الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
28 - من تفسير المعوذتين ورسالته في القياس. القواعد 348 -360‏
تاريخ النشر: ٢٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٣
التحميل: 3165
مرات الإستماع: 2630

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"ومن تفسير المعوذتين، ورسالته في القياس".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهاتان رسالتان، الأولى: من تفسير المعوذتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] وذلك من آخر ما كتب -رحمه الله-، وكان ذلك في سجن القلعة، في آخر حياته.

وهي رسالة قصيرة -على كل حال- موجودة ضمن مجموع الفتاوى في المجلد السابع عشر.

وأما رسالته في القياس هذه اسمها: من رسالة القياس، وبعضهم يسميها: رسالة في معنى القياس، وهي جواب لسؤال عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس؛ لأمور ثبتت بالنص، أو انعقد عليها الإجماع، أو قال بها بعض الصحابة، فالسؤال الذي كان يقصده السائل هو: كيف يكون ذلك مخالفًا للقياس وقد ثبت بالنص أو الإجماع، أو قاله الصحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-؟

فأجاب -رحمه الله- بجواب مفصل متين، في غاية النفع والفائدة، وبيّن أن هذه الأقيسة التي يذكرها بعض الفقهاء فيقولون: هذا على خلاف القياس، أنه قياس باطل وفاسد، ولكنه في نظر صاحبه ومعقوله يظن أنه قياس صحيح، ولكنه ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأن القياس الصحيح لا يمكن أن يعارض النص الثابت أو الإجماع، بل ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ما ثبت عن كبار الصحابة وفقهائهم، كأبي بكر وعمر، ونحو ذلك، فكل ذلك يجري على سنن القياس، وأنه لا يخالفه بحال، ولكن من الأقيسة ما هو فاسد، وإن لم يتفطن لفساده كثير من الناس، فيتوهم بعض هؤلاء أن هذا القياس قياس صحيح، وقد خالف عنده النص الصحيح، فيقولون في بعض النصوص: هذا جاء على خلاف القياس.

347- "الذي يوسوس في صدور الناس: نُفوسهم، وشياطين الجن، وشياطين الإنس".

يعني: أن نفوسهم تُوسوس، وكذلك شياطين الجن والإنس توسوس، فالنفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله -تبارك وتعالى-، وربما تأمر صاحبها وتحدّثه بمعصية الله -تبارك وتعالى-، ومخالفة أمره، فالنفس لها حركة، وتأمر صاحبها أو تنهاه، كذلك أيضًا شياطين الإنس والجن.

"والوسواس الخناس يتناول وسوسة الجِنة ووسوسة الإنس، وإلا أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط، مع أن وسوسة نفوسهم وشياطين الإنس هي مما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن".

ولهذا قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6] فيوسوس في صدور الناس، يحتمل أنه أطلق الناس على النوعين: الإنس والجن، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6] فهو يوسوس في صدور هؤلاء وهؤلاء، هذا احتمال، ولكن المعنى الثاني: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5] فتكون (من) بيانية، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6] فالناس يحصل منهم وسوسة، وكذلك أيضًا الجن يحصل منهم وسوسة للإنس، والشياطين يقال: لهؤلاء وهؤلاء، بل أكثر من ذلك، فقد قال النبي ﷺ: الكلب الأسود شيطان[1]، والله -تبارك وتعالى- ذكر شياطين الإنس والجن، وقال: يُوحِي بَعْضُهمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112] فالجن منهم شياطين، والإنس منهم شياطين، وهذه الوسوسة واقعة من هؤلاء وهؤلاء، فالإنسان الذي يدعو إلى الشر ويزينه في نفوس الناس، ولربما عابهم على تركه، هذا شيطان.

وكذلك أيضًا ما يحصل من قبيل الوساوس والخواطر التي يلقيها شياطين الجن في نفوس الناس، فكل ذلك من وسوسة الشيطان، فيستعيذ من هذا وهذا.

فشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: وإلا أيُّ معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط، مع أن وسوسة نفسه، وشياطين الإنس هي مما تضره، فهو يستعيذ إذًا من الأمرين.

348- "والشيطان تارة يحدث وسواس الشر، وتارة ينسي الخير، وكان ذلك مما يشغله به من حديث النفس".

يعني: كما في قوله -تبارك وتعالى- عن قيل الخضر: وَمَا أَنْسَانِيه إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه [الكهف:63] وقال الله -تبارك وتعالى-: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68] وهكذا أيضًا في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى-، فالشيطان ينسيه الخير، ويزين له الشر.

يقول: وكان ذلك بما يشغله به من حديث النفس، يعني: يشغله بحديث النفس عن فعل الخير، أو يجعله يشتغل بذلك عما هو بصدده فينساه؛ ولهذا يأتيه في الصلاة -على سبيل المثال- ويوسوس له، ثم بعد ذلك لا يدري كم صلى، أليس كذلك؟ فينسيه الركعة، أو ينسيه شيئًا من صلاته كالقراءة، ونحو ذلك.

ومن الطرائف في هذا أن بعضهم يسمي الحَب الذي يأكله الناس: سبحة الشيطان، يعني: هذه المسبحة يُسبح بها الإنسان يحرك يده، ويذكر ربه بلسانه، ويعد، وإن كان هذا غير مشروع، فيقول: مسبحة الشيطان ما هي؟ هو هذا الحب؛ لأنه يشغله لا يذكر الله ، ويبقى مدة وطويلة وهو يقضم، فينشغل عن الذكر، فهي سبحة الشيطان، يعني: عكس الأول، أليس كذلك؟

349- "والنسيان للحق من الشيطان، والخطأ من الشيطان".

وتجدون أنه ثبت عن جماعة من الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعلي، وعن آخرين، أنهم يقولون: فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، بعبارات متقاربة، ثبتت عن هؤلاء الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، فالخطأ يكون من الشيطان، فيخطئ إما في العبادة، وإما في العلم، وإما في الحكم.

