الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
اللهم اغفر لشيخنا ولنا وللحاضرين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول: من غيّر مال غيره، بحيث يفوته مقصوده، فله أن يضمنه إياه بمثله، مثل ماذا؟ لو أنه مثلًا عنده فرس جيدة جميلة، فجاء إنسان وقطع ذيلها، وبخاصة إذا كانت هذه الدابة أو الفرس للقاضي مثلًا، أو للأمير، أو نحو ذلك، يركبها ويذهب عليها، فإنها إذا قطع ذلك منها، فإنها لا تصلح لمثله.
وقل مثل هذا لو أنه أخذ السيارة وتصرف فيها، صبغها، أو غيّر فيها أشياء، بحيث تحولت إلى هيئة أو صورة أخرى، قد لا ينتفع بها صاحبها بهذه الهيئة، فإنه يُضمن بمثله.
ولو أنه أخذ ثوبه، ثم تصرف في هذا الثوب، وغيّر في تفصيله وخياطته، أو أخذ القماش وفصّله بقدر بدنه، فإن صاحب القماش لا ينتفع به، ففي هذه الحال يُضمن ذلك.
وقل مثل هذا في صور كثيرة، حيث يتحول فيها المال أيًا كان نوعه، إلى حال قد لا ينتفع به، أو لا يحصل به مقصود مالكه وصاحبه، فأنه يضمن.
جميع المتلفات تضمن بالجنس، بحسب الإمكان، مع مراعاة القيمة، يعني: لو أنه أفسد عليه جارية، بحيث يفوته مقصوده منها، أو أنه أتلفها بالكلية، فماذا يطالب به في الضمان؟ يطالب بجارية مقاربة لها، مع مراعاة القيمة.
ولو أنه أتلف عليه بعيرًا، فإنه يطالب بالضمان بمثله، مع مراعاة القيمة، وليس بعيرًا ببعير، وليس مراعاة السن، وإنما مراعاة القيمة، فقد يكون هذا البعير يساوي عشرة آلاف، أو يساوي مائة ألف، فيراعى فيه ذلك.
وهكذا لو أنه أتلف عليه زرعه، أو نحو ذلك، فإنه يُطالب بالمثل؛ ولذلك جاءت حكومة سليمان -عليه الصلاة والسلام- في حرث القوم التي نفشت فيه الغنم، فأمر أهل الغنم أن يدفعوها لأصحاب الزرع، فينتفعون بلبنها، وما إلى ذلك، وأن يقوم أصحاب الغنم على الزرع، حتى يعود إلى حاله، التي كان عليها، فهنا صار الضمان بالمثل، فهذا أعدل، والله تعالى أعلم.
يقول: بحسب الإمكان؛ لأنه قد لا يوجد، أو لا يتيسر أن يأتي بنظيره أو بمثله، فهنا يأتي بالثمن، أو بالقيمة، يقدر كم يساوي هذا؟
الحِكَم والمعاني هو من أجل العلوم، ولكن التكليف أو الامتثال والعمل والتطبيق لا يتوقف على معرفتها، فهذا أصل، وهذا يرجع إلى التسليم لله -تبارك وتعالى، والانقياد، وكمال الاستجابة، فلا يتوقف المكلف على القبول والانقياد على معرفة الحكمة، فإنه إن عرفها فهذا يكون أدعى لنشاطه، ومزيد من إقباله، وإن لم يعرف فإنه يعلم أن الله عليم حكيم، وهذه الحِكَم والعلل منها ما بيّنه الشارع وفصّله، فمثل هذا يكون من قبيل الحِكَم المنصوصة الواضحة الظاهرة القطعية، كقوله -تبارك وتعالى- في الفيء، وفي قسمته: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [سورة الحشر:7] وفي نفس الوقت قال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْه فَانْتَهوا [سورة الحشر:7] فإن أصل مجيء هذه الآية -كما يدل عليه السياق- أنها في العطاء، ولكنه يُستدل بعمومها، كما استدل ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- بالأحكام: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ [سورة الحشر:7] من الأحكام والأوامر والنواهي فَخُذُوه [سورة الحشر:7] واقبلوه عنه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْه فَانْتَهوا [سورة الحشر:7][1]، وإلا فالسياق في العطاء المادي.
ومن الحِكَم والعلل ما يكون مستنبطًا؛ وذلك يكون ظاهرًا تارة، ويكون خفيًا تارة أخرى، وهذا الخفاء قد يكون مع وجاهته وصحته، وقد يكون ذلك سببًا لضعفه، فإن الخفي من الحِكَم غالبًا ما يكون مدعاة لضعف هذه العلل التي يبديها الفقهاء -رحمهم الله، ولكن ليس ذلك بلازم في كل الحالات والصور، فهناك أشياء تعبدية، وأمور معللة بعلل لا نعلمها على سبيل القطع واليقين، فيتلمس العلماء هذه العلل، وتتفاوت في الظهور والخفاء، فعلى سبيل المثال: ما العلة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل؟ فبعض أهل العلم يقول: العلة تعبدية، بمعنى: أنه لا سبيل إلى معرفتها، وبعض أهل العلم -كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقولون: بأن العلة مدركة، وهي ما تُورثه هذه اللحوم، وما ينتج عن إدمان أكلها من أثر في الطبيعة؛ وذلك أنّ هذه الإبل فيها من أخلاق الجفاء -كما هو معلوم، والذين يلازمونها ويصاحبونها ويخالطونها فيهم من الغلظة والجفاء ما لا يخفى؛ ولهذا قال النبي ﷺ: والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل، من حيث يطلع قرنا الشيطان، ربيعة ومضر[2]، وذكر ملازمتهم للإبل.
