الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الأحاديث الدالة على كثرة طرق الخير:
قوله: خرج من وجهه كل خطيئة باعتبار أن حاسة البصر في الوجه، ولم يذكر النبي ﷺ ما يتعلق بالشم الأنف مثلاً، ولا الفم إن كان قد أكل شيئاً لا يحل له أو فيه اشتباه، أو ذاق شيئاً أو نحو ذلك؛ لأن هذا له عمل مستقل في الطهارة، فهو وإن كان تابعاً للوجه إلا أنه يتمضمض ويستنشق، فيخرج ذلك من فمه وأنفه -والله تعالى أعلم، ولكن البصر ليس له غسل مستقل حينما يغسل الإنسان أعضاء الوضوء، إنما يكون مع غسل الوجه، فإذا غسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء.
المهم أنها تخرج إما مع الماء، يعني: لأول وهلة، إذا شرع في الغسل، أو مع آخره، فالمقصود أنه يتخلص من ذلك.
فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب.
فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مستها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب، رواه مسلم.
وهذا الحديث هل يراد به جميع الذنوب حتى الكبائر؟.
الذي يظهر -والله تعالى أعلم- وهو الذي عليه عامة أهل العلم أن ذلك يكون في الصغائر كما يقيده حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن...، فإذا كانت هذه الذنوب من الصغائر فإنها تذهب مع الوضوء.
وليس لقائل أن يقول: إذا كانت هذه تخرج مع الماء مع الوضوء، فماذا تفعل الصلاة إذاً، لأن الصلاة إلى الصلاة مكفرات، فماذا تفعل الجمعة لأنها مكفرات؟
نقول: اجتمعت أسباب تكفير السيئات، اجتمعت جميعاً فإذا ذهبت الذنوب من الطهارة مثلاً فإن الصلاة تبقى ترفع الدرجات وتكثر الحسنات، وهكذا فكل ذلك يدل على تضافر هذه الأعمال الصالحة على غسل العبد من خطاياه، وقد شبه النبي ﷺ ذلك بالنهر الجاري الغمر الذي يغتسل الإنسان منه كل يوم خمس مرات أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا، لا يبقى منه شيء.
فالمقصود أن هذا الحديث يدل على هذا المعنى ولا يفهم منه بحال من الأحوال أن الإنسان يتعمد مواقعة الذنوب، ويقول: سيكفرها الوضوء، أو أنه ينظر إلى الحرام، وينظر إلى الشاشة أو إلى غير الشاشة، ويذهب إلى الأسواق وينظر إلى النساء أو نحو ذلك، فيطلق بصره، ثم يقول: يكفرها الوضوء أو نحو ذلك، فإن الإصرار على الصغائر يصيرها كبائر، ثم هذه الأمور إنما تحصل للعبد باستيفاء الشروط وانتقاء الموانع، فهو لا يدري هل غفر له أو لا، الإنسان يرجو ربه ورحمته وثوابه ومغفرته، لكن ما الذي يضمن لك أنه غفر لك؟، وإذا علم الله من العبد سوء القصد والإصرار على الباطل والإقدام عليه عمداً وتتبعه فإن مثل هذا قد يكون من أسباب الحرمان من المغفرة.
فهذا القيد "إذا اجتنبت الكبائر" هو يحتمل معنيين: يحتمل أنها تكفر الصغائر عدا الكبائر، وهذا الذي ذهب إليه عامة العلماء في تفسير الحديث.
والاحتمال الثاني: أن ذلك شرط في التكفير، أي: أنها تكفر في حال كون العبد قد اجتنب الكبائر، وإلا فإنه لا تُكفَّر الصغائر بالوضوء؛ لأن العبد قد قارف شيئاً من الكبائر، فهذا احتمال، وليس ببعيد في معنى الحديث، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم هو ما ذكرت، والله تعالى أعلم.
قوله: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فهذا يفسره هذا الحديث، غفر له ما تقدم من ذنبه يعني: من الصغائر، من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
وأكثر ما يمكن أن يكون الخلاف فيه والإشكال هو الحج، لأن النبي ﷺ قال: من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، كيوم ولدته أمه إذاً ليس عليه كبائر، وقال ﷺ: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فظاهره أن الحج المبرور يكفر الكبائر، فهذا احتمال وارد في معنى هذه الأحاديث.
كل هذه الأحاديث هي من أحاديث الرجاء، والإنسان لا يركن إليها ويسترسل مع القبائح والذنوب والمعاصي ويتساهل في ذلك، ويقول: أنا أصلي، وأنا أتوضأ، وأنا أصوم رمضان، وهذه تكفرها هذه، فإنه لا يضمن ذلك، فقد يقوم به مانع يمنع من تكفير الذنوب والسيئات.
فالإنسان يجب أن يتقي الله في أحواله كلها، ويتوب، وقد شبه النبي ﷺ الصغائر بالقوم الذين نزلوا وجمعوا حطباً هذا يأتي بعود وهذا بعود وهذا بعود، حتى أوقدوا وأنضجوا ما معهم[1]، فهكذا تكون الصغائر قد تجتمع على العبد فيهلك.
وحذر النبي ﷺ من كثير من الأمور التي هي صغيرة في نظر الناس، وذكر جملة من الذنوب التي عُذب بها أقوامٌ، مثل الرجلين اللذيْن أخبر النبي ﷺ أنهما يعذبان، قال ﷺ: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة[2].
فهذه هل كفرها الوضوء، والصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؟، فالواجب على الإنسان أن يجمع بين هذه النصوص جميعاً، ويكون في حالة من الاتزان بين الخوف والرجاء، حتى يصل إلى الله -تبارك وتعالى، فإن كان الغالب عليه التفريط فإنه يغلِّب جانب الخوف من أجل أن يكف عما لا يليق، وإن كان الغالب عليه الصلاح والاستقامة والعمل الطيب فيغلب جانب الرجاء ويحسن الظن بالله -تبارك وتعالى، وأنه لا يخيب من رجاه، ومن عمل صالحاً، وأن الله يتقبل منه؛ لأن من الناس من يتردد ويقلق ويتشكك ويقول: هل قُبلت هذه الصلاة؟، هل قبل صيامنا رمضان أو لم يقبل؟
تأتي بالعمل كما شرع الله ، ولكن تحسن الظن بربك.
هذا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: المعجم الكبير للطبراني (10/ 212)، رقم: (10500).
- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، (1/ 53)، رقم: (213).