الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
49- أصول منقولة من كتبه وفتاويه المتفرقة ومطاوي كتبه شيئا فشيئا (القواعد 749- 765)
تاريخ النشر: ٢٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 2241
مرات الإستماع: 1597

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"الإمام هو من يُقتدى به، إما أن يرجع إليه في العلم والدين، بحيث يطاع باختيار المطيع، لكونه عالمًا بأمر الله، آمرًا به، فيطيعه المطيع لذلك، وإن كان عاجزًا عن الإلزام بالطاعة، وإما أن يكون صاحب يد وسيف، بحيث يطاع طوعًا وكرهًا، قادرًا على إلزام المطيع بالطاعة، وهؤلاء القسمان هما المراد بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] ولا يتم كل واحد منهما إلا بالآخر، ولا يستقيم الدين والدنيا إلا باجتماعهما، ووجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين ولاة الأمور وعامتهم لا يمنع أن يشاركوا فيما يعلمون من طاعة الله، فيعاونون على الخير، ولا يُطاع أحد من الخلق في معصية الله، وملوك المسلمين حسناتهم كثيرة، وسيئاتهم كثيرة، فلهم من الحسنات ما ليس لآحاد الأمة من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وجهاد العدو، وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها، ومنع كثير من الظلم، وإقامة كثير من العدل".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول: الإمام هو من يُقتدى به، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] يعني: اجعل أئمة قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] يعني: أن عهده بالإمامة لا يصل ولا يحصل للظالمين، سواءً كانوا من ذرية إبراهيم ، أو من غيرهم، فإبراهيم لما وعده الله بذلك إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] أخذته الشفقة على ولده، وما جُبل عليه الوالد في محبة إيصال النفع لأولاده، قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعني: اجعل أئمة، قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] لا ينال عهدي بالإمامة، الظالمين، أي: لا يصير إليهم، ولا يقع ذلك عليهم؛ لأنهم لا يستحقون ذلك، والمقصود بالإمامة هنا ليس الملك والرئاسة، وإنما المقصود به الإمامة في الدين، كما قال الله : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] وهذا الذي قيل فيه: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.

هنا يقول: الإمام هو من يُقتدى به، يعني: من يرجع الناس إليه، ويأتمون به؛ ولهذا قيل للراية الكبرى التي تُحمل في الحرب، ويسير الجيش والجنود خلفها: أم، كما جاء ذلك في كلام العرب وأشعارهم؛ لأنهم يسيرون خلفها، فالإمام هو الذي يقتدى به.

وهنا قال: إما أن يرجع إليه في العلم والدين، بحيث يطاع باختيار المطيع، يعني: ليس له سلطة قهر وإجبار، إنما هو يعلم الناس ويرشدهم، ويفتي، فيرجع الناس إليه في هذا، وينقادون له طواعية، يعني: يصدرون عن رأيه.

وربيعة الرأي -رحمه الله-كما هو معروف، شيخ الإمام مالك بكى، فسُئل عن هذا، فقال: شهوة حاضرة... إلخ، وقال:

"الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما أمروهم به ائتمروا، وما نهوهم عنه انتهوا"[1]، وهذا في الأحوال الطبيعية والسوية، ما لم يحصل للناس انحراف، وتفسد مفاهيمهم، وهذه دعوة قوية في مثل هذه الأوقات الآن، إسقاط العلماء، فيقود الناس الجهال، ويقودهم الشارع، ثم بعد ذلك لا يقف الفساد والإفساد عند حد، ولا يستطيع لا العلماء، وليس في الناس كبير، وكانت أصل القضية هي انتقادات، تتابعت وكثرت، أدى ذلك إلى زهد الناس فيهم.

فهنا يقول: إما باختيار المطيع لكونه عالمًا بأمر الله، آمرًا به، وإما أن يكون صاحب يد وسيف، بحيث يطاع طوعًا وكرهًا، قادرًا على الإلزام، وهذا لأهل الولاية والرئاسة والملك، وما أشبه ذلك، في الصدر الأول كان الإمام يجمع بين هذا وهذا، وذكر هذا شيخ الإسلام في بعض كتبه[2]؛ ولهذا كان مما ذكره كثير من أهل العلم في شروط الإمام الأعظم أن يبلغ مرتبة الاجتهاد، ولكن اشتراط ذلك بعد الخلفاء الراشدين، أمر لا يكاد يُوجد، اللهم إلا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، فالشاهد أنه لما افترق السيف والكتاب، الكتاب الذي يمثله العلماء، والسيف الذي يمثله الأمراء: وقعت الفتن في طوائف الأمة، فإذا اجتمع هذا وهذا حصل الصلاح والإصلاح، وحصل بسبب ذلك نفع كثير، وخير كثير، واندفع كثير من الشر.