بالإضافة إلى ما جاء من أنها خُلقت من الجن، ونُهي عن الصلاة في معاطن الإبل، وعلّل ذلك بعض أهل العلم بأنها مواضع للشياطين، وليست القضية للنجاسة، فالشياطين تتبعها، فهؤلاء الشياطين أو الجن خُلقوا من النار، والنار يناسبها الماء، ليطفأها، فأكل لحوم الإبل يُؤثر في طبيعة الإنسان من هذه الجهة، فإذا توضأ بعدها كان ذلك مُضعِفًا لأثرها، هذه العلة، لكن هل هذه العلة مقطوع بها؟ الجواب: لا، هي علة مستنبطة لم ينص عليها الشارع، لكنها علة -كما ترون- وجيهة.
والمرأة لا تلي عقد النكاح عن نفسها، أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل ثلاث مرات[3]؛ لماذا؟ هل لأنها ناقصة عقل مثلًا، أو لأمر آخر؟ بعض أهل العلم يقول: ذلك حملًا لها على ما يحسن ويجمل، وهو النوع الثالث من مقاصد الشريعة الذي يقال له: التحسينيات، من أجل ألا تظهر في صورة من تتشوف إلى الرجال، فتعقد على بضعها -لأنها هي أحد طرفي العقد في الواقع- فمثل هذه العلة علة وجيهة.
وما العلة في الربا في الربويات: البر والزبيب والتمر، وما أشبه ذلك؟ هل هي كون هذه الأشياء مقتاتة مدخرة، أو مطعومة مع الكيل، أو نحو ذلك؟ هذه علل؛ ولذلك يختلفون فيها، فالحكم إذا عرفت فهذا لا شك أنه من الأمور النافعة، لكنه لا يتوقف المكلف بالامتثال والعمل على ذلك، بل هو سوء أدب مع الله -تبارك وتعالى.
وقد تحدث عما يتعلق بالعلل والحكم الحافظ ابن القيم -رحمه الله، فلماذا كانت الصلاة الليل جهرية وصلاة النهار سرية؟ بعض أهل العلم يقول: هذا أمر تعبدي.
وبعضهم يقول: لما كانت هدأة الليل أدعى إلى التدبر، كان المناسب أن تكون جهرية؛ طيب لماذا صلاة الفجر أطول؟ والله يقول: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهودًا [سورة الإسراء:78] المقصود بها صلاة الفجر، فسماه قرآنًا؛ لأن القراءة والتطويل مقصود فيها؛ لماذا؟ بعض أهل العلم يقول: لأنه يكون بعد نوم، ويكون الإنسان في غاية الصفاء، فيكون ذلك أدعى إلى حضور قلبه وتدبره، لكن هل هذه العلل منصوصة؟ ومقطوع بها؟ الجواب: لا؛ ولذلك لا تتغير في مثل هذه العلة، يعني: كون الناس صاروا في عصر من العصور يسهرون، وصلاة الفجر بالنسبة إليهم تُعتبر نوع من المعاناة لدى كثيرين، فهل يقال: يخفف؟ وهم يتمنون لو أن الإمام قرأ بهم من السور القصار، ولربما يبحثون عن المساجد التي تقيم بسرعة، ويُقرأ فيها من قصار السور، وهكذا.
طيب لماذا كانت صلاة المغرب ثلاث ركعات والعصر أربع؟ هذا لا يعرف؛ ولماذا كانت صلاة الظهر أربع وصلاة الجمعة ركعتين؟ بعضهم يقول: صلاة الجمعة لأن الخطبة تقوم مقام الركعتين، لكن هذه العلة غير صحيحة، فالخطبة لا تقوم مقام الركعتين، فكما ترون هذا أن العلل ليست على ميزان واحد.
لا تلزم بمعنى: لا تجب، وهذا هو الراجح، وأما الفريضة فإنه إذا شرع فيها مثل صوم النذر، أو صوم القضاء، أو نحو ذلك، لا يجوز له أن يفطر إلا لعذر يبيح له الفطر في رمضان، وقل مثل ذلك في باقي التطوعات.
فلو أنه نذر أن يعتكف ليلة أو يومًا، فإنه لا يجوز أن يقطعه إلا لعذر معتبر شرعًا، وصلاة الفريضة لا يجوز له أن يقطعها إلا لعذر، لكن التطوع له أن يقطعه، الحج الفريضة لا يجوز أن يقطعه، حج النافلة لا يجوز أن يقطعه؛ لأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [سورة البقرة:196] فهذا أمر بالإتمام، ولم يُفصّل، فالأصل البقاء على الإطلاق، وأما طواف النافلة، وصلاة النافلة، وصوم النافلة، واعتكاف النافلة، وما إلى ذلك، فيجوز للإنسان أن يقطعه على الراجح، إلا الحج والعمرة، والمسألة فيها خلاف.
وبعض أهل العلم كالمالكية يقولون: لا يجوز قطع الطواف والصوم والحج والعمرة والاعتكاف، والاقتداء بالإمام، وصوم القضاء، فإن قطع ذلك وجب عليه القضاء، الصلاة حتى لو كانت نافلة، والصوم حتى لو كان نافلة.