وهذه الأشياء هي التي نقلها من تفسير المعوذتين، ثم ما يأتي بعد ذلك فهو من رسالة القياس، وعرفنا أنها فتوى جواب على سؤال، فيما يقال فيه: إنه على خلاف القياس مما ثبت بالنص أو الإجماع، أو هو منقول عن الصحابة .

350- "القياس نوعان: صحيح وفاسد".

هو الآن يُؤصل ويجيب عن هذا السؤال، كيف يمكن أن يقال: بأن هذا الذي ثبت بالنص أو الإجماع، أو هو منقول عن الصحابة على خلاف القياس؟ عبارة يذكرها بعض الفقهاء، السائل يقول: هل يأتي شيء بالنص على خلاف القياس؟ وهل يثبت شيء بالإجماع على خلاف القياس؟ وهل يقول الصحابة أشياء تخالف القياس؟ فشيخ الإسلام يرد على ذلك، ويُبيّن أنه ليس ذلك بصحيح.

"فالصحيح أن تكون العلة التي عُلق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع، يمنع حكمها".

هذا القياس نوعان: صحيح وفاسد، الصحيح أن تكون العلة التي عُلق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع، من غير معارض في الفرع، يمنع حكمها، بهذا القيد، قد تكون العلة موجودة، لكن وُجد في الفرع معارض، أي: قام به معارض يمنع الإلحاق بالأصل، كأن يكون الاستثناء ثبت بالنص، يعني: مثلاً: مسائل من أنواع المعاملات التي هي في الأصل ربوية -على سبيل المثال- العرايا، هي باب من الربا، أليس كذلك؟ والربا حرام، والعلة فيه معروفة، فبيع العرايا -وهو بيع الثمر على رؤوس النخل بخرصه- من التمر، يعني: يخرص هذا الذي فوق رؤوس النخل، كم يُقدر؟ لو قيل مثلاً: إنه ثلاثة أوسق، والوسق: ستون صاعًا، يقدره أهل الخبرة، قالوا: إنه يبلغ ثلاثة أوسق، ويراعى فيه أنه إذا جف نقص، فأهل الخبرة يعرفون: أن هذا الرطب إذا جف نقص، هو الآن أكثر من ثلاثة أوسق لكنهم لا يحسبونه باعتبار حاله الآن وهو رطب، وإنما هم يعتبرونه فيما إذا جف كم يبلغ؟ فيقدرونه يقولون: ثلاثة أوسق، فيستطيع أن يبيع صاحب التمر، صاحب هذا الرطب، ويقايضه به، وهذا على سبيل التقدير، ومعلوم أن التمر من الأموال الربوية، فلا بد فيه من التماثل والتقابض، الآن التماثل هل هو متحقق؟ أو أن المسألة خرص؟ هي خرص، فهنا يصح البيع وإلا ما يصح؟ إذا أتينا للأصل هذا باب من الربا، فالعلة موجودة في الأصل، لكن وُجد مانع في الفرع يمنع الإلحاق، ما هو المانع؟ رخص النبي ﷺ في العرايا[2]، فهذا مانع في الفرع، فما نُلحق ذلك به، وإلا الأصل الإلحاق، فكل ما وجدت فيه العلة ألحقناه بالأصل، وقلنا: هذا ربا، ولو لم يرد فيه دليل معين؛ لأن القياس صحيح دل عليه؛ ولهذا ألحقت أشياء بغيرها، فإذا قلنا: إن العلة هي مثلاً الكيل، والوزن، أو الثمنية في الذهب والفضة مثلاً، أو غير ذلك مما قد يقال، على خلاف بين أهل العلم في العلة، فإذا أثبتنا علة مفردة أو مركبة، مفردة مثل أن نقول مثلاً: الكيل أو الوزن، مركبة: كأن نقول: الكيل والطعم، أو الكيل والقوت، أو الكيل والادخار، مثلاً على خلاف بين أهل العلم، وإلا ففي أشياء مكيلة وأشياء أخرى ليست مطعومة، وهناك أشياء مطعومة ليست ربوية.

يقول: فالصحيح أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع، نقول: من غير معارض في الفرع يمنع حكمها.

"ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط".

إذا وجدت العلة في الأصل، وتحققت في الفرع من غير معارض في الفرع، هنا الإلحاق مباشرة، فهذا لا يمكن أن يقال: بأن الشريعة تأتي على خلافه، أو يثبت النص على خلافه، إطلاقًا، طيب حينما يقولون: العرايا على خلاف القياس، نقول: نعم؛ لأنه مستثنى بالنص؛ لماذا؟ إرفاقًا بالمكلفين، وهناك صور أخرى مستثناة يأتي الكلام عليها -إن شاء الله-، فما ورد استثناؤه لا يلحق، لكن لا يقال: إنه على خلاف قياس.

"وكذلك القياس بإلغاء الفارق".

القياس الأول الذي يتكلم عليه، هو القياس الذي عند الفقهاء، والذي يسمونه: قياس التمثيل، الذي هو قياس العلة، وهو الذي يعقدون له الباب الرابع من الأدلة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؛ فقياس التمثيل، وهو قياس الفقهاء، وهو إلحاق فرع بأصل في حكمٍ لعلة جامعة بينهما، وهناك أنواع أخرى صحيحة من القياس، وهنا يقول: كذلك القياس بإلغاء الفارق، هذا بعض من ينكر القياس لا يسميه قياسًا، وبعضهم يسميه قياسًا، ولا إشكال في التسمية، فهذا من مفهوم الموافقة، بنوعيه: المساوي، والأعلى، الذي يسمونه فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، فَلَا تَقُلْ لَهمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فالضرب من باب أولى، ما فيه داعي هنا نقول: في فرع وأصل نلحق الفرع بالأصل في حكمٍ لعلة جامعة بينهما، نطول هذا التطويل، وإنما نقول: نهي عن التأفيف فالضرب من باب أولى، وهناك مساوي، فهذا بإلغاء الفارق، مثل: جاء النهي عن أكل مال اليتيم، فتغريق مال اليتيم، وإحراقه يجوز ولا ما يجوز؟ لو جاء إنسان وقال: أنا أبقى على ظاهر النص النهي عن الأكل، أنا لن آكل مال اليتيم، ولكن سأنفق مال اليتيم في أماكن الترفيه، فأنا ما أكلت مال اليتيم، سأشتري به أثاث، أو ألعاب، أو سيارة، فما أكلت مال اليتيم، أعوذ بالله، أنا لن أدخل جوفي إلا طيب، نقول: لا فرق بين أكل مال اليتيم وبين إتلافه بأي طريقة كانت، فهذا يسمونه بنفي الفارق.

