الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الرجاء أورد المصنف -رحمه الله:
هذا الحديث هو من أحاديث الرجاء، ويقال فيه كما قيل في الأحاديث الأخرى في الباب، وهو: أن الإنسان ينبغي أن ينظر إلى هذا الحديث، وإلى سائر الأحاديث الأخرى، والنصوص من الكتاب والسنة التي جاء فيها الوعيد، وأن قومًا يدخلون النار بسبب ذنب فعلوه، لكن هذا الحديث يمكن أن ينتفع به أولئك الذين يتلاعب بهم الشيطان، فإذا وقع الواحد منهم بالذنب، ثم عاد إليه ثانيةً، ثم عاد إليه ثالثةً، جاءه الشيطان كما يرِدُ في كثير من الأسئلة، وقال له: أنت منافق، أنت تعصي الله وتظهر أمام الناس الصلاح والتقى، فهذا نفاق، ثم بعد ذلك يحمله الشيطان بسبب جهله، يحمله على أن يأتي سائر المنكرات كفاحًا علانية، ويكون مجاهرًا -نسأل الله العافية، لا يرعوي ولا ينكف عن شيء.
النفاق: هو أن يبطن الإنسان الكفر، ويظهر الإيمان، هذا هو النفاق، وليس معنى النفاق هو أن يعصي الإنسان ربه سرًّا، والذي يعصي ربه سرًّا أسهل من الذي يعصيه جهرًا؛ لأن النبي ﷺ يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وقال: وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، فيستره الله، ثم يصبح يكشف ستر الله عليه، فيتحدث بهذا الذنب، يقول: فعلت كذا، وكذا[2]، فهذا غير معفو عنه، فالمجاهرة أشد، والحياء شعبة من الإيمان، فالذي يستحي من الله، ويستحي من الناس، ويفعل الذنب في السر، ويخاف من الله تعالى، ويستغفر، ويتوب، هذا مؤمن، ولكن ينبغي ألا يستمر على معصيته.
وهنا قوله: قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء، أولاً: من أهل العلم من قال: المراد به فليفعل ما شاء إن كان يفعل ذلك، يعني: يقول: اللهم اغفر لي، يعني يتوب، ولا شك أن التوبة تجبّ ما قبلها، هذا جانب.
الجانب الثاني: أن قول الإنسان: اللهم اغفر لي، أو مجرد أن يجري على لسانه، يقول: أستغفر الله، هذا لا يغني عنه من الله شيئًا، هذه هي التي سماها العلماء بتوبة الكذابين، يقول: أستغفر الله على لسانه، وهو ينوي الرجوع إلى الذنب مرة ثانية، وثالثة، وهكذا، فلا ينفعه هذا الاستغفار، بل هو كالمستهتر، لا يبالي، لكن من الاستغفار ما يكون توبة، وهو: أن يندم الإنسان على هذا الفعل، ثم يقول: ربي اغفر لي، فمثل ذلك إذا عزم ألا يعود، وندم، فإنه يكون توبة.
أيضاً لو مشينا على ظاهر الحديث، وقلنا: إن الله قال لهذا العبد: قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء، وما يدري الإنسان الذي يفعل الذنوب مرة بعد مرة أن الله قد قال له ذلك؟، وما يدريه؟، والنبي ﷺ أخبرنا عن حال العبد مع الذنوب: كقوم نزلوا منزلاً، فجعل هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود، حتى أوقدوا نارًا، وأنضجوا[3]، كل واحد يأتي بعود حتى صارت نارًا عظيمة مشتعلة، أنضجت ما وضع فيها، فهكذا الذنوب، هذا ذنب، وهذا ذنب، والله يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، فتوزن الحسنات، وتوزن السيئات؛ ولذلك ينبغي على الإنسان أن يصدق في قوله: أستغفر الله، وأتوب إليه، وأن يتوب توبة صادقة، فإنْ فعل مُحي عنه الذنب السابق، فإذا غلبته نفسه، وهواه، ووقع في الذنب، سواء نفس الذنب، أو بذنب آخر -والحديث يحتمل الأمرين- فإنه يبادر مرة أخرى إلى التوبة الصحيحة، فيمُحى ذلك الذنب، فإذا وقع فيه ثانية مُحي إذا تاب، وهكذا حتى يلقى الإنسان ربه ليس عليه ذنب.
أما أن يظن الإنسان أنه بمجرد قوله: أستغفر الله، أن الأمر ينتهي، فإن هذا غير صحيح، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح:15]، رقم: (7507)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، رقم: (2758).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، رقم: (6069)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، رقم: (2990).
- أخرجه أحمد، رقم: (3818)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (1/ 744)، رقم: (389).