صَلاتُنَا وَصَوْمُنَا وَحَجُّنَا | وَعُمْرَةٌ لَنَا كَذَا اعْتِكَافُنَا |
طَوَافُنَا مَعَ ائْتِمَامِ الْمُقْتَدِيْ | فَيَلْزَمُ الْقَضَا بِقَطْعِ عَامِدِ[4] |
فهذه أشياء نحو ثمانية تقريبًا عندهم لا يجوز قطعها.
أما الأحناف فعندهم عموم في قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [سورة محمد:33][5].
والراجح: أن ذلك يختص بالحج والعمرة، والله تعالى أعلم.
لكن يحسن للإنسان إذا شرع في النافلة أن يتمها، وأما قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [سورة محمد:33] فإن المقصود به -كما في سياق الآية- فيما يُبطل هذه الأعمال: من المن والأذى، وما إلى ذلك، لكن يُؤخذ من العموم أنه لا يحسن للإنسان أن يُبطل عمله الذي شرع فيه، وإن لم تكن الآية في هذا.
الأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة من فعل محظورًا ناسيًا لم يكن قد فعل منهيًا عنه، فلا يبطل بذلك شيء من العبادات، يعني: بإطلاق، مثل ماذا بإطلاق؟ الآن من المسائل التي يختلفون فيها في فعل المحظور مثلًا في الحج والعمرة أو الصوم: لو أنه جامع في الحج ناسيًا أو جاهلًا، فبعض أهل العلم يقول: يبطل، مع ارتفاع الإثم، في الصوم كذلك، والراجح: أنه لا يبطل؛ لأنه داخل في عموم قوله: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286] قال الله: قد فعلت[6]، فكل ما فعله من هذه المحظورات، سواءً محظورات الحج أو العمرة أو الصيام، أو الصلاة، أو نحو ذلك، ساهيًا أو ناسيًا، أو نحو ذلك، كمن تطيب ناسيًا، أو تكلم في الصلاة ساهيًا، أو ناسيًا، فإنه لا يُؤاخذ، فتكون صلاته صحيحة، أو كان جاهلًا فكذلك، فمعاوية بن أبي الحكم السلمي لما عطس، وقال: الحمد لله، ثم قال: واثكل أمياه، وقال: ما بالكم تنظرون إلي؟ وكان يتلفت، وينظر إليهم، والنبي ﷺ لم يقل له: أعد الصلاة، وهو قد فعل عدة محظورات، ولكن علمه أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس[7]، وهكذا، وهذا ليس فيه استثناء.
قال: ومن ترك مأمورًا فعليه إعادة ما أمكن إعادته، وهذه العبارة ليست من كلام شيخ الإسلام، من قوله: ومن ترك مأمورًا فعليه إعادة ما أمكن إعادته.
الآن هذا إنسان تجاوز الميقات بلا إحرام، الواجب عليه أن يحرم من الميقات، يستطيع أن يستدرك ويرجع، فهذا ترْك واجب، فعليه أن يرجع، وإن لم يفعل فإنه يكون عليه دم لترك الواجب.
وهذا الإنسان صلى ونسي سجدة في الركعة الأولى، وأتم صلاته، فقيل له: سجدتَ سجدة واحدة، نقول: يأتي بركعة، صلى ثلاث ركعات وسلم، نقول: تأتي بركعة، ما أمكن أعادته، والذي لا يمكن أعادته ماذا يفعل؟ كمن ترك التشهد الأول، وانتصب قائمًا، فإنه لا يرجع، ولو نُبّه، ولكنه يسجد للسهو؛ لأن هذا لا يمكن إعادته، وعدم الإمكان من جهة الشرع، فلو رجع وجلس فإنه يكون قد خالف السنة، ولو أنه ترك واجبًا من الواجبات، كتكبيرات الانتقال، أو بعض هذه التكبيرات، على القول بالوجوب، فهنا ماذا يفعل؟ نقول: يسجد للسهو، ففي بعض الحالات يمكن أن يأتي بما يُعوضه بمثله، أو ببدلٍ منه، وتارة لا يكون هذا.
قال: من ترك مأمورًا، فعليه أعادة ما أمكن إعادته، إذًا هذا ليس من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله، لكن المعنى صحيح.
الشيخ، يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، يميل إلى الصحة، ويقف على الإجازة.
إذا تصرف الرجل في حق الغير بغير إذنه، فظاهر مذهب الأمام أحمد أن المتصرف إذا كان معذورًا لعدم تمكنه من الاستئذان، وحاجته إلى التصرف، وقع على الإجازة بلا نزاع، مثل ماذا؟ لو أن جاره غاب، وهذا الجار عنده بهائم، وغنم، وإبل، ولا يدري أين هذا الجار؟ فبحث عنه، وسأل عنه، لم يجد له أثرًا، وهذه البهائم سوف تموت، فتحتاج إلى من يقوم على شؤونها، وهذا الرجل لا يستطيع، فذهب وباعها، واحتفظ بالثمن، أو تصدق بالمال عنه، فجاء الرجل فقال: أين الغنم؟ قال: الغنم بعتها خشيتُ عليها أن تهلك، فاحتجت إلى مثل هذا التصرف، قال: أين الثمن؟ قال: الثمن انتظرتك سنوات ولم تأتِ، فتصدقت به عنك، فهنا إن أجازه، وإلا أعطاه الثمن، والصدقة تكون للمتصدق.