يقول: بإلغاء الفارق، وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه أبدًا، إذن لا قياس التمثيل -قياس الفقهاء-، ولا هذا القياس بنفي الفارق.

"وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر".

هذا الذي ذكرته آنفًا، وهو أنه ما وُجد على خلاف ذلك، فهذا لا بد لأمر تعلق به، لوصف قام به، منع من الإلحاق، لكن لم يتفطن له هذا الذي قال: إن ذلك ثبت على خلاف القياس، فيقال: أبدًا ما ثبت على خلاف القياس.

يقول: فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل: أن يعلم صحته كل أحد، يقصد باختصار: إن هؤلاء يخطؤون في قولهم: إنه على خلاف القياس، وهذه العبارة تحتجون إليها دائمًا طول العمر؛ لأنكم ستجدون في كتب الفقه، وشروح الحديث، وكتب أصول الفقه، وبعض التفاصيل في القواعد الفقهية، وبعض كتب التفسير: أشياء من هذا القبيل، يقولون: على خلاف القياس.

"فمن رأى من الشريعة شيئًا مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه".

والذي ظنه كذلك.

"ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس علمنا قطعًا أنه قياس فاسد، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصورة التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم، فليس في الشريعة ما يُخالف قياسًا صحيحًا، لكن فيها ما يُخالف القياس الفاسد، وإن كان في الناس من لا يعلم فساده، ثم ذكر على هذا الأصل أمثلة كثيرة".

مثل ما ذكرنا لكم في العرايا، وقضايا تتعلق بأنواع من المعاملات التي هي في الأصل يمكن أن تكون ملحقة بالربا، أو ببعض أنواع البيوع المحرمة، ولكن ذلك استُثني، ومن شاء التفصيل فليراجع كلامه، وما ذكره بعده هو تابع لهذا الكلام، وهو تفصيل لذلك.

351- "العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يكون العمل مقصودًا، معلومًا، مقدورًا على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة".

الإجارة اللازمة: أن يكون العمل مقصودًا، معلومًا، مقدورًا على تسليمه، تتعاقد معه عقد إجارة، كأجير يعمل عندك على إنجاز شيء معين، تقول له مثلاً: نظف لي هذا السجاد في المسجد، على أجرة معينة، وعمل معلوم محدد، يمتر هذا السجاد، ويحدد الأجرة، ثم بعد ذلك ينجز هذا العمل، فهذا عمل معلوم، أو اغسل لي هذه الثياب، هذه إجارة، أو أوصلني إلى المكان الفلاني بهذه السيارة، هذه تُسمى إجارة معلومة على عمل معين، فهذا إجارة على عمل محدد، معين، معلوم، فهذا لا إشكال فيه.

"والثاني: أن يكون العمل مقصودًا لكنه مجهول، أو غرر، فهذه الجعالة، وهي عقد جائز لا لازم".

الآن العمل مقصود، لكنه مجهول أو غرر، لاحظ الفرق بين الصورتين، الصورة التي قبلها، تقول له: نظف لي هذا السجاد، أو ابن لي هذا الجدار على كذا من المال، هذه أجرة، سواء كانت هذه الأجرة نهائية، أو كانت هذه الأجرة مجزأة، كأن تقول: لك باليوم كذا، إذا كان العمل يمتد، أو لك بكل شهر كذا، أو لك في السنة كذا، فهذه يقال: لها إجارة.

النوع الثاني: العمل مقصود، لكنه مجهول أو غرر، فهذه جَعالة، يقول: عقد جائز ليس بلازم، هذا جَعالة، تقول مثلاً: من رد عبدي الآبق فله كذا، أو سرقت سيارته فقال: الذي يجد السيارة سأعطيه عشرة آلاف، أو فقد طفله فقال: الذي يجد هذا الولد له مائة ألف، وأعلن هذا، فبدأ الناس يبحثون، أو فقد مالاً، أو فقد عقدًا، أو ذهبًا، في مكان معين، كفلاة، أو في صحراء، أو في كذا، وقال لمن حضره: من وجده سأعطيه كذا، بدأ الناس يبحثون اليوم الأول والثاني، وتعبوا، ثم ما وجدوا شيئًا، هل يستحقون أجرة؟ لا يستحقون شيئًا، ففي هذا غرر، فقد يجده أحدهم مباشرة بدون تعب، وقد يتعب الآخر يبحث أيامًا، وقد لا يجده، أليس كذلك؟

أو كمن ضل له رفقة في صحراء واسعة في الربع الخالي، وقال: الذي يجدهم سأعطيه مائة ألف، فانطلق أناس يبحثون، ويركبون الأخطار، فقد يجدهم في لحظة، وبأقرب مكان، ويأخذ المال، وقد يجدهم بعد عناء طويل، وقد لا يجد شيئًا، أليس كذلك؟ فلاحظ هنا يوجد غرر، فهل هذا مثل: ابن لي هذا الجدار، أو نظف لي هذا الفرش في المسجد، أو خط لي هذا الثوب؟ هذا معلوم ومقصود، فالأول يقال له: إجارة، والثاني يقال له: جعالة، حتى في مسائل العلم تقول: في عبارة مثلاً لشيخ الإسلام ابن تيمية، بحثتُ عنها ولم أجدها، فمن وجدها سأعطيه كذا، ويبحث الناس، فقد يجدها مباشرة بأول ما يفتح صفحة من كتاب، وقد يجلس أيامًا، وهو يقلب الكتب، ويجرد مجموع الفتاوى، ولا يجدها، فهذه تُسمى جعالة، فيها غرر، قد يجد وقد لا يجد، وقد يكون ذلك بجهد يسير، وقد يكون بجهد كبير، فهذا النوع الثاني، وهذه لا إشكال فيها.

