الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب (3-3) وحديث «من رأى منكم منكرًا..»
تاريخ النشر: ٢٢ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 1971
مرات الإستماع: 2166

قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآيات التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- في صدر هذا الباب -باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قوله -تبارك وتعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29وهذا كقوله -تبارك وتعالى-: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى:48]، وهو أحد الوجهين في قوله : فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ۝ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ۝ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [الأعلى:9-11]، فقوله: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى هذا أمر بالتذكير، كما قال هنا: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ، وقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، هو تذكير للأحمر والأسود، إلا أنه ذكر المنتفعين به، كما قال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، هو تذكير للأحمر والأسود، إلا أنه ذكر المنتفعين به، كما قال: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى قال بعض أهل العلم: ذكِّر سواء نفعت الذكرى أو لم تنفع، فذَكَرَ أشرف القسمين، لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكير، وإلا فإنه يجب أن يؤمر الناس بالمعروف وأن يُنهوا عن المنكر، وإن لم يُرجَ منهم تذكر واتعاظ وانتفاع بحال من الأحوال، هذا هو الأرجح؛ لأن ذلك واجب يتعلق بذمة الإنسان، وتلحقه التبعة إن تركه، فهو يجب عليه أن يؤديه عبودية لله -تبارك وتعالى- وإعذاراً للخلق.

قوله تعالى: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ...}

ولذلك فإن أصحاب السبت من بني إسرائيل أولئك الذين احتالوا على صيد السمك في القرية التي كانت حاضرة البحر، لما وعظهم الواعظون وذكروهم بالله ، وقالت طائفة ساكتة يائسة من قبولهم ومن صلاحهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، أي: إنّ وعظنا هو إعذار إلى الله -تبارك وتعالى- ومن أجل المعذرة، وهذا كقوله تعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [البقرة:85] أي: مسألتنا حطة، فهنا "معذرة إلى ربكم" أي: أن نصحنا من أجل المعذرة.

ولهذا لما ذكر الله النتيجة بعد ذلك قال: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165]، وسكت عن الطائفة الساكتة، فبعض السلف قال: إنهم نجوا، وبعضهم قال: إنهم هلكوا، والذين قالوا: إنهم نجوا قالوا: إنه سكت عنهم فلم ينوِّه بذكرهم، أو يخبر عن نجاتهم؛ لقلة الاكتراث بهم، فهم لا يستحقون هذا، وكان عكرمة يقول: "ما زلت بابن عباس حتى أظهرت له أنهم نجوا"، أي: حتى قَبلَ ذلك وأقر به، وأقنعته بقولي هذا.

فالمقصود أن الإنسان لا تبرأ ذمته إن لم يأمر وينهى، حتى لو لم يرجُ نفع هذا المأمور والمنهي.

قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}

وهنا أيضاً قال الله : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] أي: عليك أن تبلغ، وأن تبين للناس هذا الحق الذي جاءك الله به، وأوحاه إليك، سواء قبلوا ذلك منك، أو لم يقبلوه، فإنه ليس من شأنك هداية القلوب، والمقصود أن قوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أي: فاصدع بالحق لكل الناس، ولم يقل: فاصدع لمن ترجو عنده القبول، وإنما أطلقه، والأصل بقاء المطلق على إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

من رأى منكم منكرا فليغيره بيده

ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك جملة من الأحاديث، منها:

حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان[1].

من رأى منكم منكرا، "مَن" هنا شرطية، وهي للعموم، فكل من رأى ذلك أو علم؛ لأن العلم يقوم مقام الرؤية، بل يمكن أن تفسر الرؤية هنا برؤية القلب، أي: من علم، والمشترك يصح حمله على معنييه أو معانيه إن لم يقم مانع يمنع من ذلك، من رأى منكم منكراًأي: شاهده، أو بما يقوم بالمشاهدة، إذا أُخبر بذلك وأعلم  بوقوعه أو بمكانه أو نحو ذلك.

فليغيره بيده، وهذه أعلى المراتب وهي أبلغها، وهي إزالة المنكر باليد؛ لأن التغيير باللسان هو إعذار وبيان ونصح، لكن التغيير باليد هو إزالة لهذا المنكر، وهذا هو الواجب، أن يزول المنكر، وليس المقصود هو تخفيفه، وإنما المقصود إلغاؤه بالكلية، ولذلك فإن النبي ﷺ حينما فتح مكة بعث إلى ذي الخَلَصة -وهو صنم دوس في الجاهلية- فهُدم وأحرق، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى، وهي أشجار ثلاث، وعليها بناء فذهب خالد فقطع الأشجار الثلاث، ثم رجع إلى النبي ﷺ فأخبره أنه ما صنع شيئاً، فرجع خالد إليها فوجد امرأة سوداء نافشة شعرها، تدعو بالويل والثبور، فعلاها بالسيف، وأحرق ذلك البيت وتلك السَّمُرات، فأزال المنكر من أصله، فلما رجع إلى النبي ﷺ قال: تلك العزى[2]، إشارة إلى تلك المرأة السوداء، أي: أنها كانت شيطانة، كما هو معروف في أخبار العرب أنهم كانوا يسمعون من يحدثهم أحياناً، ويرد عليهم الجواب من هذه الأصنام التي يعبدونها؛ فتنة لهم وابتلاء، فخالد علاها بالسيف فقتلها.

