الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الإيثار والمواساة (1-2)
تاريخ النشر: ٢٢ / ذو الحجة / ١٤٢٩
التحميل: 1434
مرات الإستماع: 3311

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء من أخبار السلف في باب الإيثار والمؤاساة ما جاء عن أسد بن موسى قال: كان عبد الله بن علي العباسي يطلب بني أمية فيقتلهم، قال: فدخلت مصر في هيئة رثة فأتيت الليث -يعني ابن سعد، فلما قمت من المجلس، تبعني خادم له بمائة دينار، وكان في حوزتي هِميان فيه ألف دينار فأخرجتها، فقلت: أنا في غنى، استأذن لي على الشيخ، فاستأذن، فدخلت وأخبرته بنسبي، واعتذرت من الرد، فقال: هي صلة، قلت: أكره أن أعوّد نفسي، قال: ادفعها إلى من ترى من أصحاب الحديث[1].

وهكذا جاء عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- أنهم اشتروا شعيراً بدينار، وكان الغلاء، فقالت أم علي للفضيل -وهي زوجة الفضيل: قوَّرتُه لكل إنسان قرصين، فكان عليٌّ وهو ابن الفضيل وكان بمنزلة من الزهد كأبيه في العبادة، مات حينما سمع آية تُقرأ، فكان عليٌّ يأخذ واحداً، ويتصدق بالآخر حتى كاد أن يصيبه الخواء[2].

وهذا أيضاً من الأخبار العجيبة: يقول الواقدي الراوي المعروف الذي يروي السير يقول: إنه أصابته ضائقة، يقول: وأنا مع يحيى بن خالد وحضر عيد، فجاءتني الجارية فقالت: ليس عندنا من آلة العيد شيء، جاءت جاريتهم من بيته، فقالت: ما عندنا شيء للعيد، لا ثياب، يقول: فمضيت إلى تاجر صديق لي ليقرضني، فأخرج إليّ كيساً مختوماً فيه ألف دينار ومائتا درهم، فأخذته فما استقررت في منزلي حتى جاءني صديق لي هاشمي، فشكى إليّ تأخر غلته وحاجته إلى القرض -يعني: شكى حاجته إلى القرض، فدخلتُ إلى زوجتي، فأخبرتها، فقالت له: على أي شيء عزمت؟ يقول: فقلت على أن أقاسمه الكيس، نصف لي ونصف له، قالت: ما صنعت شيئاً، أتيت رجلاً سوقة، فأعطاك ألفاً ومائتي درهم، -يعني: أتيت رجلا من عامة الناس، وأعطاك هذا المبلغ، والآن يأتيك هذا الهاشمي وتعطيه النصف؟- تقول: وجاءك رجل من آل رسول الله ﷺ تعطيه نصف ما أعطاك السوقة؟!.

يقول: فأخرجت الكيس كله إليه، فمضى، فذهب صديقي التاجر إلى الهاشمي، تبين أن التاجر الآن الذي أقرض هذا ما عنده شيء، الذي أقرض الواقدي ما عنده غير هذا الكيس، فذهب ليقترض، من أين؟ من الهاشمي، وكان صاحباً له، فسأله القرض، فأخرج الهاشمي إليه الكيس بعينه، فعرفه التاجر؛ لأنه هو الذي أقرضه للواقدي أولاً، فدار حتى رجع إلى الأخير، فعرفه التاجر وانصرف إليّ فحدثني بالأمر.

قال: وجاءني رسول يحيى يقول: إنما تأخر رسولنا عنك لشغلي، فركبت إليه فأخبرته أمر الكيس.

فقال: يا غلام، هات تلك الدنانير، فجاءه بعشرة آلاف دينار فقال: خذ ألفي دينار لك، وألفي دينار للتاجر، وألفين للهاشمي، وأربعة آلاف لزوجتك فإنها أكرمكم[3]. هذا يقوله يحيى بن خالد.

وأما أخبار الإمام أحمد -رحمه الله- فيقول أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدب: كنت آتي لأحمد، هو يحدِّث بهذا عبدَ الله ابنَ الإمام أحمد يحدثه بهذا الخبر، يقول: كنت آتي أباك فيدفع إليّ الثلاثة الدراهم، وأقل وأكثر، ويقعد معي، فيتحدث، وربما أعطاني الشيء، ويقول: أعطيتك نصف ما عندنا.

يقول: فجئت يوماً، فأطلت القعود أنا وهو، قال: ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة -خبز، فقال: هذا نصف ما عندنا، فقلت: هي أحب إليّ من أربعة آلاف من غيرك[4].

ويقول هارون المستملي: لقيت أحمد بن حنبل، فقلت: ما عندنا شيء، فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها[5].

ويقول المروذي: رأيت أبا عبد الله قد وهب لرجل قميصه، وقال يصف الإمام أحمد: ربما واسى من قوته[6]، يعني: الطعام الذي يتقوّت به.