فيقول هنا: وهؤلاء القسمان هم المراد بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فإن قوله: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ بعضهم قال: الأمراء، وبعضهم قال: العلماء، والأقرب: أن ذلك يكون لهؤلاء وهؤلاء، فيدخل في هذا الأمراء، ويدخل في هذا العلماء، ويدخل في هذا قادة السرايا والجيوش، ورؤساء العشائر والقبائل، وما إلى ذلك، فكل من له كلمة مسموعة، فإنه داخل في قوله: وَأُوْلِي الأَمْرِ وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] بمعنى: أنهم يرجعون إلى من يصدرون عن رأيه، ومن يأتيهم بحقيقة ذلك، فلا يتصرف الناس من عند أنفسهم، فيحصل بسبب ذلك شر كثير، فهنا قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] فيدخل فيه الأمراء، والعلماء، وقادة الجيوش، ورؤساء القبائل، وما إلى ذلك.

يقول: ولا يتم كل واحد منهما إلا بالآخر، فالإمام لا بد أن يكون صاحب سلطة وقهر، فلما صار الأمراء ليسوا بهذه الصفة المذكورة من بلوغ مرتبة الاجتهاد كان لا بد من الشق الآخر، يعني: من يكمل هذا النقص، وهم العلماء، فإذا التأم هؤلاء وهؤلاء كمّل بعضهم بعضًا، فالعلماء وحدهم لا يكفي؛ لأنهم لا يستطيعون أن يلزموا الناس، ولا أن ينفذوا أحكام الله فيهم، والأمراء من غير العلماء كيف سيعرفون الحق؟ وكيف سيحكمون به؟

يقول: ووجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة الأمور وعامتهم لا يمنع أن يُشاركوا فيما يعملون من طاعة الله، فيعانون على الخير، ولا يُطاع أحد من الخلق في معصية الله، يعني: إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا تكف عن إساءتهم.

يقول: وملوك المسلمين حسناتهم كثيرة، وسيئاتهم كثيرة، بمعنى: أنهم يجري على أيديهم كثير من الصلاح والإصلاح؛ لأن الأمر أو القرار الذي يصدر من الواحد منهم يسري على الناس جميعًا، بينما المصلح الواحد من أفراد الناس، ممن ليس له سلطان، تجد أنه يصلح لربما اثنين، أو ثلاثة، أو خمسة، أو عشرة، أو جيرانه، لكن هذا يجري على يده صلاح كثير في الأمة، وكذلك الشر والفساد، فبقرار واحد يمكن أن تحمل الأمة على أمور لا يرضاها الله، ولا رسوله ﷺ؛ ولهذا يقول هنا: حسناتهم كثيرة، وسيئاتهم كثيرة.

"ما ثبت في حق النبي ﷺ من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس، فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة، كما قد عُرف في عبارة الشرع، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37] إلا إذا دل دليل خاص على اختصاصه دون الأمة".

يعني: أن الخطاب الموجه للنبي ﷺ الراجح من أقوال الأصوليين: أنه متوجه إلى أمته، إلا لدليل يدل على الاختصاص، يعني حينما يقال: هذا خاص بالنبي ﷺ، هذا يحتاج إلى دليل، فالأصل أن الأدلة على ثلاثة أنواع:

الأول: دليل دل على الخصوص، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] فهذا لا شك فيه أنه خاص بالنبي ﷺ.

الثاني: ما جاء التنصيص فيه على العموم، وأن هذا لجميع الأمة، وهذا لا كلام فيه أيضًا، والنبي ﷺ داخل فيه، فالخطاب الموجه للأمة، النبي ﷺ هو واحد منها، وإن كان هو أشرفها وأفضلها، ومقدمها وقدوتها -عليه الصلاة والسلام-، فهو داخل في هذا، فإذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هذا خطاب للأمة، والنبي ﷺ داخل فيه، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6] فالنبي ﷺ داخل في هذا.

الثالث: ما ليس كذلك، يعني: لم يرد فيه ما يخصص النبي ﷺ، ولم يرد فيه ما يدل على عموم خطاب، أو على أن النبي ﷺ داخل في العموم، فهذا الأصل فيه أن النبي ﷺ داخل في ذلك.