وموسى ﷺ قال في العجل الذي عبده بنو إسرائيل: من رأى منكم منكراً فليغيره، ولم يخصه بفئة من الأمة؛ ولهذا فإن التغيير باليد لا يختص بالسلطان، وإنما يكون للسلطان ولغيره ممن هو قادر على التغيير باليد، فليس المقصود به الملِك أو الأمير أو الخليفة، أو نحو ذلك، فالرجل سلطان في بيته، فيغير في بيته، والمدير فيمن تحت إدارته في المدرسة وفي الشركة، وإمام المسجد في مسجده، وما إلى ذلك، ولا يختص بهؤلاء، بل كل من يستطيع أن يغير ولا يترتب على تغييره مفسدة راجحة، مثل ماذا؟ ابن عمر زار إنسانًا في بيته دعاهم لطعام، فوجد الجدران قد سترت بالستور، فقال له ابن عمر وهو من علماء الصحابة: متى تحولت الكعبة في بيتكم؟ فهتك ابن عمر -رضي الله عنهما- ما يليه، وأمر من حضر أن يهتك ما يليه، ولهذا يقال: هي مقبولة من ابن عمر ، لكن لو فعلها غير ابن عمر قد لا تقبل منه، فليس للإنسان إذا ذهب إلى بيت أحد من الناس ورأى منكراً -كصور لذوات الأرواح- أن يغيره، ليس له ذلك، لكن إذا كان الشخص مهابًا، كالعالم الكبير الذي يخضع الناس له ونحو هذا فلا بأس، أما أن يأتي ويتجرأ على الناس، ويمد يده ليغير أخذاً من هذا الحديث فهذا غير صحيح؛ لأن ذلك يؤدي إلى مفسدة أعظم، فإن عجز عن التغيير باليد فإنه ينتقل إلى المرحلة التي دونه وهي باللسان، ويكون بالحسنى وبالكلام الطيب، وأحياناً الإنسان لربما لفرط غيرته يغضب ويتكلم بكلام غليظ، ولا حاجة لهذا، نحن نستطيع أن نقول للناس: هذا لا يجوز، هذا شيء حرمه الله ، لكن بأسلوب طيب لا يجرح مشاعرهم، فالناس لهم كرامتهم، ولهم مشاعرهم، ولهم أحاسيسهم، ليسوا جمادات.

وإذا أردنا أن يقبل الناس ذلك فإننا يجب أن نقدم لهم الدعوة بأسلوب تقبله نفوسهم، أمّا أن يُصَك صك الجندل، ويُنشَّق الخردل، ويقال له: اقبل، فهذا لا يكون بحال من الأحوال، ولا يصح ولا يقبله أحد، قال الإمام أحمد -رحمه الله: "ما أغضبتَ أحداً فقَبل منك"، ولهذا قال الله لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44] قولًا لينًا لمن؟ لرجل يقول: أنا ربكم الأعلى، ليس في الدنيا إنسان أسوأ منه، بعض المفسرين يقول: "فقولا له" أي: كنياه، قالوا في الإسرائيليات: إن فرعون كان يكنى بأبي الوليد، فيذهبون إليه ويقولون: يا أبا الوليد استعذ من الشيطان، يا أبا الوليد هذا لا يليق بأمثالك، يا أبا الوليد أنت قدوة لهؤلاء الناس، فإذا كان هذا فرعون ويقال له قول لين فمن دونه من باب أولى ممن لم يبلغ بالشر ما بلغ فرعون، ولذلك فإن التعنيف والغلظة على الناس، والشدة في الأمر والنهي والإنكار أمر لا يحسن وهو على خلاف الأصل، لكن قد يستدعي المقام ذلك، كما قال شيخ الإسلام: "إن الوسخ قد لا ينقلع إلا بشيء من الخشونة والفرك والحك"، وإلا فالأصل الكلام اللطيف اللين.

قال: فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، أي: إذا لم يستطع أن يغير باللسان فيسقط عنه الواجب، والتغيير بالقلب هو: أن يكره المنكر، وأن يرفضه بقلبه، وهذا ليس موقفاً سليباً بل هو موقف إيجابي تجاه المنكر، وذلك أن هذا الإنسان الذي أعلن رفضه للمنكر قام ففارقه؛ لأن الله قال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فمن أظهر وجوه التفسير وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الزاني يقال له: العشير، وهذا أعظم المعاشرة وأبلغ المعاشرة، فهذه المرأة التي ترضى أن تبقى مع إنسان زانٍ هي في حكمه؛ لأنها معاشرة له، فتكون راضية بفعله، فاستحقت أن يطلق عليها ذلك، وهكذا الرجل الذي يبقى مع امرأة يعلم أنها زانية، ثم بعد ذلك يقيم معها وعلى معاشرتها، فهو راضٍ بفعلها، وكذلك الذي يعاشر أهل الباطل والمنكر ولا يغير هو في حكمهم.

فالمقصود أن الإنكار بالقلب أضعف الإيمان باعتبار هذه المراتب، لأن الإيمان قول وعمل، فأعلى شيء فيما يتعلق بالمنكر التغيير باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، وهذا أضعف عمل يدخل في مسمى الإيمان تجاه المنكر، والتغيير باليد إيمان، والتغيير باللسان إيمان، والتغيير بالقلب إيمان، ومعنى ذلك أنه لم يبق عمل من الإيمان بعد ذلك، وليس المعنى أن الذي لا ينكر بقلبه يكون كافراً، ليس هذا المراد، وكثير من المسلمين قد يترك هذا الأمر لغلبة الشهوة عليه، فلا يتحرك قلبه تجاه المنكر، وقد يكون بسبب كثرة رؤيته للمنكر تبلد إحساسه.

أسأل الله  أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، (1/ 69)، رقم: (49).
  2. أخرجه النسائي في الكبرى (10/ 279)، رقم: (11483)، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف"، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 176)، برقم: (10255).

مواد ذات صلة