السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
حديث «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي..»
تاريخ النشر: ٢٤ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 2058
مرات الإستماع: 5196

ما من نبي بعثه الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث الثاني في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل[1]. رواه مسلم

ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون: وهذا يمكن أن يحمل على الأغلب؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ في الحديث الآخر: ويأتي النبي وليس معه أحد، وقد يكون يتبعه الواحد أو الاثنان أو نحو ذلك.

وقوله ﷺ: إلا كان له من أمته حواريون أي: خلاصة الأصحاب وصفوة الأتباع، والأصحاب أعم من الحواريين؛ لأن الصاحب يطلق على كل من حصل منه صحبة، وأما الوصف بالحواري فإنه لا يكون إلا لخاصتهم وخلاصتهم، وأصفيائهم، قال: وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره أي: أنهم يتبعونه اتباعاً حقيقياً، ظاهراً وباطناً، قال: ثم إنها تخْلُف من بعدهم خُلوف أي: يأتي بعدهم تبع فاسد، وذلك أنه يقال: خلَفٌ -بفتح اللام- إذا كان ذلك في التابع الموصوف بالخير والإحسان في الغالب، يقال: فلان خير خلف لخير سلف، ويقال بإسكان اللام في الخلف السيئ، كما في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59]، ومن أهل العلم من قال: إنه يستعمل في الوجهين، ومنهم من قال: إن الفتح يستعمل فيهما وخصص الإسكان في الخلف السيئ فقط، لكن المشهور هو ما ذكرته -والله أعلم- أنه بالفتح في الخلف الطيب، وبالإسكان للخلف السيئ.

قال: ثم إنها تخْلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون وهذه هي الصفة الأولى، وهي: أن كلامهم لا يطابق أفعالهم، ويفعلون ما لا يؤمرون، وذلك أنهم يفعلون أشياء لم يطالبوا بها، ويضيعون واجباتهم الملقاة على عواتقهم، فمثل هؤلاء اشتغلوا بما يضرهم عملاً، فصار ذلك شغلاً لهم عما هم بصدده من الاتباع والعمل الصالح والنافع.

ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، وهذه أعلى الدرجات، وهذا هو الشاهد، أي: أن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمثل هؤلاء يحصل على أيديهم فساد وإفساد، فهم بحاجة إلى إنكار واحتساب؛ حتى لا يضيع المعروف، ويفشو المنكر، وتكون هذه الصورة المزرية هي النموذج الذي يعم مجتمعاتنا وهؤلاء هم الذين يمثلونها، وهم ليسوا بكفء لذلك يقول: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وهذا يوافق حديث أبي سعيد: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه[2]، وفي هذه الرواية لم يرتب هذه الأمور على الترتيب الذي في الحديث السابق، من الأقوى إلى الأوسط إلى الأضعف، فقد بدأ هنا بذكر المجاهدة باليد، ثم بالقلب، ثم باللسان، والواو لا تقتضي الترتيب وإنما تدل على مطلق الجمع والعطف فحسب، فهنا ليست مرتِّبة.

وقوله ﷺ: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، أي: أن الإيمان هنا باعتبار أنه  قول وعمل، فإزاء المنكر أعلى عمل يمكن أن يفعله الإنسان هو التغيير باليد، ثم يليه باللسان، ثم يليه بالقلب، فمن لم يغير المنكر لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه فلم يبق بعد ذلك عمل هو من الإيمان يمكن أن يقوم به تجاه المنكر، وهذا الذي اختاره بعض أهل العلم كأبي عبد الله القرطبي -رحمه الله، ومن أهل العلم من قال: إن هذا يدل على ترحل الإيمان من قلبه، إذ لا يتصور أن يبقى لهذا شيء من الإيمان في قلبه يحركه لتغيير المنكر، فمثل هذا قد انعدم الإيمان في قلبه، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

لكن الأمر الذي ينبغي أن يُعلم هو ما أشرت إليه سابقاً من أن الإنسان الذي لا يتحرك قلبه تجاه منكر لا يعني أنه قد كفر؛ لأنه قد يعتاد الإنسان على المنكرات، وقد يميل إليها لغلبة شهواته وعظيم غفلته، فيحصل منه مثل هذا الموات تجاه المنكرات، فلا يتحرك قلبه لرؤيتها، وهذه قضية يصل إليها الإنسان بعد حين، وهي قضية شائعة كثيرة، وذلك أن الناس لكثرة ما يشاهدون من المنكرات، لاسيما في البلاد التي يظهر فيها المنكر وهو الأصل في حياة الناس كالتبرج، وشرب المسكرات، ومقارفة ما لا يليق من الفواحش أو نحو ذلك، والذي يتنزه عنها يلام ويذم ويعاب، ولربما اتهم في عقله أو في عافيته؛ لأنه ليس له صديقة، فمثل تلك المجتمعات كيف يتحرك القلب الذي اعتاد هذه المنكرات؟ ولهذا يحتاج الإنسان دائماً أن ينكر وأن يبتعد دائماً عن المنكر؛ حتى لا يموت قلبه تجاه المنكرات.

ولهذا نُقل عن بعض السلف كسفيان الثوري -رحمه الله- أنه كان إذا رأى منكراً لربما بال الدمَ من شدة ما يجد في قلبه من الحرقة والألم تجاه المنكرات، والإنسان إذا رآها مرة أخرى فإن ذلك يكون أهون في نفسه من المرة الأولى، فإذا رآها ثالثة ورابعة وعاشرة ومائة فإن ذلك قد يسهل عليه ولا يتحرك قلبه نحوه، فهذا يضر قلبه، ويفسده، ولذلك لا يحسن طرح المنكرات وما يحصل من تفاصيل في أخبارها، وما جرى فيها، وما وقع لمن هم يعلمون ذلك في أصله، وإنما تكون مجرد حكايات، فسماع مثل هذه الأشياء، وكثرة طرق ذلك أعني: الأمثلة والتطبيقات والوقائع بالتفاصيل، فإن هذا يؤدي إلى ضعف الحس تجاه المنكر، فيحصل للإنسان شيء من التبلد، بل لربما يصغي إلى المنكر وإلى الفاحشة ويحصل له شيء من الالتذاذ بما يقول أو بما يسمع، ولذلك فإن المنهج الصحيح -والله تعالى أعلم- في ذكر المنكرات أن يقال ذلك لمن يُطلب منه أن ينكره، من أجل أن ينكر، أو يقال ذلك لمن يجادل أو من هو يعيش في غفلة ويقول: هذا غير موجود، فيقال: لا، بل موجود وحصل كذا وكذا.

ما من يوافقك ويعرف هذا لربما أكثر منك فالجلوس ساعات طويلة كل واحد يسرد قصة محزنة، وواقعة من الوقائع وفيها تفاصيل ما جرى من فاحشة أو نحو ذلك فهذا لا حاجة له، والمقصود هو الإنكار، فيقال: إن هذه الأشياء مثلاً قد كثرت وتتابع الناس عليها، وينبغي أن تستنهض الهمم لدفعها، وما أشبه ذلك، أما أن يأتي كل إنسان ويورد حادثة وواقعة سمع بها أو شاهدها، ثم بعد ذلك يجتمع لنا من هذا المجلس عشر أو عشرون أو ثلاثون حكاية مدمية، ثم بعد ذلك يخرج أهل المجلس كل واحد قد نكص رأسه، والألم يعصر قلبه وهو في غاية من الهم والحزن فمثل هذا أمر يفرح به الشيطان، لأن فيه انكسار القلب، والضعف، وبعث اليأس في النفوس، وهذا مرفوض، نحن بحاجة إلى قوة القلب وثباته، ولسنا بحاجة إلى مزيد من الانكسار والانهزام والضعف والخور واليأس، فمثل هؤلاء الذين يوردون مثل هذه الأشياء من غير حاجة.

نقول: هذه طريقة خاطئة، والذي يوقعنا فيها كثيراً هو أننا نتكلم ولا نفكر، فلو سألت هذا الإنسان لماذا تذكر هذه القصص والحكايات على سبيل التفصيل وأنا لست مكابراً، وأقر بأن مثل هذا المنكر موجود وواقع بين الناس، لكن لماذا تورد لي كل هذه التفاصيل وكل هذه القصص المأساوية التي حصلت؟ إن كنت تريد الإنكار فحدد أين وقعت القضية، وسيحتسب عليها المسلمون، أما مجرد القصص ويخرج كل واحد من المجلس مطأطئًا رأسه فهذا لا يليق بالعقلاء، ولا يفرح به إلا الشيطان، وأرجو أن يُفهم الكلام على وجهه، فرق بين أن أذكر ذلك عند من أطلب منه الإنكار فينكر، هذا مطلوب، أو عند من يكابر ويقول: هذا غير موجود، فهذا أحد شخصين، إما أنه لا جدوى منه أصلاً عرف أو لم يعرف، فلا داعي أن تعطيه هذه التفاصيل، إلا إذا كان الشخص ممن ينفع تبصيره بهذا فينكر، فمثل هذا يبين له، أمّا أن نأتي وكل واحد يورد قصة وحكاية، قد تكون حقيقة وقد تكون غير ذلك فهذا أمر لا يليق بالعقلاء، ويخرج الناس منه باليأس والإحباط، وهو أمر غير مطلوب.

فنحن بحاجة إلى أمور عملية دائماً، وأن نكون إيجابيين ننكر المنكر، ونقول: هنا منكر يجب أن ننكره وما أشبه ذلك، هذا هو الواجب، لكن للأسف، كثيراً ما نرسل الكلام إرسالاً من غير تبصر، لماذا قلنا هذا الكلام؟ وما الحاجة إليه؟ وما مدى النفع الذي يحصل من ورائه؟ فلو فطنا لمثل هذه الأمور لانحلت كثير من الإشكالات في نفوسنا والأحزان التي تتتابع على قلوب كثير من الغيورين من غير طائل، وذلك أنهم يحزنون أنفسهم من غير جدوى ولا فائدة، والعاقل لا يفعل هذا، ولابد أن تقوم بعمل إيجابي وتنكر، لكن كل واحد من الناس يورد حكاية ثم الحزن وفقط فهذا أمر غير جيد، وهذا من عمل الشيطان.

ولذلك فإن بعض أهل العلم قال في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور:19] قالوا: من إشاعة الفاحشة التحدث بها في المجالس، بل إن بعض أهل العلم قال في سبب نسخ اللفظ في قوله: "والشيخ والشيخة -أي الثيب- إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالاً من الله"، نسخ اللفظ وبقي الحكم، قالوا: لأنه لا يتصور أن يقع ذلك من الثيب، وبعضهم قال: لعظم بشاعته نزه الأسماع عنه، فالمقصود أن طَرْق هذه القضايا لسمع الإنسان يضعف أثر المنكر والفاحشة في النفوس، فيصبح هذا بالنسبة له قضية عادية، هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (1/ 69)، رقم: (50).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، (1/ 69)، رقم: (49).

مواد ذات صلة