فهنا فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لماذا؟ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [الأحزاب:37] فالله أبطل التبني، في أول سورة الأحزاب قال: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4] ثم من الناحية العملية أمر نبيه ﷺ أن يتزوج زينب، وهي امرأة متبناه زيد بن حارثة ، من أجل ماذا؟ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ [الأحزاب:37]، فلو كان الأصل أنه يخص النبي ﷺ لما دخلت فيه الأمة، فما جاء التنصيص فيه على أنه خاص بالنبي ﷺ الأمة لا تدخل فيه، وما جاء التنصيص فيه على الأمة وعلى العموم فيها فهذا الأمة داخلة فيه قطعًا، يبقى ما ليس كذلك، يعني: ما لم يرد فيه قرينة، مثل هذا، فالأمة داخلة فيه، فحينما يقول الله للنبي ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1] أو يقول: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب:2] ويقول: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأحزاب:3] فهذا كله تدخل فيه الأمة، مع أن الخطاب متوجة للنبي ﷺ.

"باب الإحسان إلى الناس، والعفو عنهم، مقدم على باب الإساءة والانتقام، كما في الحديث: ادرؤوا الحدود بالشبهات[3]، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، فالخطأ في المدح أهون من الخطأ في القدح، وإعطاء المجهول الذي يدعي الفقر من الصدقة أهون من حرمان الفقير، فالخطأ في إعطاء الغني خير من الخطأ في حرمان الفقير، والعفو عن المجرم خير من عقوبة البريء".

هذا كلام جيد للغاية، الإحسان إلى الناس، باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة، وكذلك باب إحسان الظن مقدم على باب إساءة الظن، والمشكلة لكون الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم تسري فيهم بعض الأمثال غير الصحيحة، فينقادون لها، ويعملون بموجبها، فيقولون مثلاً: الحزم إساءة الظن، فتجد بعض الناس عنده إساءة الظن هي الأصل، فإذا زاره أحد بدأ يضع الاحتمالات، وإذا وجد رقم أحد اتصل عليه بدأ يضع الاحتمالات، وإذا قال له أحد: أريد أن أتحدث معك في موضوع بدأ يضع الاحتمالات السيئة طبعًا، وهكذا، فهذا خطأ، وغير صحيح، وإنما الأصل إحسان الظن، فهذا الإنسان الذي يسأل عند باب المسجد قد يكون غنيًّا، وقد يكون فقيرًا، فإذا قدَّمت إساءة الظن لن تتصدق عليه، وإذا قدمت إحسان الظن تصدقت عليه، ومن ثم فتقديم إحسان الظن لئلا يحرم الفقير أولى من أن يتصدق على غني فتكتب لك صدقة؛ ولهذا كان سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز -رحمه الله- كان يذكر هذا، وأن هؤلاء الذين يسألون يُعطون لعله يكون فقيرًا، فتكون قد حرمته بسبب هذا الافتراض وهو سوء الظن؛ ولهذا يقال: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وهذا في أمور كثيرة جدًا، قد تتردد في شيء بين العفو والعقوبة، والأمر يحتمل، ولم يترجح عندك شيء، فماذا تفعل؟ قدم العفو، هذا يحصل مع الزوجة، ويحصل مع الأولاد، ويحصل مع الناس الذين نتعامل معهم، ويحصل مع الإخوان والزملاء، ويحصل مع الجيران، ويحصل مع التلاميذ، قد يسيء أحد منهم، وكذلك في التصحيح في الإجابات، فهذا الطالب لا تستطيع الوصول إليه، وأوراق الاختبار أمامك، وهذه الإجابة تحتمل أن يريد بها معنىً صحيحًا، ويحتمل أن يكون لم يفهم المراد، ويريد بها معنىً غير صحيح، فالعبارة موهمة محتملة، فيحتاج أن يستفصل، فيقال له: ماذا تقصد؟ طبعًا أنا إذا كنت أستطيع الوصول إليه أنتظر وأسأله، وأقول: ماذا تقصد بالعبارة هذه، فإن ذكر معنىً صحيحًا اعتبرت إجابته صحيحة، لكن لو لم أستطع هذا، أو كان لا بد أن أنهي هذا الموضوع، فإني أغلب جانب العفو، فالخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، فهذا الإنسان لا يُدرى هل هو مذنب، أو غير مذنب؟ هل مذنب فيعاقب أو لا؟ يغلب جانب العفو، وهذا يكون للنفوس الكبيرة، وأصحاب السماحة، بخلاف من يغلب عليه سوء الظن بالناس؛ ولهذا تجد أصحاب النفوس الطيبة، والمشرقة، والكبيرة دائمًا إذا سُئل عن أحد يُثني عليه، وتجد آخرين لا يكاد يُسأل عن أحد إلا عنده فيه استثناءات وقيود وانتقادات وعيوب، ولا يكاد يجتاز عنده أحد، وليس عنده أحد مُعدل، ولا بد من مثالب وعيوب، والله المستعان.