وجاءه أبو سعيد الضرير، وكان قال قصيدة في ابن أبي دؤاد، وابن أبي دؤاد هذا رئيس القضاة شيخ المعتزلة الذي فُتن الإمام أحمد بسببه، وعُذب، فشكا إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فقال الإمام أحمد: يا أبا سعيد، ما عندنا إلا هذا الجذع، يعني: من الضأن.

فجاء بحمال وأخذه يقول: فبعته بتسعة دراهم ودانقيْن.

وكان الإمام -رحمه الله- شديد الحياء، كريم الأخلاق، يعجبه السخاء.

ويقول أبو الفوارس، هذا رجل ساكَنَ الإمام أحمد وجاوره، يقول: قال لي أبو عبد الله: يا محمد، ألقَى الصبيُّ المقراضَ، يعني: هذا كأنه مستأجر ناحيةً للإمام أحمد، يعني بيتًا للإمام أحمد.

الإمام أحمد يقول له: إن الصبي ألقى المقراض في البئر، يعني: لو سمحت أخْرِج المقراض، يقول: فنزلت فأخرجته.

فكتب لي إلى البقال أعطه نصف درهم، يعني: في مقابل هذه الخدمة، يقول: فقلت: هذا لا يَسْوَى قيراطًا، والله لا أخذته، قال: فلما كان بعدُ دعاني، فقال: كم عليك من الكِراء؟ كم باقي من الأجرة؟ قلت: ثلاثة أشهر، قال: أنت في حِل، أسقطها عنه من أجل استخراج مقراض من البئر.

ثم قال أبو بكر الخلال: فاعتبروا يا أولي الألباب والعلم، هل تجدون أحداً بلَغَكم عنه هذه الأخلاق؟![7].

ويقول يعقوب بن شيبة: أظل العيدُ رجلاً، يعني: أدركه العيد، وعنده مائة دينار، لا يملك سواها، فكتب إليه صديق يسترعي منه نفقة، فأنفذ إليه بالمائة الدينار، فلم ينشب أن ورد عليه رقعة من بعض إخوانه يذكر أنه أيضاً في هذا العيد في ضائقة، هذا الثاني الذي اقترضها، فوجه إليه بالصرة بعينها، قال: فبقي الأول لا شيء عنده، فاتفق أنه كتب إلى الثالث -وهو صديقه- يذكر حاله، فبعث إليه الصرة بختمها.

دارت على الثلاثة كالخبر الأول الذي حصل مع الواقدي، فعرفها وركب إليه، وقال: خبِّرني ما شأن هذه الصرة؟ فخبّره الخبر، فركبا معاً إلى الذي أرسلها، وشرحوا له الخبر، ثم فتحوها واقتسموها[8].

ويقول منبه البصري: سافرت مع أبي أحمد القلانسي، فجُعنا جوعاً شديدًا، ففُتح علينا بشيء من طعام، فآثرني به، وكان معنا سويق، فقال: يا منبه، تكون جملي؟، -يمزح معه- قلت: نعم، فكان يُؤْجرني السويق[9]. يعني: يسقيه إياه.

قال ابن أبي لبابة الحافظ: كان بقية بن مخلد من عقلاء الناس، وأفاضلهم، وكان أسلم بن عبد العزيز يقدمه على جميع من لقيه بالمشرق، ويصف زهده، ويقول: ربما كنت أمشي معه في أزقة قرطبة، فإذا نظر في موضع خال إلى ضعيف محتاج أعطاه أحد ثوبيه[10]. بقية بن مخلد إمام في العلم من أئمة الإسلام في الأندلس، ومصنفاته شاهدة بهذا.

وأيضاً هذا أبو عبيد الله محمد الصاداني وهب رجلاً اختلت حاله، -لا يعرفه- وهبه في ساعة واحدة ما مبلغه ألف دينار[11].

أي: إنسان حصلت له نكبة، فأعطاه ما مقداره ألف دينار.

وهذا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الإمام المعروف، لما وقع الغلاء بمصر شوهد في ثلاث ليال يؤثر بعشائه ويطوي، يعني: يبيت جائعاً[12].

وهكذا الزاهد عبد الله بن عثمان اليُونيني، كان لا يقوم لأحد تعظيماً لله، ولا يدخر شيئاً، وله ثوب خام ويلبس في الشتاء فروة، وقد يؤثر بها في البرد، وكان ربما جاع، ويأكل من ورق الشجر[13].

المقصود أن الإنسان في نفسه يسعه ذلك، ولكن الكلام فيمن يجب عليه نفقتهم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 322).
  2. المصدر السابق (8/ 299).
  3. سير أعلام النبلاء (9/ 467).
  4. المصدر السابق (11/ 218).
  5. المصدر السابق (11/ 219).
  6. المصدر السابق.
  7. المصدر السابق.
  8. المصدر السابق (11/ 498).
  9. المصدر السابق (13/ 170).
  10. المصدر السابق (13/ 292).
  11. المصدر السابق (14/ 409).
  12. المصدر السابق (1/ 457).
  13. المصدر السابق (22/ 102).

مواد ذات صلة