أو كمن وضع عنده وديعة غنم أو غيرها من الحيوان، وهذه الوديعة تحتاج إلى علف، ومؤنة، وليست كقلم يضعه عنده في دولاب، أو مال يضعه في البنك، لا، وإنما هذه تحتاج إلى عمل، فوجد أنه لا يستطيع القيام عليها، بحث عنه لم يجده، فذهب وتصدق بها على فقير مثلًا، أو ذبحها وتصدق بلحومها عنه، يئس منه ما وجده، فجاء الرجل فيما بعد، فماذا يفعل؟
كثير من الناس يقول: عندي لشخص مال، أو أنا أخذت منه قرضًا، أو نحو ذلك، وبحثتُ عنه فلم أجده، فماذا أفعل؟ أو اشتريتُ من محل، وقلت له: سآتيك بالباقي أو بالثمن، ثم أتيتُ بعد مدة، وإذا به قد انتقل، ولا أعرف أين ذهب؟ نقول: تصدق بها عنه، طيب إذا وجده؟ فإن هذا يتوقف على إجازته، إن قال: لا بأس، فالحمد لله، وإذا قال: لا، أنا ما أقبل، فإنه يعطيه الثمن، والصدقة تكون له.
يقول: وقف على الإجازة، لاحظ هنا ما تمكن من الاستئذان، وإن أمكنه الاستئذان، أو لم يكن له به حاجة، تصرفه فيه نزاع، لو أمكنه الاستئذان فهذا يُعتبر تصرف الفضولي، يستطيع أن يستأذن لكنه لم يفعل، فأخذ سيارته استعارها منه، ثم جاء إنسان وقال: هذه سيارة جيدة، أنا أعطيك فيها كذا، وهذا يعتقد أن هذا المبلغ أكثر من قيمتها، ففرح واغتبط بهذا، يظن أن صاحبه -صاحب السيارة- سيفرح، فلما رجع إليه، قال: لا، أنا ما أذنتُ لك؛ لماذا لم تسأل؟ ولماذا لم تتصل علي؟ فهنا يتوقف على إجازته، فله أن يرجع بذلك، ويرد البيع.
يقول: المشهور عدم النفوذ، والشيخ يميل إلى الصحة، ويقف على الإجازة، وهل يدخل في هذا بعض الصور، مثل تزويج الصغيرة، هل أذنها معتبر أو لا؟ بعض أهل العلم يقول: الذي يكون متصرفًا في هذه الصورة هو الأب فقط، وأما غيره فقد يتصرف ليتخلص منها؛ وليتخفف من الأمانة، كأن يكون أبوها مات مثلًا، ووضعوها عن جدها، أو عمها، فيزوجها وهي صغيرة، فمثل هذه هل تستأذن؟ وهل لها إذن معتبر؟ فبعضهم يقول: إذا أدركت فإن ذلك يتوقف على إجازتها.
وبعضهم يقول: يكون ذلك نافذًا إذا كان من الأب فقط، ولا يتوقف على إجازتها، وهكذا.
لكن لو أنه زوج الكبيرة من غير إذنها، والنبي ﷺ أخبر أن الثيب تستأذن، والبكر أذنها صماتها، والثيب تُبين عن نفسها، فزوج ابنتين إحداهن بكر، والأخرى ثيب بلا إذن، فهل يصح العقد وإلا لا يصح؟ يصح العقد، ولكنه يتوقف على الإجازة، فإن أجازت مضى العقد؛ ولذلك المرأة التي جاءت للنبي ﷺ وسألته عما وقع من أبيها، حيث زوجها من ابن عمها؛ ليرفع بها خسيسته، فأخبر النبي ﷺ فجعل الأمر إليها، ثم ذكرت: أنها أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء[8]، ثم أجازت ما أوقعه أبوها من النكاح، ولم يأمر النبي ﷺ بعقد جديد.
الغناء بالمد هو المطرب المحرم، والغنى: يقابل الفقر، والغنا: البقاء في المكان، والغَناء: بالفتح ليس فيه غَناء يعني: جدوى.
يقول: رسالة في فتواه بالسماع الغناء، والواقع إن هذه الأشياء التي ذكرها هنا ليست من كلام شيخ الإسلام، وإنما هي من كلام ابن القيم.
الأولى: رقم 166، في مدارج السالكين، والتي بعدها رقم 67 ورقم 68، هذه أيضًا من كلام ابن القيم، الكلام الذي بعده يُوجد كلام يشبهه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وله رسالة في مجموع الفتاوى تتعلق بالغناء، لكن ليس فيه هذا الكلام، ومدارج السالكين ليس في كله هذه الأشياء التي ذكرها هنا، وإنما الأولى والثانية والثالثة، هذه تقريبًا بحروفها من مدارج السالكين.
وابن القيم -رحمه الله- أحيانًا ينقل كلام شيخ الإسلام ويشير، وأحيانًا لا يشير، لكن هذا ليس من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله.
