الإثنين 03 / ربيع الآخر / 1446 - 07 / أكتوبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ٢٥ / جمادى الآخرة / ١٤٢٨
التحميل: 1468
مرات الإستماع: 2140

قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد من أبواب هذا الكتاب المبارك، وهو: باب فضل الحب في الله والحث عليه، وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه.

قال الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]،إلى آخر السورة.

وقال تعالى:وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، والمؤلف على عادته -رحمه الله- يصدر الأبواب بآيات من القرآن.

فقوله -تبارك وتعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّه وَالَّذِينَ مَعَهُ، أي: من أصحابه، أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، السمت الحسن وما يظهر عليهم من وضاءة العبادة وبهاء الطلعة والإشراق الذي يكون بسبب صلاح القلب وحسن العمل، هذا الذي عليه عامة المفسرين.

والله -تبارك وتعالى- ذكر مثَلَهم في هذه الآيات من سورة الفتح، ذكر لهم مثَلاً في التوراة، ومثَلاً في الإنجيل.

الله -تبارك وتعالى- حينما ذكر صفتهم قال: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، أي:مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: فرخه، فَآزَرَهُ أي: تقوّى به، فَاسْتَغْلَظَأي: فاشتد وقام على سوقه، وصار متمكناً قويًّا ثابتًا، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي: أن الله -تبارك وتعالى- يغيظ الكفار بأصحاب محمد ﷺ، وما هم فيه من الاتساق والقوة والمؤازرة للنبي ﷺ، لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، ولهذا أخذ من هذه الآية بعضُ أهل العلم -كالإمام مالك في بعض ما روي عنه: أن الذين يغتاظون من أصحاب النبي ﷺ فإنه يلحقهم هذا الوصف.

لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، فهم ليسوا من المسلمين، كل من يتغيظ من أصحاب النبي ﷺ ويبغضهم ويلعنهم فهو كما قال الله : لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ...}

وفي الآية الأخرى من سورة الحشر وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ،تَبَوَّءُوا أي: استوطنوا وسكنوا، اتخذوها أي: المدينة مباءة، وهي: الدار.

تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، ومعلوم أن الإيمان لا يُسكن، ليس بمحل، وإنما المقصود: تبوءوا الدار ولزموا الإيمان، أو اعتقدوا الإيمان، فحذف للاختصار.

تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَأي: من قبل المهاجرين، ومعلوم أن المهاجرين آمنوا قبل الأنصار، ولكن المقصود هنا -والله تعالى أعلم- مجموع الأمرين، يعني: سكنى المدينة مع لزوم الإيمان، فبمجموع الأمرين لا شك أن الأنصار سبقوا في هذا، تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ من قبل المهاجرين، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وهذه شهادة من الله -تبارك وتعالى، أي أن ذلك لم يكن تصنعاً ولا مجاملة ولا نفاقاً اجتماعيًّا، وإنما كان عن محبة حقيقية صادقة، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا، الحاجة: أي: الحسد،مِّمَّا أُوتُواأي: مما أوتيه المهاجرون دون الأنصار؛ لأن النبي ﷺ كما هو معروف أراد أن يقسم أرض النضير، وذلك لما فتح الله على المسلمين، المهاجرون حينما جاءوا إلى المدينة كان النبي ﷺ يؤاخي بين الرجل من المهاجرين والرجل من الأنصار، فيقسم الأنصاري ماله للمهاجري، ومعلوم ما وقع بين سعد بن الربيع   وعبد الرحمن بن عوف، قال له: أغلى ما أملك زوجتاي، وأدنى ما أملك نعلاي، فاختر إحداهما فأطلقها فتتزوجها، فالشاهد: أن الأنصار كانوا في غاية الإكرام والمحبة والإيثار لإخوانهم من المهاجرين، فلما فتح الله على النبي ﷺ الفتوح خيّر الأنصار بين أن يبقى المهاجرون في أرضهم، أي التي قاسموهم إياها، والأصل أن الأرض للأنصار، والمهاجرون لم يكونوا بأهل زرع، فالنبي ﷺ أشار عليهم بأن يعمل الأنصار في الأرض، ثم بعد ذلك تكون الأصول مملوكة للأنصار، والثمرة على النصف، بشرط أن المهاجرين لا يعملون في الأرض؛ لأنهم ليسوا بأهل زرع، مع أن الأرض أصلاً هي لمن بثمرها وبكل شيء فيها؟، هي للأنصار، فالحاصل قالوا: رضينا، فلما فتح الله على المسلمين جمع النبي ﷺ الأنصار وخيّرهم، قال: إن شئتم خرجوا من أرضكم وقسمتها -أي أرض النضير- بينهم دونكم، وإن شئتم بقوا في أرضكم وقسمتها بينكم -بين المهاجرين والأنصار، فقالوا: لا يا رسول الله، بل يبقون في أرضنا، واقسمها بينهم دوننا[1].

هذا إيثار شديد، فلو أن أحدًا يريد أن يقاسم رجلاً من الناس ماله لاتهمه الناس في عقله، فالله المستعان، انظروا كيف أن الإيمان يربي النفوس ويهذبها، وتصل إلى درجة عالية جدًّا من الإيثار ومحبة الخير للمسلمين، وما أشبه ذلك، فالشاهد أن الله أثنى عليهم بهذا تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ.

نسأل الله أن يلحقنا بركابهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. المغازي للواقدي (1/ 379).

مواد ذات صلة