الإثنين 09 / جمادى الأولى / 1446 - 11 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع
تاريخ النشر: ١٢ / شوّال / ١٤٣٠
التحميل: 1417
مرات الإستماع: 2541

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآثار المنقولة عن السلف فيما يتصل بباب "الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع" أن المؤلف ذكر أثراً وإن لم يكن له تعلق ظاهر بما نحن فيه، لكنه مفيد، وهو ما جاء عن الإمام مالك ، قال: "دخلت على المنصور -يعني على أبي جعفر المنصور، وكان يدخل عليه الهاشميون، فيقبلون يده ورجله، قال مالك: عصمني الله من ذلك"[1].

الهاشميون يدخلون عليه فيقبلون يده ورجله، وإذا قرأتم في التاريخ تجدون كثيراً ما يذكر في الأخبار كما يذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في (البداية والنهاية) وغيره، القادة الكبار الذي يقود جيوش المشرق يدخل على الخليفة فيقبل الأرض بين يديه، وهذا شائع ذائع بلا نكير عندهم، بل إذا قرأت في كتب بعض أهل العلم في مقدماتهم لكتبهم حينما يهدونها أحيانا لكبير من الكبراء، تجد فيها أحيانا من الاستعطاف والمدح المبالغ فيه مالا يصلح أن يصدر عن أحد من أهل العلم.

والمقصود بهذا أن الكثيرين ربما تظلم الدنيا في عينه، ويرى أن الفساد والشر قد كثر في الناس، لكن سنة الله في الخلق جارية، فهذه الأمور التي تذكر في التاريخ في زمان شريف ويوجد فيه أئمة كبار ومع ذلك تجري وتقع، ومثلها قد لا يوجد في زماننا، حتى الكفار لا يوجد عندهم مَن إذا دخل عليهم قبّل أرجلهم أو قبل الأرض عند الدخول، لا يوجد في هذا العصر، لا نعلمه أبداً، فكل زمان فيه خير وشر، ونحن مطالبون بتكثير الخير وتقليل الشر.

والمأمون كان يميل إلى التشيع، وأمر بأن ينادى بإباحة المتعة، ومن أراد أن يتلطف مع مثل هذا يحتاج أن يأتيه بحديث عن جده، عن عبد الله بن عباس، ولما كان يميل إلى التشيع دخل عليه أحد أهل العلم فذكر له حديثاً عن علي في تحريم المتعة فقبل وأذعن وأعلن ثانية بتحريمها.

 أما مسألة فتنة خلق القرآن فشأنها مشهور، ولهذا امتحن فيها العلماء ومات بعضهم في الأغلال والقيود، يقول أبو معمر القطيعي -رحمه الله: "لما أُحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحضر، فلما رأى الناس يجيبون، وكان رجلا لينًا، فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين.

فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشر، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن عبد الله بن جميع، عن أبي سلمة، قال:

كان من أصحاب رسول الله ﷺ من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون"[2].

يعني من شدة الغضب غيرة على حرمات الله -تبارك وتعالى.

وما جاء عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "من استُغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استُرضي فلم يرضَ فهو شيطان"[3].

فالغضب وُصف به الرب -تبارك وتعالى، فالله يغضب، والنبي ﷺ كان يغضب، فهي صفة كمال وعادمها بالكلية ناقص،  لكن المقصود بالذم هو سرعة الغضب الذي لا يزمُّه صاحبه ولا يكظمه فيصدر منه ما لا يليق، إذا غلب الغضب على الإنسان أثر ذلك في عقله فتكون تصرفاته غير موزونة، ولذلك نهى النبي ﷺ أن يقضي القاضي وهو غضبان[4]؛ لأن ذلك يشوش فكره، وفيما يتعلق بالإشارة التي أشرت إليها في حال بعض أولئك الخلفاء ولعل هذا يأتي في العبر من التاريخ، انظر كيف يعاقبون المسيء والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، هذا مثال من حال المأمون، هذا رجل شاعر يقال له العَكُّوك قال قصيدة يمدح بها أحد الأمراء، يقول:

كلُّ مَن في الأرضِ من عربٍ بين باديه إلى حضرهْ
مُستعِيرٌ منكَ مَكرُمةً يَكتسيها يومَ مُفتخَرِهْ

ويقول:

أنتَ الذي تُنزل الأيام منزلَها وتنقل الدهر من حال إلى حالِ
وما مددتَ مدى طرْف إلى أحد إلا قضيتَ بأرزاق وآجالِ

بالغ في مدحه جدًّا.

فالمأمون أخذته الحمية والغيرة، فقال: اطلبوه، فطلبوه قلم يقدروا عليه؛ لأنه كان مقيما بالجبل ففر إلى الجزيرة ثم إلى الشامات، فظفروا به، فحمل مقيداً إلى المأمون فقال: يا ابن اللخناء، أنت القائل وذكر البيت، جعلتنا نستعير منه المكارم؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت لا يقاس بكم -يعني أنتم خارجون عن هذا الوصف لا أقصدكم، قال: والله ما أبقيتَ أحداً، وإنما أستحل دمك بكفرك حيث تقول:  

أنت الذي تُنزل الأيام منزلها... إلخ.

وذاك هو الله، أخرِجوا لسانه من قفاه، ففعلوا به، فمات[5].

هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

  1. سير أعلام النبلاء (8/ 67).
  2. المصدر السابق (11/ 238).
  3. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 414)، وسير أعلام النبلاء (8/ 251).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، برقم (7158)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، برقم (1717).
  5. انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 332)، وطبقات الشعراء لابن المعتز (ص:172)، ووفيات الأعيان (3/ 353).

مواد ذات صلة