وأما ما بعده فيُوجد لشيخ الإسلام كلام يحوم حول هذا المعنى، لكن ليس بهذه الألفاظ، في مجموع الفتوى له رسالة في الغناء، وسماع من ينتسب إلى الصلاح والزهد، وهو سماع الصوفية؛ وذلك يشبه كثيرًا بعض ما يُسمى الآن بالأناشيد الإسلامية، ولا أقول كل ذلك.
ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين تكلم على مسألة السماع، ورد على الذين ييستحلون السماع، وهؤلاء -كما سبق- هم قوم من أهل التصوف، يزعمون أنهم يرققون به القلوب، وينشطون النفوس، من أجل الإقبال على العبادة والطاعة، ويحتجون ببعض ما ورد عن النبي ﷺ، كقوله -عليه الصلاة والسلام- لأنجشة: ويحك يا أنجشة، رويدك سوقًا بالقوارير[9]، وما إلى ذلك، مما ورد فيه بعض الحِداء.
ويحتجون بأمور أخرى تتعلق بالوجد والذوق، وما إلى ذلك، مما يذكره أهل التصوف.
فابن القيم -رحمه الله- رد عليهم بقواعد ثلاث، هي التي تجدونها أمامكم: الأولى، والثانية، والثالثة.
يقولون: هذه أمور مستحسنة، وأمور كذا، ويقابلون بهذا الاستحسان النصوص الشرعية، فيجعلون أذواقهم وأحوالهم ومواجيدهم حاكمة على الشرع، وهذا لون من الانحراف في الاستدلال والنظر.
يقول: الذوق والحال والوجد، الذوق يزعم أهل التصوف: أنه نور عرفاني، يقذفه الحق -تبارك وتعالى- بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل، من غير أن ينقلوا ذلك عن كتاب ولا غيره، هكذا يزعمون، فليس عمدتهم في ذلك أثارة من علم، ليس عندهم فيه دليل، ولا برهان، لكنهم يحتجون بالذوق، وهذا الذوق باطل في الواقع، ولا قيمة له، ولا يصح الاستدلال بذلك.
والحال عند الصوفية هو معنى يرد على القلب بغير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب، يعني: لا يتكلفه الإنسان، وإنما يرد على قلبه هكذا، وهذا الحال قد يكون انقباضًا من أمر من الأمور، وقد يكون انبساطًا، وقد يكون حزنًا، وقد يكون هيئة، وهكذا.
يقولون: هذا يعرض ويزول، لكنه إن دام يرتقي فيكون مقامًا، فهم عندهم أحوال ومقامات، الأحوال عند الصوفية عارضة وتزول، من انقباض وانبساط وانشراح وحزن، وما إلى ذلك، هذه أحوال، فإذا كانت ملازمة، يعني: صار هذا الانشراح دائمًا، فإنه يكون مقامًا، والمقام أثبت وأعلى، فالأحوال يقولون: مواهب، وشيء يلقيه الله في قلب هذا الإنسان، فينقبض من كذا، أو يقبل على كذا، ينبسط وينشرح صدره له، أو نحو ذلك.
أما المقامات فيقولون: مكاسب، لا تأتي إلا بالمجاهدات وترويض النفس والصبر والخلوة والتربية، حتى يصير ذلك خلقًا راسخًا له، إلى غير ذلك من الخزعبلات التي يقولونها، حيث يقولون: إن المقامات تحصل ببذل المجهود، وأما الأحوال فهي من عين الجود، يعني أن الله يجود بها على من يشاء من عباده.
وأما الوجد والمواجيد عند الصوفية، فهي الأمور التي تصادف القلب، وتقع فيه من غير تكلف ولا تصنع ولا تطلب، يعني: ما يجده الإنسان في نفسه، يقال له: وَجْد، وبعضهم يفسره بغير هذا.
وابن القيم -رحمه الله- يرد على أهل السماع بهذه القواعد الثلاث:
الأولى: أن الذوق والحال والوجد محكوم عليه من جهة الشرع، فما وافق الشرع منها قُبِل، وما خالفه رُد، وله كلام جيد في هذا الموضوع، فينبغي مراجعته، في مدارج السالكين، تجدونه في المجلد الأول، صفحة (492).
بمعنى: أن هؤلاء كيف يبررون ويحللون هذا السماع، ويرقصون ويطربون أو يتمايلون عند سماع أبيات ملحنة، يقولون: نجد أثر هذا في قلوبنا، ويكون لنا من الأحوال ما لا يعرفه غيرنا، ما هي الأحوال؟ يقولون: تارة نحزن من هذه القصائد والسماع، وتارة ننشط ونفرح، وتارة نسر، وتارة يغلب علينا جانب الخشوع، وتارة يغلب علينا جانب الرجاء، فيقولون: هذه مؤثرة، وتحملنا على العمل للآخرة، والجد في طلبها وتحصيلها، ونكون في حال من التذكر، إلى آخره، ويحصل مع هذا ألوان المنكرات، فأحيانًا يجلسون مع الأولاد الحسان المردان، وما إلى ذلك، ويقولون: نحن ننظر إلى خلق الله ، وهذا يذكرنا بعظمة الخالق ، وبعضهم يجلسون مع النسوان، وإذا قرأت في طبقات الصوفية وتراجمهم تجد العجب نسأل الله العافية.