وهذا يُحتاج إليه كثيرًا، في تربية الزوجة والأولاد، والناشئة، وما إلى ذلك، فإذا كان يربيهم صاحب نفس ضيقة لا يجتاز عنده أحد، فتبقى نفوسهم دائمًا منقبضة متوجسة، لا يصدر منهم تصرف، ولا كلمة؛ لئلا تحفظ، ويكون خطؤه تاريخ يلاحقه إلى أن يموت، بينما تجد صاحب النفس الكبيرة الكل عنده يروج، ويعمل، ويُستفاد من جهده وطاقته وأعماله وجهوده وأفكاره وبرامجه، ما شاء الله! طبعًا ليس على سبيل التضييع، ولا كما يقوله ويتفلسف به أصحاب البرمجة العصبية، حيث يقولون: انظر إلى نصف الكأس المليان.

وحديث: ادرؤوا الحدود بالشبهات[4] فيه ضعف، وإن كان الفقهاء يعتمدون عليه كثيرًا، وكذلك حديث: فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة[5]، هذا لا يصح طبعًا رفعه إلى النبي ﷺ، لكن المعنى صحيح.

"والصواب الجامع في هذا الباب: أن من حكم بعدل، أو قسم بعدل، نفذ حكمه وقسمته، ومن أمر بمعروف، ونهى عن منكر أُعين على ذلك إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة، وأنه لا بد من إقامة الجمعة والجماعة، فإن أمكن تولية إمام بر لم يجز تولية فاجر، ولا مبتدع يظهر بدعته، فإن هؤلاء يجب الإنكار عليهم بحسب الإمكان، ولا يجوز توليتهم، قال: فإن لم يمكن إلا تولية أحد رجلين كلاهما فيه بدعة وفجور كان تولية أصلحهما ولاية هو الواجب".

الذي هو أصلح في باب الولاية، ولا ننظر إلى الأصلح أنه الذي في محراب المسجد، فنحن أمام ولاية، هذه الولاية ما هي؟ قد تكون هذه الولاية ولاية الحرب، فهذه يصلح لها من لديه خبرة عسكرية، فإذا وُجد من هو أقل تقوى وصلاح وآخر عابد زاهد، لكن لا خبرة له في هذا الباب، فأيهما الذي نولي؟ صاحب الخبرة وإن كان أقل صلاحًا، ففساده على نفسه، ونكايته وقوته للمسلمين، هذا إذا ما كان فساده من نوع آخر، كأن يكون صاحب فكر منحرف، يحارب الإسلام، فهذا لا يولى؛ لأن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-[6]، فإذا كان هذا سيفسد الدين والدنيا، فإنه لا يولى، هذا عكس مقصود الولاية، وهكذا في سائر الولايات، فحينما يقال مثلاً: انتخابات بلدية، ليست القضية أن نبحث عن الإنسان التقي الصالح الخير المتدين، الذي يصلي في الصف الأول، لا، ننظر من هو الأنفع في هذا المجال، لكن بشرط أن لا يكون منحرفًا انحرافًا يقوده إلى الإفساد، لكن كونه صاحب معاصٍ على نفسه، هذا أمر لا يضر المسلمين، لكن إذا كان صاحب انحرافات فكرية، ويريد أن يفسد المجتمع، فمثل هذا لا، ولا كرامة.

"وإذا لم يمكن في الغزو إلا تأمير أحد رجلين، أحدهما فيه دين وضعف عن الجهاد، والآخر فيه منفعة في الجهاد مع ذنوب له، كان تولية هذا الذي ولايته أنفع للمسلمين خيرًا من تولية من ولايته أضر على المسلمين".

انظر: أنفع للمسلمين، يعني: لو كان قوي لكنه ولايته ليست أنفع للمسلمين؛ لأنه أصلاً أجير عند العدو مثلاً، فمثل هذا لا يولى، ولو كان قويًّا، فإن هذه القوة ستكون على المسلمين، وليست للمسلمين.