"والثالث: ما لا يقصد به العمل، بل المقصود المال، وهو المضاربة".

 

الآن ليس المقصود العمل، ليس من يجد لي كذا مثلاً، أو ابن لي هذا الجدار، أو نحو ذلك، وإنما المقصود المال، وتحصيل أرباح، فهو المضاربة، بصرف النظر عن العمل، المقصود تنمية المال، سواء عمل معه آخرون، أو عمل بنفسه، أو غير ذلك من الوسائل، المقصود تثمير المال، وهو المضاربة.

"وهذه من جنس المشاركات، هذا بنفع بدنه، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من الربح كان بينهما على الإشاعة".

على الإشاعة يعني: أنه لا يجوز التحديد فيه، كأن يقول: هذه مليون، اشتغل بها، وتعطيني كل شهر مائة ألف، أو أن يقول: اشتغل بهذه المليون، ولك أرباح كل شهر عشرة آلاف، هذا لا يصح في المضاربات، لا بد أن يكون مشاعًا من صافي الأرباح، كأن يقول: لك من صافي الربح 50%، أو 30%، أو 10%، مشاع، لا يلتزم له بمبلغ معين محدد يعطيه إياه، فهذا لا يصح.

وبعض الناس في أوقات العافية، ولشدة ثقته بنفسه، أو قلة مبالاته يقول: هات المال، ولك (50000) ألف، في حسابك كل شهر، هذا لا يجوز، ثم لما يختصمون يقول: هو التزم، هذا العقد الذي بينا (50000) ألف كل شهر، نقول: هذا ما يصح أصلاً، هذه ليست مضاربة، قد لا يربح، وقد يربح أضعاف هذا، فهذا لا يجوز، لكن يكون على الإشاعة، يعني: يكون مشاعًا 50 %، 40%، 30%، وليس بمبلغ محدد، كعشرة آلاف، خمسين ألف، أو نحو ذلك، فهذا كمال العدل فيها، وخلافه ظلم.

قال: ولو شُرط لأحدهما شيء خاص خرجت من العدل إلى الظلم، كما سبق: كأن يقول له: لك كل شهر كذا، فهذا لا يجوز، هذا النوع الثالث.

352- "وما نهى عنه النبي ﷺ من المعاملات كبيع الغرر".

هذا الكلام يفصل فيه، فيقول: العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع، وهذا كله داخل في تفصيل جوابه عن قولهم في بعض المسائل: إنه على خلاف القياس، يقول: ما فيه شيء من هذا على خلاف القياس، فالإجارة على عمل محدد، هذا لا إشكال فيه، والجعالة: أن يكون العمل هو المقصود، فهذا ليس على خلاف القياس، والثالث الذي هو المضاربة كذلك أيضًا، قد لا يربح في المضاربة، ويذهب عمله، يعمل سنة كاملة بمال هذا، ثم النتيجة لا يوجد ربح، فقط رأس المال هو الذي استرد، فما النتيجة؟ هذا العامل ليس له شيء، سنة كاملة يعمل الليل والنهار؛ لماذا؟ لأن هذه هي المضاربة، ليست إجارة، وليست جعالة، واضح الفرق؟

"وما نهى عنه النبي ﷺ من المعاملات كبيع الغرر، والثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع السنين، وحَبلُ الحَبَلة، وبيع المزابنة، والمحاقلة، ونحو ذلك، فهي داخلة إما في الربا، أو الميسر".

هذه نماذج من المعاملات المحرمة، يعني: الأشياء التي حرمت في المعاملات، إما أن تكون لأنها معاملات ربوية، أو لكونها مما يدخله الجهالة، أو الغرر غير المغتفر، فهناك جهالة وغرر يسير يُغتفر، لكن هناك شيء لا يُغتفر، فهنا يقول: ما نهى عنه النبي ﷺ من المعاملات، كبيع الغرر، كما في حديث أبي هريرة : نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر[3]، بيع الغرر، مثل ماذا؟ بعض الأنواع المذكورة تحته هي من جملة بيع الغرر، ومن جملة بيع الغرر هؤلاء الذين يحتالون على الناس في معارض السيارات، إذا جاء يبيع السيارة قال: أنا أبيع كوم من حديد، أنا لا أبيعك سيارة، هذا كوم من حديد، على أساس أنه إذا أخذها ووجد المكينة سيئة، ورجع بالعيب، قال: أنا ما بعتك سيارة، أنا بعتك كوم من حديد، نقول: هذا ما ينفع أبدًا، فالناس ما جاؤوا يشترون منك كوم من حديد، لو أرادوا كوم من حديد لذهبوا للمحرقة، أما هنا فهم أتوا يشترون سيارات، فإذا وجد فيها عيب معتبر فله أن يأخذ فارق الثمن الأرش، أو الرد، فهؤلاء المساكين من الجهلة يظنون أنهم بهذا يتورعون ويتخلصون من التبعة، وهذا لا يجدي عنهم شيئًا.