فهذه امرأة واقفة في غاية الجمال وتبرج عند الجمار في الحج، فجاء بعضهم إليه، وقال: عظها، لقد فتنت الناس، وتجمعوا عليها، وهي كاشفة لوجهها، فلما رآها قال: اللهم لا تعذب هذا الوجه بالنار، هذا الإنكار والاحتساب على هذه المرأة التي تستعرض بجمالها أمام جموع الحجيج! فهؤلاء مفتونين -نسأل الله العافية، ومنهم من يقول:
بَدَا لي مِنْها مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ | وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنانِ |
فو الله ما أدري وإني لحاسبٌ | بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أَمْ بِثَمانِ[10] |
هذا جاء يحج الآن -نسأل الله العافية.
فعلى كل حال هؤلاء الذين يتفلسفون، ويقولون: نحن نجد أثر هذا، ونجد أشياء، نقول لهم: هذا الذوق والحال والوجد الذي تقولون هو محكوم عليه بالشرع، ولا يصير حاكمًا على الشرع، مثل أصوات المطربة التي تكون مع هذه الأغاني، أو التي يسمونها الأناشيد، أو المؤثرات الصوتية، يقول أحدهم: أنا أجد رقة، وأجد كذا، وأتأثر، وأحيانًا أبكي وأنا أسمع هذه الأنشودة، نقول له: هذه المواجيد الشرع حاكم عليها، ولا يصح أن تكون حاكمة على الشرع، فتجعلونها معيارًا، تحللون وتحرمون بمقتضاها.
فلا يقول أحد: أنا هذا شيء جيد، ومطلوب شرعًا؛ لأني أجد أثره في نفسي، نقول: لا الشرع هو الذي يحكم، لا ما تجده في نفسك.
هذه القاعدة الثانية في الرد.
يعني: الآن وقع نزاع في أشياء من هذه الأشياء التي عند هؤلاء الصوفية مثلًا، أو من غيرهم، هل هذا أمر حسن، أو أمر قبيح؟ وهذا الصقع الذي يحصل لهم عند سماع القرآن مثلًا والغشيان، أو هذا الرقص، أو التفوه بعبارات كفرية أحيانًا، حيث يقول: إنه غاب عن مشهوده بشهوده، وعبارات يخلطون فيها، فيقال: يُرجع في ذلك كله، وما اختلفنا فيه إلى الله ورسوله ﷺ، فيكون هو الحاكم في هذه القضايا، وفي غيرها.
هذه هي الثالثة: فهو يُبين لك كيف تعرف حكم الأشياء؟ يقول لك: أولًا لا تجعل هذه الأشياء التي لا أصل لها في الشرع حاكمة على الشرع، كالذي يقول: أنا عقلي هو الذي يحكم ويقرر، وعقلي هو الذي يميز، فهذا خطأ، فالشرع حاكم على الجميع.
الأمر الثاني: أن ما اختلفنا فيه، فحكمه إلى الله.
الأمر الثالث: أن ما ألتبس عليك، ولم يتبين لك من دليل واضح أنه محرم أو مباح، فانظر إلى عاقبته وأثره ونتيجته، ما هو الأثر؟ وما هي النتيجة؟ فابن القيم يورد هذا على السماع، فهذا السماع ما الذي يورثه؟ يورث الغفلة، وهو رقية الزنا، وقد أورد كلامًا يصعب أن أذكره الآن، في أثر هذا السماع المحرم على المرأة، ذكر كلامًا راجعوه، في مدارج السالكين، بمعنى: أنه رقية الزنا، هذه أخف عبارة.
وأما الأبيات التي يذكرونها في هذا السماع، وقد ذكر أهل العلم، مثل شيخ الإسلام، وابن القيم أبياتًا مما يقولها هؤلاء، حينما يتغزلون بالمرأة، أو نحو ذلك، وهي أشياء تفتن المرأة، وتُورث القلوب مرضًا واعتلالًا وفسادًا، فتبقى طامحة إلى المنكر والزنا والفاحشة، فهذا السماع يمرضها ويفسدها، ويشغلها عن ذكر الله -تبارك وتعالى- وطاعته، وإذا أردتَ أن تعرف هذا، فانظر إلى حال هؤلاء الذين فتنوا بهذا السماع، أو الذين قد اشتغلوا بهذا، فصاروا من جملة المطربين، ماذا كانت عاقبتهم؟ فهؤلاء الذين ينشدون مع هذه المؤثرات الصوتية، أو بحسب الطلب: تريد بمعازف أو من غير معازف، عنده هذا وعنده هذا، وألبوم، وكأنه مغني، وصورته على الألبوم، ويسمونها أنغام وأشجان، يقولون: من أجل أن يكون ذلك أدعى إلى القبول، فزين لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل، ويقولون: نحن نقدم البديل الإسلامي للناس، وما علموا أنهم من جملة المغنين، فتارة بالمؤثرات الصوتية، وتارة بالمعازف صراحة، وتارة بأصوات متداخلة، رقيقة وغليظة، فتمرض القلب وتفسده، ويبقى القلب مشغولًا باللهو والغفلة، والتطلع إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى- من الفاحش، فإذا أردتَ أن تعتبر من هذا، فانظر إلى حالهم، فهم من أضعف الناس عبودية، ولا يزال الواحد منهم ينقص يومًا بعد يوم حتى يتلاشى، ثم يتحول إلى مطرب أصلع، يعني بلا مرية ولا غشاء يغطيه أو يداريه، وإنما يكون من جملة المغنين بلا امتراء، وقد يخرج ويتفلسف -نسأل الله العافية، وتصير المسألة استحلال، يعني: نحن نعرف أن بعض المغنيين تاب إلى الله -تبارك وتعالى، وهذا معروف، وبعضهم اشتغل فراش مدرسة بعد ما تاب، ما وجد عمل؛ لأنه رجع إلى المستوى الطبيعي له، كما يقول المعلمي: ومنهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة، فلا يترك الباطل الذي هو فيه؛ لأن فيه شهرة ومعيشة، فإذا تركه رجع إلى الصفر، إلى المستوى الحقيقي.