قال: "وإذا لم يمكن صلاة الجمعة والجماعة وغيرها إلا خلف الفاجر والمبتدع صُليت خلفه ولم تعد، وإن أمكن الصلاة خلف غيره وكان في ترك الصلاة خلفه هجر له ليرتدع هو وأمثاله عن البدعة والفجور فُعل ذلك، وإن لم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة دينية صُلي خلفه، وليس على أحد أن يصلي الصلاة مرتين".

يعني: لا يصلي معه، ثم يصلي في البيت وحده، فليس ذلك بمشروع، يعني: لا يصليها مرتين.

قال:

"ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]".

قال -رحمه الله-:

"والله سبحانه لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين، ولا صلاح الدنيا، ولو كان فاعل ذلك من عباد الله الصالحين؛ ولهذا أمر النبي ﷺ بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج عليهم؛ لما في لزوم أمره من صلاح العباد في المعاش والمعاد، ومن خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد، كما استفاضت بذلك الأحاديث".

كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا المعنى كثير، وهو يذكر الذين خرجوا، فيقول: لم يحصل لهم من حسن العاقبة، ولم يحصل على يدهم ما يكون صلاحًا في المآل[7]، وهذا بناءً على الاستقراء، وهذه قضية معهودة في التاريخ ومستفيضة، ولذلك الاستعجال في الحكم على الأشياء وهي في أوائلها أرى أنه غير صحيح، فيحتاج الناس إلى شيء من التريث، وفي فرق بين أن يفرح أهل الإيمان بإذلال أعداء الله ، والخزي الذي يقع لهم، هذا يفرح به كل مؤمن، ولكن هل مجموع ما يجري هو مصلحة وخير ونفع للأمة؟ فهذا الذي يعلمه هو الله ؛ لأنك لا تستطيع أن تحكم على المآلات بأمور لا زالت في بداياتها، ويُوجد في بلاد المسلمين نماذج وأمثلة منذ أكثر من عشرين سنة، صار الناس يتمنون لو كانوا على ما كانوا عليه قبل ذلك، أليس كذلك؟ هذه النماذج موجودة بلا شك، فنسأل الله دائمًا أن يحسن العاقبة للمسلمين، ونحن إذا سُئلنا عن هذا دائمًا هذا هو الجواب، وبعض الإخوة يعتبون، ويقولون: لماذا لا يكون هناك حديث عن هذه الثورات والربيع العربي؟ فأقول: لا أستطيع أن أتحدث، لكن أقول: نسأل الله أن يجعل العاقبة خير وعافية للمسلمين، لكن أمر لا أستطيع أن أحكم عليه من أوله، لكن ما الذي يعقب ذلك من مراحل؟ لا نعرف؛ لذلك يسع الإنسان أن يمسك لسانه، وليس بملزم أن يتكلم في كل شيء، كل أحد يقال له تكلم في كل شيء! فالإنسان سيسأل عما يقول، لكن يخطئ من يظن أن البدايات التي يفرح بها تحكي المآلات، هذا نظر قاصر بلا شك، ونذر الشر ترونها تلوح، ولا يستطيع أن ينكر هذا إلا مكابر، وهو المتوقع منذ البداية، لكن نحن دائمًا نقول: نسأل الله أن يكفي المسلمين شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل العاقبة للمسلمين.

"لعن الفاسق المعين لا يجوز، وإنما جاء الشرع بلعن الأنواع مثل لعن الله الظالمين، ولعن الله من غير منار الأرض، ونحو ذلك، ونحن نعلم أن أكثر...".

