السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
حديث «إن ثلاثة من بني إسرائيل..» (2-2)
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 2673
مرات الإستماع: 5477

تابع حديث الأبرص والأقرع والأعمى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن خبر الثلاثة الذين قص علينا النبي ﷺ قصصهم، وهم أولائك النفر من بني إسرائيل، الأعمى والأبرص والأقرع، وتكلمنا عن صدر هذا الحديث.

قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته أتاه في صورته وهيئته يحتمل أن يكون أتاه في هيئته الأولى، يعني: هيئة الملَك حينما جاء أول مرة، وقال له: ماذا تتمنى؟ ماذا تطلب؟، ويمكن أن يكون أتاه في هيئته، أي: أنه جاء إلى هذا الأبرص في هيئته التي كان عليها من البرص، جاءه بمثل صورته من الفقر والبرص وما إلى ذلك، في صورته وهيئته.

فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، هذا الملَك تصور بصورة هذا الإنسان، والملائكة أعطاهم الله قدرة، فهم يتشكلون بإذنه في صور مختلفة من صور الآدميين، ولربما بدا بصورته الحقيقية، فقد رأى النبي ﷺ جبريل على كرسي بين السماء والأرض له ستمائة جناح، كما أن النبي ﷺ جاءه جبريل على صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، كذلك أيضاً كثيراً ما كان يأتي للنبي ﷺ في صورة رجل من الصحابة وهو دحية الكلبي ، إلى غير ذلك.

فالمقصود أنه جاءه بصورة رجل فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، انقطعت الحبال يعني: تقطعت به السبل، لا يجد ما يبلّغه من أهل أو نحو ذلك.

قال: فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك وهذه هي العبارة الصحيحة أن الإنسان لا يركن إلى المخلوق، ولا يسوي بين الخالق والمخلوق في التعبير، فلا يقول: لا بلاغ لي إلا بك، بإفراد المخلوق، ولا على سبيل التشريك مع التسوية، كأن يقول: لا بلاغ لي إلا بالله وبك، فهذا من شرك الألفاظ، وإنما يقول: لا بلاغ لي إلا بالله ثم بك.

ثم قال: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، لم يقل له كنت معتلاً مبتلى بالبرص، وإنما قال له هذا ليشعره وليذكره بنعمة الله عليه، وإن لم يقل له: أنت كنت كذا وكذا، فربما قال: من الذي أعلمك أني كنت كذلك؟، بل لربما أنكره.

فالمقصود أنه قال: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، أريد بعيراً من هذا الوادي من الجمال أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، يعني: عليّ التزامات كثيرة ما أستطيع أني أعطيك، كما قال الشاعر :

وللشحيحِ على أموالهِ عِللٌ زرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ

فهو يقول: أنا عندي التزامات، ما أستطيع أن أعطيك ولا بعيراً واحداً، فقال: كأني أعرفك، انتهى الامتحان، بقي بقية هي كالتعقيب عليه فقط، الرجل شح وبخل ما بقي عليه إلا أن يصرح بالإنكار والجحود، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟، فقيراً فأعطاك الله؟، فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، يعني: أباً عن جد، كلهم من أهل الغنى والثروة، لم أكن فقيراً، ولم أكن معتلاً، وإنما ورثت الغنى.

ومن الأشياء المعلومة التي يدل عليها الواقع بكثرة، وإن لم تكن دائماً أن الذين يحصل لهم الغنى طفرة يكون الطغيان إليهم أسرع والبطر، وأما الذين عُرفوا بالغنى منذ زمن بعيد فمثل هؤلاء أدعى إلى الاطمئنان والتواضع، وما إلى ذلك.

هذا أمر معروف في الغالب ليس دائماً في حياة الناس، والمهدي من هداه الله -عز وجل، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى، فقال: إن كنتَ كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرعَ في صورته وهيئته كما قلنا في الاحتمالين، جاءه بصورة الملَك، أو جاء بصورة الأقرع، يعني: بهيئته حينما كان أقرع، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنتَ كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.

قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إليّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجْهَدك اليوم بشيء أخذتَه لله، فقال: أمسِك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك، متفق عليه.

بمعنى: أني لا أفرح بما تبقيه، خذ حاجتك، ولا توفر شيئاً وأنت محتاج، فإني لا أحمدك بترك بعض ما تحتاج إليه، ولن أفرح بهذا ولن أسر به، ولن أقول: أبقَى لي كثيراً، خذ فالمال مال الله .

الدنيا دار اختبار وابتلاء

أقول: هذا الحديث فيه عبر عظيمة جداً، ليس من شرطه أن يأتيك ملَك بصورة كذا، أو بصورة كذا، كلنا فقراء، والله هو الذي أغنانا، وكلنا ضعفاء، والله هو الذي أعطانا وقوانا، وأمدنا بالعافية، وأمدنا بالأولاد، وقد خرجنا من بطون أمهاتنا ليس عندنا علم، وليس عندنا مال، وليس عندنا بيوت، وليس عندنا مراكب، وليس عندنا ثياب، وليس عندنا شيء، فكل ما نلبسه من الثياب، وما نراه من المراكب، وما نطعمه، كله من الله وهو ابتلاء، واختبار يبتلينا الله -تبارك وتعالى- به، وليس من شرطه أن يرسل إلينا ملَكاً بهذه الهيئة، لكن يسوق الله لك من الأمور ما يختبرك به، فالله ابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الفقراء بالأغنياء.