فهنا بيع الغرر، والثمرة قبل بدو صلاحها، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-[4]، والنهي عن الثمرة قبل بدو الصلاح: الحب حتى يشتد، والرطب حتى يبدو فيه اللون، يحمر أو يصفر[5]؛ لماذا؟ لأنه يكون بإذن الله في الغالب قد جاوز الآفة؛ لأن الآفة غالبًا تقع قبل بدو الصلاح، يعني: الآن انظر في الآفات التي تقع في الرطب، هذا الذي يسمونه الغُبير، وهو القنو الذي فيه الثمر، قبل أن يبدو فيه اللون أحيانًا يصاب بآفة، مثل الغبار يصير عليه، فيتغير لونه، ثم بعد ذلك تفسد الثمرة، فيعالجونه بمعالجات، فيضعون عليه كبريت أو مادة بيضاء، وألوان من المعالجات لتفادي مثل هذا، هذا إذا كان لونه أخضر، فإذا بدا فيه اللون، وسلم من هذا، فإنه بإذن الله يكون قد جاوز مرحلة الخطر؛ ولذلك يضعون عليه هذه المعالجات قبل بدو اللون، إذا بدا اللون لا إشكال، فيكون قد جاوز مرحلة الخطر، فلا تباع الثمر قبل بدو صلاحها، فهذا الثمر -ثمر النخيل- في بداياته حينما يكون أخضر مستدير في أوله، أو في وسطه، لكن قبل بدو اللون يكون عرضة للآفات، ففي مثل هذه الحال لا يجوز بيعه؛ لأنه عرضة للآفة، فيفسد هذا الثمر جميعًا، أحيانًا البستان بكامله، فإذا بدا فيه اللون، وبدأ يحمر أو يصفر يكون جاوز الآفة بإذن الله ، فيجوز بيعه، فهذا نهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها، وهذا في الرطب وغيره.

قال: وبيع السنين، يعني: بيع ما يحمله الشجر لسنوات، الآن ما الذي يحصل في الأسواق؟ وخذ على سبيل المثال أسواق التمر، وبخاصة الأنواع النفيسة التي يشتريها التجار، والآن يُوجد من يتخصصون بشراء البساتين، فيشترون بملايين، فيذهبون إلى صاحب البستان هذا، ويقولون له: نحن نشتري منك ثمر البستان كاملاً، فقد يحملهم الطمع على شراء ذلك لمدة سنوات، فيقولون: نشتري منك ثمر هذا البستان لمدة عشر سنوات قادمة، هل يجوز هذا؟ هذا لا يجوز؛ لماذا؟ لأن هذا الثمر قد لا يخرج، وقد يفسد، فيكون فيه من الغرر ما لا يخفى، هذا بيع السنين.

وحبل الحبلة: أيضًا جاء النهي عنه، وحبل الحبلة كانوا في الجاهلية يبيعه ما تحمله التي في بطن الناقة، يقول: أبيعك ولد ولد الجنين، طيب هذا الجنين قد يكون ذكرًا، قد لا يكون أنثى تحمل، وقد يموت، وقد لا يحصل له حمل، يأتون بفحل يطرقها، ثم بعد ذلك لا يحصل لها الحمل مرة بعد مرة، فهذا يبيعه ليس الجنين الذي في البطن فحسب، بل يبيعه ما يحمله الجنين، أو ما يكون من ولد الجنين، وهذا فيه غرر وجهالة، وهو لا يجوز بحال من الأحوال.

فيقول: ما تنتج هذه الناقة ما في بطنها، ثم تحمل، ثم تُنتج، فذاك أبيعك إياه بكذا، أنتم قد تستبعدون هذا وتستغربون، لكن لو نظرتم إلى حال بعض الناس في الطمع في شراء الثمر، خاصة البساتين الجيدة التي عُرفت، وثمار من نوعيات جيدة، تجد هناك أناس يكاد الواحد منهم يحتكر السوق، يشتري البساتين، بعشرات الملايين، ثم بعد ذلك يتحكم بالأسعار.

فيما يتعلق بالإبل مثلاً بيع الذي في بطنها، يظهر في هذا التنافس الذي يسمونه المزايين مثلاً، هذه ناقة جيدة أبوها فلان، فماذا يتوقع الذي في بطنها؟ ومن يشابه أبه فما ظلم، فالغالب أنها تكون كأبيها، فتباع بأغلى الأثمان، فإذا كان قد باع ما في بطنها، فيأتي آخر يريد أن يشتري، فيقول له: لا بأس أبيعك ولد الذي في بطنها من الآن، هات مائة ألف، فهذا واقع، ونحن نستبعد مثل هذه الأشياء، ونقول: ما هذا؟ يبيع ما في بطن الذي في بطنها؟! ما هذا التكلف؟ والواقع لو عرفتم قيمة هذه الأشياء عند أهلها، وتنافسهم على هذه الأمور، لوجدتم أن هذا واقع عندهم للأسف، فأحدهم يتمنى أن يُحصل من نسل من هذا الجمل شيئًا، ولو ولد ولد التي في البطن، وقد يكون هذا ولد التي في البطن نزعه عرق سيء، له جد رديء، فصار مثل جده، فلا يكون كما كان يؤمله، والله المستعان.

قال: وبيع المزابنة، وتكلمنا على هذا، بيع التمر بالثمر كيلاً، والعنب بالزبيب كيلاً، التي هي العرايا، بيع المزابنة، والمحاقلة يعني: يؤجره الأرض ببعض ما تنبت، وبعضهم يقول: غير هذا، يبيع الحب بسنبله بالبُر مثلاً، ولا يكون ذلك متساويًا، والواجب في مثل هذا التساوي والتماثل، ونحو ذلك، وكل هذه الأشياء داخلة إما في الربا، أو في الميسر، الميسر لما فيه من الغرر، فمثل هذا الذي يبيعه، ولد الجنين الذي في بطنها، هذا داخل في جملة الميسر، وسائر أنواع البيوع التي حُرمت من أجل الغرر فذلك من قبيل الميسر؛ ولهذا بعضهم يقول: إن تجارة الأسهم، وبيعها، والاشتغال بها، بالطريق التي نشاهدها، ترتفع وتنزل، ويدخل أناس، ويخرج آخرون، فيلعبون بالسوق، إلى آخره، بعض أهل العلم يقول: هذا لون من المقامرة والميسر، وأنها ليست تجارة نظيفة وسليمة.

353- "وأما المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، فليس فيها شيء من الميسر، بل هي من أقوم العدل".

المضاربة سواء كانت بالمال، بحيث يدفع هذا مال وهذا مال، أو كانت من مال أحدهما، والآخر يعمل بنفسه، كما سبق.

وهكذا المساقات يعطيه شجر، أو نحو ذلك، فيشتغل بسقيه على أن يكون له مقابل ذلك جزء معلوم من الثمر، وهكذا المزارعة، يعطيه الأرض ويقول: أزرع بجزء معلوم مما يخرج منها، يقول: فهذا ليس فيه شيء من الميسر، بل هي من أقوم العدل، شيء مما يخرج منها، كأن يقول له مثلاً: اسق هذا النخيل، وبيننا الثمر بالنصف، هذا لا إشكال فيه، قد يفسد الثمر هذا عند الله ، لكن هذه معاملة عادلة، ولو أردنا أن نجعل المعاملة بصورة أخرى صحيحة نقول: إجارة، اشتغل بسقي هذا الشجر، ولك كل شهر كذا، يُستأجر على السقي، تسقي هذا الشجر كل يوم مرة، في أول النهار، أو في آخر النهار مثلاً، ولك في الشهر كذا، أو لك في اليوم كذا، أو في الأسبوع كذا، هذا لا إشكال فيه، وكان الناس قديمًا يعطيه باليوم إما طعام معين، وإما أن يعطيه باليوم مبلغ معين، كريال مثلاً، وقديمًا كان الريال يساوي شيئًا كثيرًا، فيعطيه كل يوم ريالاً، ويشتغل، فهذه تُسمى إجارة، وأما إذا قال: الثمرة بيننا النصف مثلاً، فهذه تُسمى مساقاة أو مزارعة.

354- "الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها".

هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في مقام الجواب عمن قال: بأن تطهير الماء النجس أنه على خلاف القياس، وقعت فيه نجاسة فصار حكمه أنه نجس، فيرد عليه شيخ الإسلام فيقول: الأمر مرتبط بالعلة، يعني: الآن كل هذا الكلام هو شرح وتفصيل ومناقشات، والشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- ذكر لها أرقامًا، وجعلها على صورة فوائد أو مسائل، وإلا فهو في مضامين الرد على من قال: إنه يوجد أشياء على خلاف القياس، أين هي؟ المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، والمغارسة، وما أشبه ذلك كالعرايا الذي هي المزابنة، يقول: هذا ليس على خلاف القياس.

وهكذا أيضًا هنا يقول: هؤلاء الذين يقولون: إن تطهير الماء على خلاف القياس، يقول: أبدًا الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها؛ لماذا صار نجسًا؟ لوجود النجاسة التي غيرت أحد الأوصاف الثلاثة: الطعم، أو اللون، أو الرائحة، فإذا زالت العلة فإنه يكون طاهرًا، وإما بالمكاثرة، هذا جدول من ماء، أو بركة من ماء، فإذا فتحنا عليها نهرًا، فغمرها الماء، أو هذا الكأس الذي فيه ماء، وهذا الماء تغيرت أحد أوصافه، فصبينا عليه ماءًا كثيرًا، فإنه يكون بذلك قد طهر، والنبي ﷺ أمر بالصب على بول الأعرابي الذي بال في المسجد ذنوبًا من ماء[6]، فالتطهير يحصل أحيانًا بالمكاثرة، وأحيانًا بمؤثرات أخرى من عمليات ترشيح وتبخير وتصفية، وما إلى ذلك، فإذا زالت الأوصاف فإنه يكون طاهرًا، سواء كان بعمل الإنسان، أو بأمور طبيعية: من الهواء، والشمس، وما إلى ذلك، فالعبرة بوجود العلة، إذا وجدت وُجد الحكم، زالت العلة زال الحكم، مثل ماذا أيضًا؟ كالخمر عند من يقول: بأنها نجسة العين، والراجح -والله أعلم- إن نجاسة الخمر معنوية، وليست حسية، لكن عند من يقول: إنها نجسة العين، إذا تخللت من نفسها صارت خلاً بدون عمل الإنسان؛ لأنه لا يجوز له أن يخللها، يجب عليه أراقة الخمر وإتلافها، لكن لو أنها تخللت من نفسها، عنده خمر ونسيها يريد أن يتلفها فنسيها، فتخللت، فإنها تطهر، ولا يقال: إن هذا على خلاف القياس، وهكذا في كل حكم ثبت بعلة فإنه يزول بزوالها، وهكذا الميتة حينما تستحيل بملح، فما الحكم؟ هل تكون نجسة؟ الجواب: لا.

وهذه الأشياء -أعزكم الله- التي توضع من قبيل السماد بأشياء نجسة، حينما تتحول إلى أشجار وأوراق وثمر، وما إلى ذلك، هل يقال: إنها نجسة؟ الجواب: لا، ليست كذلك.

355- "إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدّم أرجحهما".

هذا في الموازنة، وذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في سياق المنع من بيع الغرر، الآن هذا الغرر متفاوت، فحينما أبيع لك سيارة، وغاية ما هنالك: أنك تنظر إليها، وتجربها، وتنظر في داخلها، وتفتح المكينة، وتنظر فيها، لكن هل ستفتح كل أجهزة السيارة، وكل آلاتها، وتنظر في داخلها، وماذا يوجد فيها؟ وتفتح العجلات وتنظر ما بداخلها، وتفتح قطع السيارة والهيكل حتى تنظر ما تحته وما في داخله.

أو بعنا لك هذا البيت، هل تحتاج تحفر في الأساسات، حتى تنظر هذه الأساسات، وتنظر في كل التفاصيل الداخلية، وما داخل هذا الجدار؟ هذا لا يمكن.

وقل مثل ذلك في الأشياء التي تغتفر، فهذه الثمار التي تباع: الفواكه، والخضروات، وما أشبه ذلك، هل يقال: لا يصح البيع حتى تفتح كل ثمرة، وتنظر ما في داخلها، فلو فُعل ذلك لفسدت تلك الثمار!