يقول: لعنة الفاسق المعين ليس مأمورًا بها، والإمام أحمد لما قيل له: أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ فقال: لا ولا كرامة، أو ليس هو فعل بأهل المدينة ما فعل، وقيل له: إن قومًا يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أو لا تلعنه؟ فقال: ما رأيتَ أباك يلعن أحدًا، وفي رواية: متى رأيتَ أباك لعّانًا؟[8]، ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء[9]، فاللعن لم نتعبد به، حتى فرعون، هل نحن متعبدون بلعن فرعون؟ وهل الشارع طالبنا أن نلعن فرعون؟ الجواب: لا، والجمهور من أهل السنة يقولون: بأن لعن المعين لا يجوز، والمعين: الذي لم يشهد الشارع عليه بالنار، وأنه مات على الكفر، فلما يقول إنسان: لعن الله أبا لهب، لعن الله أبا جهل، أو لعن الله عمرو بن لحي الخزاعي، والنبي ﷺ قال: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار[10]، هذا لا إشكال فيه، لكن لعن المعين الذي لم يشهد الشارع له بالنار بعينه، فهذا الذي يتكلم فيه أهل العلم، يعني: لو رأى أحد من الناس امرأة نامصة، وقد جاء: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات[11]، هل يجوز له أن يلعنها بعينها؟ الجواب: لا؛ لماذا لا تلعن بعينها؟ لأن اللعن العام غير اللعن المعين؛ لأن المعين كما يقول شيخ الإسلام: قد يقوم فيه موانع، أو تنتفي شروط، فلا يتنزل هذا اللعن عليه[12]، يعني هذه نامصة، لكن هل بالضرورة أن اللعنة تنزلت عليها بعينها؟ لا نعلم بهذا، ولا نستطيع أن نجزم به، قد تنتفي شروط أو تقوم بها، توجد موانع، فلا يتنزل اللعن عليها، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ[هود:18] نلعن على سبيل العموم، لكن رأينا ظالمًا فهل نلعن هذا الظالم بعينه، فنقول: لعن الله فلانًا؟ الجواب: لا؛ لأن اللعن العام لا يقتضي تنزل ذلك ووقوعه على الشخص المعين، والإنسان يمسك لسانه، والله لم يتعبدنا باللعن أصلاً، وكما جاء: إن اللعانين لا يكونون شهداء، ولا شفعاء يوم القيامة[13].

قال: وإنما جاء الشرع بلعن الأنواع، مثل: لعن الله الظالمين، ولعن الله من غير منار الأرض[14]، ونحو ذلك.

"ونحن نعلم أن أكثر المسلمين لا بد لهم من ظلم، فإن فتح هذا الباب ساغ أن يلعن أكثر موتى المسلمين، والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين، وبالدعاء بالمغفرة والرحمة لعموم المؤمنين، لم يأمر بلعنتهم، فمن لعن أحدًا من المسلمين فقد ترك المأمور، وفعل المحظور، وخصوصًا الأموات، فإن لعنهم أعظم من لعنة الأحياء، كما قال ﷺ: لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا[15].

ولا ريب أن لآل النبي ﷺ حقًا على الأمة، لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشًا يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم".

شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن جنس العرب أفضل من غيرهم من الأجناس[16]؛ لكونهم أفضل وأشرف، وهم الذين اصطفاهم الله من بين سائر الأمم؛ ليكونوا حملة الرسالة، وجعل القرآن بلغتهم، والنبي ﷺ جعله الله واحدًا منهم، فجنس العرب أشرف من سائر الأجناس، لكن هذا باعتبار الجنس، أما باعتبار المعين فإنه كما قال الله : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فالأتقى هو الأكرم، هذا باعتبار الأفراد، و لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى[17]، فهذا وجه الجمع بين هذه النصوص؛ وقال النبي ﷺ: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم[18]، فهذا كله اصطفاء، ولهذا فإن قريشًا أفضل العرب، فتكون المحبة أكثر بحسب ما يكون من الفضل والمرتبة، فيُحب لإسلامه، ويُحب أيضًا لكونه من العرب، ولكونه من قريش، وأعظم منه من يكون من آل بيت النبي ﷺ إذا كان مؤمنًا، فيُحب محبة إيمانية، والأخرى باعتبار القرابة، مثل ما يقال في الحقوق، هذا له حق الإسلام، وحق القرابة، وهذا له حق الإسلام، وحق الجوار، فكذلك ما يتصل بالمحبة، فآل بيت النبي ﷺ نحبهم لإيمانهم ولقرابتهم.

"وتفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، كما أن تفضيل القرن الأول على الثاني، والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك، بل في القرن الثالث خير من كثير من القرن الثاني.

ومن خصائص بني هاشم تحريم الصدقة عليهم، واستحقاقهم من الفيء، وبنو المطلب معهم في الأخير، وكذلك الصلاة على أهل البيت كلهم.

وأما ترتيب الثواب والعقاب، والمدح والذم، فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان، والعمل الصالح، وهو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لكن قال النبي ﷺ: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[19]، فالعرب في الأجناس، وقريش فيها، ثم هاشم في قريش مظنة أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم، كما هو الواقع، فلا بد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل".

يعني هذا باعتبار الجملة، لا باعتبار الأفراد، فحينما يقال مثلاً: أفضل القرون هم الذين صحبوا النبي ﷺ، وإلا فقد يوجد في بعض التابعين أفراد أفضل من بعض الأفراد الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، ولكن ليس من كبار الصحابة، ومشاهيرهم، أو علمائهم -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.