الفقير عينه متوجهة إلى الغنيّ، ينظر إليه وما أعطاه الله ، ثم يرجع إلى نفسه، ويرى ما هو فيه من الفقر والحاجة، ويندب حظه، ويتألم لحاله، وما يدري لعل هذا هو عين الخير له، والغنيّ مبتلى بالفقير، يسوق الله إليه واحداً بعد الواحد، فينظر ماذا يعمل؟ هل يعطيه؟ هل يقول له: المال مال الله ، خذ، ولو شاء الله كنت مثلك، وآباؤنا كانوا أشد وأبأس حالاً منك، كانوا لا يجدون شيئاً يأكلونه، ثم أعطانا الله وأغنانا، وصرنا نأكل من أنواع المطعومات، فخذ من مال الله .

وكذلك أيضاً العالم يُبتلى بالجاهل، هل يمسك علمه فلا يعلّم الناس، ولا يبين لهم ويضيق بهم ذرعاً ويجفُل عنهم، فلا يبارك له في علمه، وكذلك من أعطاه الله بصراً في بعض الأمور، أو رأياً أو وجاهة أو ما أشبه ذلك فشحّ.

ومَن يكُ ذا فضلٍ فيبخلْ بفضلهِ على قومهِ يُستغنَ عنه ويُذْمَمِ.

فهذا الإنسان الذي أعطاه الله شيئاً من وجاهة، ومكانة ومال أو غير ذلك، الله ينظر ماذا يصنع بذلك؟

فالله -تبارك وتعالى- كما أخبرنا خلق الموت والحياة ليبلونا أيّنا أحسن عملا، وهو الذي جعلنا خلائف الأرض، ورفع بعضنا فوق بعض درجات ليبلونا فيما آتانا وأعطانا، فهي حقيقة ثابتة، ينبغي للعبد أن يقف عندها، وأن يزن تصرفاته بهذا الميزان، وإلا فأين هذا الوادي من البقر، والوادي الآخر من الغنم، وأين الوادي من الإبل الذي عند الأبرص؟، بل أين الأبرص والأعمى والأقرع؟

ذهبوا، وذهبت أموالهم، بل أين ملك كسرى وقيصر؟، وأين تلك التيجان والذهب الذي كان يؤتى به من ممالكهم إلى مدينة رسول الله ﷺ؟

ذهبٌ عرض زائل انتهى، على اسمه ذهبَ وولى واندثر، أين هو؟ أين بقاياهم؟ أليس أولائك الذين يهتمون ببقايا الناس القدماء يفرحون إذا وجدوا كسرة من جَرّة أو شيء قديم من متاع لا قيمة له، إذا وجدوه في الأرض مدفوناً حفروا وبذلوا جهوداً وأموالاً حتى يجدوا شيئاً من هذا يفرحون به غاية الفرح، مع أنه لا قيمة له، ولا فائدة فيه، فأين أولائك؟ أين الممالك والمدن؟ أين الناس الذين كانوا يعيشون عليها؟ أين دوابهم؟ وأين مزارعهم؟ وأين مصانعهم؟ وأين دورهم؟

كلها ذهبت، هل تظنون أن هذه الفلوات التي نراها تملأ الأرض -أكثر الأرض فضاء- ثم بعد ذلك لا ترى فيها أثراً لأحد، ألم تكن هذه معمورة؟ أين البشر الذين كانوا من بعد آدم ﷺ إلى يومنا؟

هل تظنون أنهم بقوا في أماكن معينة جُدد عمرانها في الأرض مرة بعد مرة، أو أنه كانت ديارهم في هذه التي نراها فضاء لا يُرى فيها أثر لأحد ألبته، أين زروعهم؟ أين حروثهم؟ أين حيواناتهم؟ أين أموال الأغنياء؟ وأين آثار الفقراء؟

أشياء كثيرة ذهبت وذهبوا معها، فنحن سنذهب وستذهب أموالنا، وهذه المباني والدور، والمراكب التي تشاهدونها لن يبقى لها أثر، وإذا أراد الله امتداد الحياة وبقاءها قد يأتي من يفرح إذا وجد قطعة من هذه السيارات التي ترونها، يفرح، يضعها في مكان يحفظها فيه، وما إلى ذلك، يقول: هذه آثارهم قبلُ، إذا أراد الله بقاء هذه الدنيا، فكل شيء يذهب، فينبغي للعاقل أن لا يغتر بصحته، وأن لا يغتر بشبابه، وأن لا يغتر بماله، وأن لا يغتر بجاهه، وأن لا يغتر بوظيفته ولا بشهاداته، وإن كان قد أعطاه الله شيئاً من ذلك فيفيض على عباد الله علماً أو مالاً، أو يشفع لهؤلاء المساكين الذين قد انقطعت بهم السبل وهم بحاجة إلى شفاعة، يُدفعون بالأبواب، فالله أعطاك، ارفع السماعة وتكلم، هذا إنسان صاحب حق قد مُنع حقه فأعطوه حقه، ماذا يضرك؟، لن تخسر شيئاً، ومن أقبح ما يقع أن بعض هؤلاء الذين عندهم وجاهات صاروا يأخذون الآن عليها مقابلاً، يأخذ المال مقابل أن يشفع، بحسب الأمر المشفوع به، لربما أخذ عشرة آلاف وأكثر على الشفاعة.

فأقول: الله سيحاسبنا على هذه العطايا، فينبغي لنا أن نحسن التصرف، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة