الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زلنا نتحدث عن كثرة طرق الخير، وذلك من خلال ما أورده الإمام النووي -رحمه الله- في هذا الكتاب المبارك رياض الصالحين، وكان آخر ما تحدثنا عنه:
حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين[1] رواه مسلم، وفي رواية: مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحينّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة[2].
وفي رواية لهما -يعني للبخاري ومسلم:بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له، فغفر له[3].
فقوله ﷺ: رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها، فهذا بمعنى السببية، يعني: بسبب شجرة قطعها، يعني: ما دخل الجنة بقيام الليل، ولا بصيام النهار، ولا بكثرة بذل وإنفاق ونحو ذلك، إنما هو بعمل يسير، وكما رأيتم في هذه الروايات: بغصن شجرة، غصن شوك على الطريق، فأخره، فكيف بمن دفع عن المسلمين ما هو أعظم من غصن الشجرة؟!، كيف بمن قدم للمسلمين شيئاً ينفعهم ويرفعهم ويبقى أثره بعد موته؟!، فأين هذا من غصن شجرة؟.
فهذا كله يؤكد هذا الأصل الكبير، وهو أن طرق الخير كثيرة جداً، وليس لأحد عذر في القعود عن طاعة الله ، كثير من الناس يكسل، ويغلب عليه حال البطالين من ترك العمل بطاعة الله ، لربما يعتذر الإنسان بأنه ليس عنده مال فيتصدق به، فيقال لمثل هذا: تلك المرأة التي قسمت التمرة بين ابنتيها دخلت بذلك الجنة.
وقد يقول الإنسان: ليس عندي علم حتى أبلغ ذلك للناس، فالنبي ﷺ يقول: بلغوا عني ولو آية[4].
ويكفي في ذلك -كما قال النبي ﷺ أن كف الأذى عن الناس صدقة[5]، يكف الإنسان شره عن الآخرين، اليوم في مشكلة مع زميله في العمل، وغداً مشكلة مع مديره، وبعد غد مشكلة مع إمام المسجد، والذي بعده مشكلة مع الجار، ويوم مع قريب من أقاربه، فيُعرف الإنسان بالشر، فيتحاشاه الناس من أجل ذلك، فكما سبق في بعض الأحاديث التي أوردناها في بعض الليالي الماضية أن الإنسان إذا كان لا يستطيع أن يبذل، وأن يعمل في الخير، وأن يتقرب إلى الله بألوان القربات فإنه يكف شره عن الناس.
كما قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟، قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك[6].
فالمقصود أن الإنسان لا يعجز عن تحصيل الثواب، ولو كان ذلك في أقل الأعمال، كأن يرشد إنسانًا ما لكي يعرف الطريق، ويعينه على حمل متاعه، والابتسامة، والكلمة الطيبة صدقة، والتسبيح والتحميد والتهليل كل ذلك من الصدقات، فمن الذي يعجز عنه؟، والله يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء:103].
فلا يحتاج منك إلى نوع من التهيؤ حتى تقول: أنا أعجز عن قيام الليل مثلاً لأني لا أنام إلا متأخراً، الذكر وأنت في كل مكان، فكل ذلك من الصدقات، ولكن القضية ليست أن هذه الشريعة تضيق عن الأعمال التي تصلح لكل أحد وإنما نحن نقعد عن كثير من العمل إخلاداً إلى الراحة، وتسويفاً، ولربما زين لنا الشيطان ذلك بطرق متعددة، فالإنسان ينبغي أن يجدّ ويجتهد.
يعني: جاء بواجبات الوضوء، وبسننه ومستحباته لم ينقص من ذلك شيء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، استمع: يعني ألقى سمعه، وأنصت: بمعنى أنه لم ينصرف بذهنه، فيكون عنده شرود عما يقوله الخطيب، وإنما يكون مذعناً منصتاً له يركز معه غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادةُ ثلاثة أيام، بمعنى: أنه يغفر له إلى الجمعة القادمة، إلى وقت الخطبة، فهذه سبعة أيام كاملة، وزيادة ثلاثة أيام من بعد صلاة الجمعة، وهو عمل لا يحتاج إلى جهد كبير، توضأ فأحسن الوضوء، ثم جاء إلى الجمعة فأنصت، هذا يحتاج إلى كبير جهد؟ أبداً، غُفر له إلى الجمعة القادمة وزيادة ثلاثة أيام.
وهذا خرّجه بعض أهل العلم بناء على أن الحسنة بعشر أمثالها فقال: لأن الحسنة بعشر أمثالها، فهذا صار في عشرة أيام في المغفرة مما يستقبله الإنسان، أضف إلى ذلك أن الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، والصلاة إلى الصلاة مكفرات ما اجتبت الكبائر، ورمضان إلى رمضان كفارات ما اجتنبت الكبائر، والسيئة بسيئة واحدة، وإذا همّ بالسيئة لم تكتب، وإذا هم بالحسنة كتبت حسنة وإن لم يعملها، وإذا عملها صارت بعشر إلى سبعمائة ضعف، وإذا توضأ خرجت الخطايا من تحت أظفاره، مع هذه المغفرة وهذه الفرص المتكررة في اليوم والليلة كل ذلك ومع هذا لا يهلك على الله إلا هالك.
قال: ومن مس الحصى فقد لغا رواه مسلم، لا يختص ذلك بالحصى، الرجل يعبث بثوبه، يعبث بساعته، يعبث بجواله، يعبث بمسبحة أو بغير ذلك، المقصود أنه ينشغل عن الخطبة، فقد لغا ومن لغا لا جمعة له، وليس معنى ذلك أنه يطالب بالإعادة، فإنها تجزئه، ولا يطالب بالإعادة أو بالقضاء، ولكنه لا يكتب له أجر جمعة، فرق بين الإجزاء وبين أن يكتب للإنسان الأجر أو أن يقبل منه هذا العمل.
وعن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن العبد ليصلي الصلاة ما يُكتب له منها إلا عشرُها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها[2].
فقد أخبر النبي ﷺ عن الصلاة التي نصليها أن المصلي لا يكتب له منها إلا عشرها، إلا نصفها، إلا ربعها، إلا ما عقل منها، بقدر ما عقل، فالإنسان قد يخرج من صلاة الفريضة أو غير الفريضة ولا يكتب له شيء، إلا أنه تسقط عنه المطالبة فقط، ولذلك تجد بين الرجلين في الصلاة كما بين السماء والأرض، هذا صلاته قد توصله أعلى المراتب عند الله ، وهذا صلاته تُسقط عنه المطالبة فقط، ولا يؤجر، فالأجر على قدر ما يحضر من قلبه في هذه الصلاة، ويعقل فيها.
فهذه أمور وطرائق للخير كثيرة جداً، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، (2/ 588)، رقم (857).
- أخرجه أحمد في المسند، ط الرسالة (31/ 189) رقم (18894) وصححه شعيب الأرنؤوط.