وهكذا قد يوجد في غير القرون المفضلة بعض الأفراد أفضل ممن وُجد في مثلاً قرن التابعين، أو قرن أتباع التابعين، كالأئمة الأربعة مثلاً، فهم أفضل من كثير ممن وجد في زمن أتباع التابعين مثلاً، أو في زمن التابعين، فهذا التفضيل باعتبار الجملة، فحينما يقال: العرب أفضل باعتبار الجملة، لكن قد يُوجد أفراد من الأعاجم أفضل من كثير من العرب، وحينما يقال: بأن قريشًا أفضل من غيرها هذا باعتبار الجملة، لكن قد يُوجد في غيرهم من هو أفضل من كثير منهم، لكن الخير الذي يُوجد في قريش أكثر وأعظم في الجملة من الخير الذي يوجد في غيرهم، وهكذا، وهذا أمر مشاهد، الخير الذي يوجد في العرب في الجملة أفضل وأكثر وأعظم من الخير الذي يُوجد في الأعاجم، وإن وُجد في الأعاجم أفراد أفضل من كثير من العرب، وهذا الأمر لم يزل ساريًا معروفًا في الأمة إلى يومنا هذا، فالآن لو ذهبتم إلى كثير من بلاد الأعاجم إذا رأوك كأنهم رأوا ملائكة تتنزل، وهذا شيء مشاهد، يقولون: أنتم أصحاب النبي ﷺ، وأحفاد الصحابة، فهم يستشعرون هذا، أمشي في الشارع بلباسي هذا، والصغار يخرجون من المدرسة يطوفون بي، ويرددون:

طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ[20]

وسمعت من يقول لي: أنتم ملائكة تتنزل من السماء علينا، ويقولون: إيتونا بواحد من أولادكم في المرحلة الثانوية يقيم بين أظهرنا في الإجازة؛ لماذا؟ قالوا: يكفينا شرفًا وفخرًا، نفتخر بين الناس أنه وجد واحد من أحفاد الصحابة يقيم بيننا، لكن هذا أين؟ هذا في الأماكن التي لم يطأها فُساقنا، أما الأماكن والعواصم والمدن الكبرى التي يذهب إليها فساقنا للفجور، فهؤلاء للأسف أصبحوا حتى إذا جاءهم طالب العلم صاروا يعرضون عليه الفساد، يظنون أنه من أولئك الفاسدين، فصاروا يتصورون أن كل من يأتي من هذه البلاد أنه جاء للفساد، وقد يستغربون إذا رأوا شيئًا غير ذلك.

فالمقصود: أن البيئات التي سلمت من مثل هذه التصورات لا زالوا يرون أن العرب أشرف من سائر الناس، إلا من وُجد عندهم نعرات وعصبيات جاهلية، ونحو ذلك، كالفرس مثلاً، فالنعرة الفارسية معروفة منذ القدم، فهذا شأن آخر، التي يسمونها الشعوبية؛ ولما جاء الاستعمار أيضًا حاول إحياءها، فحاول إحياء الطورانية في تركيا، وحتى البلاد العربية حاول أن يرجعهم إلى أصول قديمة كالفرعونية في مصر، وهكذا، والله المستعان.

"ومحمد ﷺ قد أخبر الله عنه أنه يصلي عليه هو وملائكته، فلم تكن فضيلته بمجرد كون الأمة يصلون عليه، بل أن الله وملائكته يصلون عليه بخصوصه، وإن كان الله وملائكته يصلون على المؤمنين عمومًا، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43] ويصلون على معلمي الناس الخير، كما في الحديث: أن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير[21]، ومحمد ﷺ لما كان أكمل الناس فيما يستحق به الصلاة من الإيمان، وتعليم الخير، وغير ذلك كان له من الصلاة عليه خبرًا وأمرًا خاصية لا يوجد مثلها لغيره ﷺ".