يقول هنا: إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدّم أرجحهما، والقاعدة: أنه إذا تعارضت المفسدة والمصلحة فيقال: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولكني ذكرتُ -في بعض المناسبات- أن هذا ليس على إطلاقه، فعندنا الضرورات، والحاجيات، والتحسينيات، على هذا الترتيب، ثلاثة أشياء يعني: مجموع ما جاءت به الشريعة: إما ضروري، فهذا هو الأعلى، وإما حاجي، وإما تحسيني، فالضروري ما لا تستقيم حياة الناس إلا به، وهي خمسة أشياء: الدين أعلاها، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، فهذه الضرورات الخمس.

يليها الحاجيات، وهي دونها، وهي ما لو لم توجد للحق الناس الحرج والضيق، مثل: البيع، والشراء، والإجارة، وتبادل المصالح والمنافع.

والتحسينيات وهي ما يكون به قيام المروءات، ويحفظ للناس كرامتهم، وماء وجوههم، وما إلى ذلك، وما يحمل الناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأمور، كسنن الفطرة، ولو كان واجبًا شرعًا، لكن هي من هذا الصنف، مثل: إعفاء اللحية، وسنن الفطرة، والأخذ من الشعر الذي أُمر بأخذه، وقل مثل ذلك في الحجاب، والولي في النكاح بالنسبة للمرأة؛ لئلا تبدو المرأة كأنها تتطلع إلى الرجال لتتزوج، فتقوم بالعقد على بضعها، وإنما يقوم نيابة عنها وليها، هذا يقال له: التحسينيات، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب.

فعندنا الآن إذا تعارضت المفسدة والمصلحة، نقدم الأعلى، يعني الآن المصلحة تتعلق بالضروريات، والمفسدة تتعلق بالحاجيات أو بالتحسينيات، ماذا نقدم؟ الأعلى الذي هو المصلحة، فهنا لا نقول: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

نريد مثالاً على مصلحة في ضروري، ومفسدة في حاجي أو في تحسيني مثل ماذا؟

الضروري قلنا أعلاها: الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، مصلحة عليا ومفسدة أدنى تعارضتا، هاتوا مثال عليها.

الجهاد في سبيل الله فيه مفسدة، طبعًا مفسدة في عبارات الأصوليين ويقصدون ما يحصل به من تلف الأموال والأنفس، لكن هذا شرعًا ليس بمفسدة، وإنما شهادة، فيحصل تلف للضروريات النفس والمال، لكنه في سبيل حفظ الدين، فهنا نقول: تُقدم المصلحة العليا على المفسدة الدنيا، ولم نقل هنا: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بل راعينا الأعلى، فإن تساوت المصلحة والمفسدة في المرتبة، فكلاهما في مرتبة واحدة، يتعلقان بالنفس مثلاً، فهنا ماذا نقول؟ هل نقول مثلاً: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة بإطلاق؟ أو نقول: إن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة مثلاً، ففي حال التساوي ننظر إلى العام والخاص، فنقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، هذا في تزاحم المصالح، فإن تزاحمت مفسدة ومصلحة في مرتبة واحدة، فهنا نقول: بأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وإلا فإن قاعدة المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة يراعى فيها ما سبق من المراتب، وليست على إطلاقها.

فيقول شيخ الإسلام هنا: إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدّم أرجحهما، ذكر هذا في سياق المنع من بيع الغرر، فلو قلنا: إن الغرر يجب أن ينتفي بالكلية، حتى لو كان يسيرًا، لتعطلت معاملات الناس، وهذه مفسدة عظيمة، فهنا نقدم الأرجح، نقول: يغتفر الغرر اليسير في سبيل تحصيل المصالح العظيمة.

356- "القبض في الأعيان والمنافع، كالقبض في الدين، تارة يكون موجب العقد قبضه عقبه بحسب الإمكان، وتارة يكون موجب العقد تأخير التسليم لمصلحه من المصالح".

هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ردًا على من زعم أن موجب العقد استحقاق التسليم عقبه، يعني: لا بد التسليم مباشرة، فشيخ الإسلام يقول: القبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين، تارة يكون بموجب العقد قبضه عقبه، يعني: بحسب الإمكان، وتارة يكون موجب العقد تأخير التسليم لمصلحة من المصالح، فعقد السلم مثلاً هل يكون التسليم فيه مباشرة؟ الجواب: لا.

العقود الإنشائية متى يكون التسليم؟ بعد الفراغ، وإتمام المشروع، قال له: هذا عقد بيننا على أن تبني لي هذه العمارة، وتسلم لي المفتاح، هذا لا يمكن التسليم فيه مباشرة، في هذه العقود الإنشائية، بل لو وجد شرط بينهما، بحيث قال له: أنا أبيع لك هذا البيت بشرط أن أسكن فيه لمدة سنة، أو أبيعك هذا الجمل بشرط أن أركبه إلى المدينة، كما فعل جابر -رضي الله تعالى عنه-[7]، فهذا لا إشكال فيه، فليس موجب العقد التسليم مباشرة، يعني: العقد لا يقتضي لزوم التسليم مباشرة، وشيخ الإسلام يقول هذا الكلام ردًا على من زعم ذلك.

357- "وقد ذكر الله في آخر البقرة أحكام الأموال، وهي ثلاثة أصناف: عدل، وفضل، وظلم، فالعدل البيع، والظلم الربا، والفضل الصدقة، فمدح المتصدقين، وذكر ثوابهم، وذم المرابين وبيّن عقابهم، وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى".

البيع حق، هذا الثمن مقابل كذا، فهذا لا إشكال فيه، هذا عدل، والظلم: أن يأخذ أموال الناس بغير حق، كالربا، والصدقة: أن يعطيه من هذا المال، ويحسن إليه من غير مقابل، فهذا فضل.

358- "ومن الأصول الكلية: أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، وأن المضطر إليه بلا معصية غير محظور، فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد، ولم يحرم ما يضطر إليه العبد".

يقول: هذا من يُسر هذه الشريعة، أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، وهذا السقوط إما أن يكون إلى بدل، أو إلى غير بدل، يعني: عجز عن القيام في الصلاة فيجلس، يصلي قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، عجز عن الوضوء فالتيمم، فالمعجوز عنه يسقط، إما إلى بدل، وإما إلى غير بدل.

يقول: وأن المضطر إليه بلا معصية غير محظور، يعني: هذا الإنسان سافر سفرًا مباحًا أو مشروعًا للحج أو للعمرة، أو للتجارة، فحصل له جوع أو عطش شديد، ولم يجد إلا ميتة، فهنا يجوز أكلها.

واختلفوا فيمن كان سفره سفر معصية، كمن ذهب سياحة إلى بلد يكون فيها التبرج والسفور والعري، وما إلى ذلك، ثم صار في حال من الهلكة، يحتاج أن يأكل الميتة، أو يشرب خمرًا؛ ليدفع غصة، فبعض العلماء يقولون: لا يُرخص لهذا العاصي بسفره، مثل هذه الأمور التي تباح للمضطرين.

فذكر شيخ الإسلام أمثلة لمثل هذه القضية، من عجز عن مصافة غيره في الصف، ولم يستطع التقدم أيضًا ليصلي مع الإمام، شيخ الإسلام يقول: يصلي وحده للحاجة؛ لأنه يسقط عنه المطالبة، عجز عن ذلك.

يقول: لأن الواجبات تسقط للحاجة، كما يسقط بعضها في صلاة الخوف للحاجة، محافظة على الجماعة، ففي صلاة الخوف تعرفون أحيانًا تكون بالإيماء، فلا يوجد ركوع ولا سجود، ولا جلسة بين السجدتين، إلى غير ذلك، بل على قول بعض أهل العلم: إن الصلاة تختصر، فيصلي الصلاة التي تكون من ركعتين ركعة واحدة، كما يقول بعض أهل العلم.

فيقول: هذا الاختصار للأركان، وسقوط الركوع والسجود من أجل الجماعة، يقول: هذا يدل على أن الواجبات تسقط للحاجة، فإذا ما وجد أحدًا يقوم معه في الصف، فهنا يريد أن يدرك الجماعة فهذه حاجة، فلا نقول: انتظر حتى تفوت الصلاة، أو تجد أحدًا، فشيخ الإسلام يرى أنه يصلي وحده، إذا لم يجد فرجة، ولم يستطع الدخول حتى يصلي بجانب الإمام.

والمسألة فيها خلاف معروف، لكن هنا يقول: بأن الواجبات تسقط للحاجة، ويمثل لهذا بصلاة الخوف من أجل الجماعة سقطت أركانها.

359- "ومن أدى عن غيره دينًا واجبًا بنية الرجوع رجع لا سيما إذا كان له فيه حق".  

هذا ذكر في أوله بما وقع من الخلاف بين الفقهاء -رحمهم الله-، فيمن أدى عن غيره واجبًا بغير إذنه، كالدين، هذا إنسان عليه دين، وجاء هؤلاء الناس يطالبونه، وجاءوا بالجهات المختصة؛ لتقبض عليه، فلما رآهم، ويعلم أن هذا ما عنده شيء، جاء وأدى عنه الدين، وقال: اتركوه هذا ما عنده، والسجن لن يجدي، وعنده أطفال وأولاد سيضيعون، فأدى عنه هذا الدين، أو إنسان غائب، أو أنه في حبس، أو نحو ذلك، فجاء صاحب العمارة المؤجِر ويريد الإيجار من أولاده، أو يخرجهم، فجاء إنسان ودفع الإيجار عنهم، سنة بعد سنة، ورجع الغائب، أو خرج المحبوس، فقال له: أنا دفعت عنك هذا الإيجار لهذه السنوات، فقال: ومن الذي أمرك؟ وأذن لك؟ ومن الذي طلب منك؟ طيب أولادك سيخرجون إلى الشارع، فما أردت أن يكونوا بهذه الحال، قال: لا، أنا ما أذنت لك، فليس لك عندي شيء، هذا ما يصح، بل يرجع عليه بذلك، ويطالبه به.

وقل مثل ذلك: لو أن هؤلاء الناس سافروا، فجاء اللصوص وكسروا الأبواب، ونحو ذلك، فجاء هذا بنجار وأصلحها، وجاء بحدد وأصلح، ودفع أموالاً في ذلك، ثم رجعوا، وقال لهم: أنا أصلحت كل هذه الأشياء، وغيرت الأبواب والمفاتيح، وكل هذه الأشياء، قالوا: من أمرك بهذا؟ فقال: رأيتُ بابكم مكسر ومفتوح، وعرضة للسراق، قالوا: نحن ما أمرناك، ولا أذنا لك، فشرعًا يحق له المطالبة بذلك.

وهكذا لو وجد بيته وسيارته تحترق، فاشترى طفاية، وجلس يطفئ هذا الحريق، أو نحو هذا، في هذه الحال يطالبه بقدر ما بذل فيه، لهذه القاعدة: فكل من أدى عن غيره واجبًا بغير أذنه، فمذهب مالك، وأحمد، في المشهور عنه: أن له أن يرجع به عليه[8]، خلافًا لأبي حنيفة[9]، والشافعي[10]، فإنهم يقولون: ليس له ذلك.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي برقم (510).
  2. أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب أو الفضة برقم (2190) ومسلم في البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا برقم (1541).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر برقم (1513).
  4. أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها برقم (2194) ومسلم في البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها برقم (1534).
  5. أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وعن المخابرة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين برقم (1536).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد برقم (220) ومسلم في الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات... برقم (284).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز برقم (2718) ومسلم في المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه برقم (715).
  8. التنبيه على مشكلات الهداية (5/861).
  9. التنبيه على مشكلات الهداية (5/861).
  10. تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (3/228).

مواد ذات صلة