فأحد المغنيين -نسأل الله أن يتقبله، وأن يقبل توبته ويرحمه -قد توفي- أشتغل حارس مدرسة فراش بعد ما كان مغني، لكنه أراد ما عند الله ، هؤلاء كانوا يرجون أنفسهم بالتوبة، بعض أحد كبار المغنيين لقيه بعض الشباب في الجنادرية، وسألوه، قالوا له: أنت الآن هل ترى أنك في حال تحب أن تلقى الله فيها؟ قال: لا، وعندي أولاد مثلكم، ويقولون لي مثل هذا الكلام، لكن من أين أوكلهم عيش؟ ومات وهو يغني، وما علم أن الله هو الرزاق، فكانوا يرجون أنفسهم بالتوبة، وبعضهم تاب ثم رجع.
لكن النوع الجديد من هؤلاء المغنيين مصيبتهم أعظم، يخرج أحدهم يتفلسف على قناة، فيقول: أنا انتقلت من حسن إلى أحسن، هذا كيف يتوب؟ هذا مستحل لما حرم الله -تبارك وتعالى، فيخشى عليه، فانظر إلى آثار هذا الغناء في نفوس هؤلاء، وضعف الإيمان عندهم، وإذا رأيت أشكالهم من ضعف التدين، وضعف السمت، فهم أبعد الناس عن السمت الحسن، والسمت الصالح، إلا من رحم الله .
وقد رأيتُ مجموعة منهم مرة في أحد المخيمات، دخلوا وهم لابسين طقم لباس موحد، وهم مجموعة فريق، دخلوا وأنا خارج من المحاضرة، فقلت لهم: أريد منكم ثلاث دقائق فقط، فجلسوا في خيمة، فقلت لهم: الآخرة تحتاج إلى عمل، وهي دار لا تصلح للمفاليس، وما أنتم فيه لا يُبلغ، والسلام.
فتبعني أحدهم، وقال: نحن نقوم برسالة، هؤلاء الشباب نجمعهم من أجل أن لا يبتعدوا، ولا ينحرفوا، ويقدمون بديلًا عن الأغاني، قلتُ: انظر إلى هيئتهم، كل هؤلاء قد حلقوا لحاهم، وأسبلوا ثيابهم، وهم في حال لا تسر الصديق، تقربهم؛ لماذا؟ وتقدمون ماذا؟ فالله يهدي الجميع، ويصلح الحال، ويلطف بنا وبهم، وبإخواننا المسلمين، لكن المقصود من كلام ابن القيم -رحمه الله- هنا: أنك تنظر إلى أثر العمل، إذا ألتبس عليك، ما هي آثاره؟ هذا الغناء الذي يستحله بعضهم، ويتحول من قارئ للقرآن إلى ألبومات للغناء، فعنده هذا وهذا، نسأل الله العافية، ويقول: أنا مستعد أن أناظر وأجادل إلى آخره، نقول له: دعك من الجدال الطويل، هذا الغناء ماذا يثمر؟ وما هي عاقبته ونتيجته وأثره وثمرته؟ الصلاح والإصلاح واشتغال في أمور مباحة؟ الجواب: أبدًا عاقبته وأثره هي الصد عن سبيل الله ، والبعد عن ذكره، والاشتغال بما حرمه، وهو رقية الزنا، وهو من أعظم ما يُشغل عن القرآن وعن تدبره.
ونحن لا نعرف النشيد، ولا نسمع النشيد، فضلًا عن هذه الأغاني، ولا نعرفها، ونكابد مكابدة من أجل أن نتدبر القرآن ولا ندرك، فكيف بهؤلاء؟! فلا ينقضي عجبي من هذا، لا يكاد يمر يوم إلا وأتأملها، نكابد ولا ندرك، وهؤلاء الذين شغلت عقولهم وقلوبهم بهذا اللهو، كيف يتدبرون؟ وكيف يتأثرون بالقرآن؟ فالله المستعان.
يعني: هم يحتجون بالحداء، والحداء معروف، يقولون: للإبل من أجل أن تسرع، والنبي ﷺ كان له حادٍ يقال له: أنجشة، ودخل على عائشة وعندها جاريتان تغنيان، يقولون: هذا يدل على جواز الغناء، فهنا يقول: فصل الخطاب في هذا الباب أن يُنظر في ماهية الشيء، ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة.
يعني: لو قرأتم في رحلات الحجيج، وأخبارهم، الذين يأتون من بلاد بعيده، يرددون أشياء، ويذكرون فيها شوقهم إلى البيت والحطيم والمشاعر والمدينة، وما إلى ذلك، فهذه معروفة كانوا يذكرونها، يحركون النفوس، وأيضًا يكون حداءٍ للإبل، ويجمون فيه النفوس في السفر، فهذا لا إشكال فيه، أين هذا من الغناء المحرم؟!
