الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الحلم والأناة والرفق
تاريخ النشر: ٠٥ / رجب / ١٤٣٠
التحميل: 2075
مرات الإستماع: 3837

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الحلم والأناة والرفق" نورد ما جاء عن السلف في هذا الباب.

يقول قبيصة بن جابر: صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناة منه[1].

أثقل حلماً: يعني أنه صاحب حلم كثير، ولا أبطأ جهلاً: الذي يجهل بمعنى أنه يتعدى بقول أو فعل على غيره، إما ابتداء، وإما بمقابلة الإساءة.

وكان معاوية يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي[2].

يعني: أن يكون ذنب أثقل من حلمي.

وكان زياد -يعني: ابن أبيه- حاكماً على العراق، وقيل له: زياد بن أبي سفيان؛ لأنه استلحق في النسب، كان معظماً للأحنف بن قيس، فلما ولي بعده ابنه عُبيد الله بن زياد، تغير أمر الأحنف، بمعنى: أن عُبيد الله أخر الأحنف، وقدم عليه من هو دونه، ثم وفد على معاوية في الأشراف، يعني: من أهل العراق، فقال لعُبيد الله: أدخلهم عليّ على قدر مراتبهم، فأخر الأحنف، فلما رآه معاوية أكرمه لمكان سيادته، وقال: يا أبا بحر، يعني: كناه وأجلسه معه، وأعرض عنهم، فأخذوا في شكر عُبيد الله، يعني: جلسوا يثنون على عُبيد الله، هذه المجموعة التي دخلت، جعلوا يثنون على عُبيد الله بن زياد، وسكت الأحنف، فقال له: لمَ لا تتكلم؟ قال: إن تكلمت خالفتهم، ففهم معاوية أنه لا يوافقهم على الثناء على عُبيد الله بن زياد، فقال معاوية: اشهدوا أني قد عزلت عبيد الله، فلما خرجوا كان فيهم من يروم الإمارة، ثم أتوا معاوية بعد ثلاث، نزلوا في الشام، وذكر كل واحد شخصاً، يعني: يرشحونه للإمارة بعد عُبيد الله، وتنازعوا، فقال معاوية: ما تقول يا أبا بحر؟ وهو ساكت، قال: إن وليت أحداً من أهل بيتك لم تجد مثل عُبيد الله، فقال: قد أعدتُه، فخلا معاوية بعُبيد الله، وقال: كيف ضيعت مثل هذا الرجل الذي عزلك وأعادك، وهو ساكت؟ فلما رجع عُبيد الله جعل الأحنف صاحب سره، وكان الأحنف يقول: لست بحليم، ولكني أتحالم[3]، وهذا من تواضعه -رحمه الله.

وكان عبد الله بن صفوان بن أمية سيد أهل مكة في زمانه؛ لحلمه، وسخائه، وعقله[4].

وأما أبو سلمة بن عبد الرحمن -وهو من التابعين- فقد كان صحب ابن عباس -ا- وصحب أبا هريرة، وكان يقول: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً[5].

يعني: كان يُكثر من مجادلة ابن عباس، لا يتلطف به، فكان ابن عباس لا يعطيه كما يعطي غيره، يكتم، أو يخزن عنه بعض علمه.

وكان علي بن الحُسين زين العابدين يخرج على راحلته إلى مكة، ويرجع لا يَقْرَعها[6].

بمعنى ما يضربها، والدابة تحتاج إلى ضرب من أجل أن تُسرع، وأن تمشي، وهو يذهب إلى مكة، ويرجع ما ضربها.

وجاء في شعر يزيد بن الحاكم بن أبي العاص:

شريْتُ الصبا والجهل بالحلم والتقى وراجعت عقلي والحليم يراجِعُ

 يعني: استبدلت هذا بهذا.

أبى الشيبُ والإسلامُ أن أتْبَع الهوى وفي الشيب والإسلام للمرء وازعُ [7]

وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إذا أراد أن يُعاقب رجلاً حبسه ثلاثاً، ثم عاقبه، كراهية أن يعجل في أول غضبه[8].

يعني: يخشى أن يظلمه في فترة الغضب، أو نحو ذلك، فيعاقب أكثر مما يستحق، وبعد ثلاثة أيام يهدأ الإنسان، وتذهب عنه نوازع الغضب؛ ولهذا رُخص في الهجر بين المسلمين ثلاثة أيام؛ لأن أثر ذلك يزول.

وكان عبد الله بن عون لا يغضب، فإذا أغضبه رجل، قال: بارك الله فيك[9].

يعني: هذه الكلمة التي يُعرف بها أنه غضب، إذا قال للرجل: بارك الله فيك.

ودخل نصر بن علي على المتوكل الخليفة العباسي، فإذا هو يمدح الرفق فأكثر، فقال له: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي:

لم أرَ مثل الرفق في لينه أخرج للعذارء من خِدرها
من يستعن بالرفق في أمره يستخرج الحية من جحرها

فقال: يا غلام، الدواة والقرطاس[10].

يعني: أعجبته هذه الفائدة.

وكان الفضيل بن عياض يقول: من أخلاق الأنبياء: الحلم والأناة، وقيام الليل[11].

ويقول ابن المغربي الأديب:

وأنتَ وحسبي أنت تعلم أنّ لي لساناً أمام المجد يبني ويهدمُ
وليس حليماً مَن تُقبَّل كفُّه فيرضى ولكن من تُعَضُّ فيحلُمُ[12]

ليس الحليم الذي يكون حليماً إذا الناس أكرموه وقدروه ونحو ذلك، وإنما الحليم هو الذي يكظم حينما يؤذى ويساء إليه.
وكان من نظم ابن جبير الكناني:

تأنَّ في الأمر لا تكن عَجِلا فمن تأنى أصاب أو كادا
وكن بحبل الإله معتصما تأمن من بغي كيد من كادا
فكم رجاه فنال بُغيتَه عبدٌ مسيءٌ لنفسه كادا[13]

وغضب هشام بن عبد الملك على رجل، فقال: والله لقد هممت أن أضربك سوطاً.

يعني: ما قال: هممت أن أقتلك، خليفة، ملك، قال: هممت أن أضربك سوطاً[14]، هذا في حال غضبه، وماذا يعني؟ شيء يسير.

هذا يذكرني بموقفين للشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله، الشيخ -رحمة الله عليه- كان له أوقات لا يريد من أحد أن يسأله فيها إطلاقاً، ويتضايق ويظهر هذا عليه، ويكرر على تلامذته لا أحد يسأل في هذه الأوقات، ففي ذهابه من بيته إلى المسجد، وهو يذهب على الأقدام، ويرجع على الأقدام، في الذهاب من البيت إلى المسجد لا يكلم أحداً، فقط يرد السلام، يراجع القرآن، وغالبًا ما يمشي معه بعض الصبيان، إذا رأوه سلموا عليه، ومشوا حتى يصل إلى المسجد، وهو لا يتكلم، ومن جاء إليه يريد أن يسأل أو نحو ذلك فقط يرد السلام، ولا يكلم أحدًا، ويراجع القرآن.

فذات يوم وجد عُمالا وقت صلاة المغرب، أذن المغرب، وهم في الجزيرة الوسطى في الطريق، ذهب إليهم وغضب، يعني: لماذا لا تصلون؟ ولماذا تعملون الآن وقت الصلاة؟ وصل إليهم والغضب في وجهه، وهو يقول: لماذا لا تصلون؟، فلما اقترب تماماً عندهم ابتسم وجلس يداعبهم ويضاحكهم ما اسمك؟ وأنت ما اسمك؟ وأنت ما اسمك؟ وبدأ يسألهم هل أنت مسلم أو غير مسلم؟ وأنت كذا ويلاطفهم.

وفي يوم آخر جاء، وإذا هو عند المسجد، وفيه مكان أظن للعربات في نزول قليل في الرصيف، وإذا بولدين على سيكل واحد، في حال من السرعة وإذا بالشيخ أمامهم تماماً، فجاء وأخذ بقود السيكل وغضب، وأراد أن يزجر هذا الولد، ثم مباشرة قلب ذلك وتلطف به، كيف حالك؟ ما اسمك؟ وأنت الذي راكب معه ما اسمك؟ وتلطف بهم، وانتهت الغضبة بضحك، وملاطفة ونحو ذلك.

ويبقى بعض الطلاب لا يلتزمون بما يطالبهم به أن لا يسألوا في بعض الأوقات، بعض الأوقات يكون عنده لقاء، أو برنامج محدد، بعد العشاء مثلاً، فكان يحدد لهم أوقاتًا، يقول: ما أحد يسأل فيها، فيأتي أناس لا يعرفون من خارج البلد أحياناً، ويسألون، يصلون معه، وبعض الطلاب يستغلون الفرصة، ويأتون ويسألون، فغضب ذات يوم غضبًا شديدًا، وجاء وجلس على الدكة التي يدرس عليها، وهو في غاية الغضب، وقال: أنا كم مرة قلت لكم: ما أحد يسأل في الوقت الفلاني، بعد الصلاة الفلانية، ما أحد يسأل، ورددت عليكم هذا مراراً، وجلس ساكتا، وكأن على رءوسهم الطير، ثم بعد ذلك قال: اسمعوا يا جماعة، تُرى إذا سأل أحد بعد هذه المرة، ثم سكت، ثم قال: ما أنا مجاوبك، فجلسوا يضحكون.

فأقول: هذا مثال ذكرني به فعل هذا الخليفة، سأضربك سوطاً، يعني: غيره قد يقول: اضربوا رأسه بالسيف.

والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (3/ 153).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق (4/ 92).
  4. المصدر السابق (4/ 151).
  5. المصدر السابق (4/ 288).
  6. المصدر السابق (4/ 388).
  7. المصدر السابق (4/ 520).
  8. المصدر السابق (5/ 133).
  9. المصدر السابق (6/ 366).
  10. المصدر السابق (12/ 134).
  11. المصدر السابق (8/ 437).
  12. المصدر السابق (17/ 396).
  13.  المصدر السابق (22/ 46).
  14. المصدر السابق(5/ 352).

مواد ذات صلة