كذا، هل يمكن؟

الجواب: لا.

زوجوه إحدى البنتين، وشك، حصل عنده شك هذه، أو هذه، أو توائم في غاية الاشتباه، تشابه، فهنا لا يجوز له أن يجتهد؛ لأن هذا ليس مقام ضرورة.

طلق من نسائه، وشك في التي طلقها، طلقها مثلاً بالثلاث عند من يوقع ذلك، وشك في التي طلقها، هنا نقول: ليس له أن يجتهد، شك في الماء هل هو طاهر أو نجس، شك في الثوب، شك في البقعة، هل هي طاهرة أو نجسة نقول: له ليس أن يجتهد يريق هذا الماء.

لكن في حال الضرورة اشتبهت ميتة بمذكاة، وهو مضطر، سيموت، فهنا نقول: له تحرى واجتهد، وأصلاً تحل لك الميتة، فيتحرى فيما يغلب على ظنه أن هذه المذكاة، فيأكل، ولو وقع على الميتة دون أن يشعر، فهو في حال ضرورة، هنا يجتهد.

إنسان في حالة ضرورة، في غاية العطش، سيموت، وعنده ماء، واشتبه عليه ماء طاهر، بماء نجس، يتحرى، أم نقول: تموت من العطش؟ نقول: له تتحرى، وتجتهد، ولا مانع من ذلك.

الآن اشتبهت عليه القبلة، هل من هذه الجهة، أو من هذه، شرق، أو غرب، وما عنده أحد يسأله، ولا بوصلة، ولا شيء، نقول له: يتحرى، أو ما تتحرى؟ نقول: تتحرى لماذا؟ لأنه لا بد أن يصلي، والصلاة لا بد أن تكون إلى جهة القبلة، فيتحرى، فما غلب على ظنه؛ صلى إليه، في هذه الحالة نقول: تجتهد في حال الاشتباه، وتتحرى.

  1. انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (4/15).
  2. أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2046)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير، برقم (13482).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (48)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، برقم (64).
  4. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب النهبى بغير إذن صاحبه، برقم (2475)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، برقم (57).

مواد ذات صلة