يعني: النبي ﷺ في يوم الخندق كان يعمل مع أصحابه في حفر الخندق، ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا | ولا تصدقنا ولا صلينا[12] |
وكان هناك رجل اسمه جعيل، وسماه النبي ﷺ بعمرو، فكانوا يرددون:
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرًا | وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرًا[13] |
يرددون وهم يحملون التراب ويحفرون.
وكان اليمنيون (أهل اليمن) ويمكن ما أدركتم هذا، في هذه البلاد، وكانوا يعملون بأعمال البناء، هم الذين يبنون البيوت، فكان أكثر من يبني أهل اليمن، المقاول والعمال من أهل اليمن، لا تكاد ترى غير أهل اليمن، فكانوا على طريقة العرب، فإذا جاء العمل الذي يحتاج إلى همة ونشاط وشدة، جاؤوا في غاية التأهب، فإذا أرادوا أن يصبوا السقف مثلًا، ما كان فيه الآلات الحديثة كالرافعات الآن بسهولة، وإنما كانوا على سواعدهم، يقفون طوابير، حتى يناول كل واحد الآخر اللازم بلحظات، حتى لا تجف هذه المواد، ثم تفسد عليهم، وتحتاج إلى همة بعمل مستمر، فكانوا يرددون أشياء من هذا القبيل بشكل جماعي، فينشطون غاية النشاط، فهذا لا إشكال فيه، هذا على طريقة العرب، فكانوا الصحابة وهم يحفرون الخندق يرددون:
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرًا | وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرًا[14] |
فهذا لا إشكال فيه، لكن أين هذا من الغناء المحرم؟ وقل مثل ذلك في الحرب لما تقرؤون في سيرة ابن هشام، وفي غيرها، الأبيات التي كانوا يرتجزون بها، فهذا لا إشكال فيه أيضًا، لكن الغناء يطلق على أشياء أخرى، يطلق أيضًا على المطرب الخبيث المحرم، فهذا لا يجوز، فقد تدخل أشياء متنوعة تحت مسمى واحد، فينبغي أن تُعرف وتميز، وأن يحكم على كل واحد منها بالحكم اللائق به، وإلا كان الإنسان بين جهل وتلبيس في أحكامه، فيقول: الغناء جائز؛ لأن النبي ﷺ كان له حادٍ، ودخل على عائشة وعندها جاريتان تغنيان، إلى غير ذلك، فهذا يكون ملبسًا الحق بالباطل.
الغناء المجرد عن آلات اللهو هل هو حرام أو مكروه أو مباح؟ أما بآلات اللهو فإنه حرام بلا تردد، فالذي تكلموا فيه والذي قالوا فيه الخلاف إلى آخره، ما كان من غير آلات اللهو، فيأتي من يسمع مثل هذا أحيانًا أو يقرأ، ثم يلبس على الناس ويقول: هذا فيه خلاف، فالعلماء بعضهم أباحه، وبعضهم كذا، وهم لا يقصدون ما كان بآلات اللهو أيًا كانت، وما يقوم مقامها من المؤثرات الصوتية، أو بنبرة الإنسان، أو بلسانه، مما يحاكي به أصوات المعازف، فله حكمها؛ لأن العبرة بالنتيجة والمآل، وليست العبرة بالآلة نفسها، فإن الآلة لا حكم لها من حيث هي، لكن الحكم للصوت الذي يصدر عنها، فبعض الناس عنده قدرة على محاكاة آلات اللهو والطرب، وهناك ما يُسمى الديجيه، ويستعملونه الآن في الزوجات، ويقولون: ديجيه إسلامي، ويصدر جميع أنواع الأصوات المطربة، مثل هذا ما الفرق بينه وبين الفرقة الموسيقية التي تحضر في هذا الزواج؟
وتعجب من جرأة الناس على مثل هذه الأشياء، ويحصل تكشف وتعري في الأبدان لدى كثير من النساء، وأصوات صاخبة، وتحضر الشياطين، فما ظنكم بالحال بعد ذلك؟! والله المستعان.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 415).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن وقال أبو موسى عن النبي ﷺ هم مني وأنا منهم برقم (4036) ومسلم في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه برقم (72).
- أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في الولي برقم (2083) والترمذي ت شاكر في أبواب النكاح برقم (1102) وابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي برقم (1879) وصححه الألباني.
- متن مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود في أصول الفقه (ص: 3).
- تحفة الفقهاء (1/ 351) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 290).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (180).
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته برقم (836).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب من زوج ابنته وهي كارهة برقم (1874) وضعفه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه برقم (5683) ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمة النبي ﷺ للنساء وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن برقم (4287).
- ديوان عمر ابن أبي ربيعة (ص: 512).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه برقم (5683) ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمة النبي ﷺ للنساء وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن برقم (4287) ولفظه فيهما: ويحك يا أنجشة، رويدك سوقاً بالقوارير.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب قال موسى بن عقبة كانت في شوال سنة أربع برقم (3795) ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر برقم (3364). وهذا مما قاله عبد الله بن رواحة، كما في المحاسن والمساوئ (ص: 186).
- مغازي الواقدي (2/ 448) وسيرة ابن هشام ت السقا (2/ 217).
- مغازي الواقدي (2/ 448) وسيرة ابن هشام ت السقا (2/ 217).