النبي ﷺ حينما يصلي عليه أهل الإيمان، وصلاة المؤمنين معناها: الدعاء له -عليه الصلاة والسلام-، وصلاة الملائكة: الاستغفار، وصلاة الله على العبد بمعنى: أن يذكره في الملأ الأعلى، فبلوغ النبي ﷺ المراتب العالية ليس موقوفًا على هذا، وهكذا حينما نسأل الله للنبي ﷺ الوسيلة والفضيلة، لم يكن ذلك موقوفًا على سؤالنا الوسيلة، فإن الله قد كتب له ذلك، فالنبي ﷺ قد حصل له هذا الفضل والمنزلة، وإن لم يصلِّ عليه أحد، ولا يمنع ذلك من أن يكون الله قد قيض لذلك أسبابًا من جملتها دعاء المؤمنين وصلاتهم، وسؤالهم الوسيلة والفضيلة للنبي ﷺ، وإلا فرسول الله -عليه الصلاة والسلام- هو بالمنزلة العليا عند ربه، وإن لم يصلِّ عليه أحد من الناس، فتكفيه صلاة الله عليه.

"والله تعالى إذا أمر الإنسان بما لم يأمر به غيره لم يكن أفضل من غيره بمجرد ذلك، بل إن امتثل ما أمر الله به كان أفضل من غيره بالطاعة، كولاة الأمور وغيرهم ممن أُمر بما لم يُؤمر به غيره، من أطاع منهم كان أفضل؛ لأن طاعته أكمل، ومن لم يطع منهم كان من هو أفضل منه بالتقوى أفضل منه".

إذا أُمر الإنسان بما لم يُؤمر به غيره لم يكن أفضل من غيره بمجرد ذلك، مثل ماذا؟ التقوى والمنزلة عند الله ، أيهما أفضل الرجل أو المرأة في التقوى والمنزلة عند الله؟ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] الرجل أُمر بأشياء لم تُؤمر بها المرأة، كما جاء في الحديث: "نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟"[22]، هل بهذا الاعتبار يقال: والله منزلة الرجل في الجنة أعلى من منزلة المرأة؟ لا، فهذه تكاليف، إن قام بها فهو مأجور، وإن قصر بها فهو محاسب عليها، المرأة أمرت بالقرار في البيت والرجل لم يُؤمر بذلك، هل هذا الأمر الخاص بالمرأة يقتضي أنها أفضل وأكمل؟ الجواب: لا، فهذا تكليف خاص بها إن قامت بها تُؤجر، إن قصرت تحاسب، وأمرها الله بالحجاب، ولم يأمر الرجل، لا يقتضي ذلك تفضيلاً، حينما يُؤمر المكلف المعين، وهكذا بحسب قدر الناس وإمكاناتهم، فالذي يكون للأمراء والولاة ومن عنده قُدَر وإمكانات يتوجه إليه من أمر الشارع ما لا يتوجه إلى غيره، فهل هذا يقتضي أنه أفضل؟ الجواب: لا، وإنما التفاضل يكون بحسب التقوى.

"وإذا شهد النبي ﷺ لمعين بشهادة، أو دعا له بدعاء، أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة، أو مثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي ﷺ يشهد بذلك لخلق كثير، ويدعو به لخلق كثير، وكان تعينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه".

يعني: حينما يشهد النبي ﷺ لأحد بشهادة، كأن قال: نعم الرجل فلان، أو شهد له بالجنة، أو شهد له بالإيمان، أو أنه يحب الله ورسوله، فهذه منقبة ومزية.

قال: وإن كان النبي ﷺ يشهد بذلك لخلق كثير، ويدعو به لخلق كثير، حينما يدعو النبي ﷺ لواحد من الأمة، كما دعا لأنس: اللهم أكثر ماله وولده[23]، اللهم صل على آل أبي أوفى[24]، فهذا يدعو به النبي ﷺ لخلق كثير، لكن توجُّه ذلك لمعين يكون من جملة مناقبه، كذلك الرجل الذي كان يسكر ويجلد، فلما سبوه أو لعنوه، قال النبي ﷺ: إنه يحب الله ورسوله[25]، فكانت هذه منقبة، وهناك قاعدة أخرى ذكرناها في بعض المناسبات: أن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهذا الذي يشرب الخمر، وقال فيه النبي ﷺ: إنه يحب الله ورسوله[26] ليس بأفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولا بقية العشرة، ولا كبار الصحابة، لكن هذه مزية.

"لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم".

هذا سبق الكلام عليه في بداية شرح هذا الكتاب، فقلنا: إن الناس بحاجة إلى معرفة الضوابط والقواعد من أجل أن يكون عند الإنسان أصول كلية يُرجع إليها الجزئيات، وأن هذه الأصول هي بمنزلة الأصول للأشجار، وذكرنا فوائد القواعد، وأنها تجمع له أشتات المسائل، ومتفرقات القضايا والجزئيات، فيجتمع شملها في عبارات وجيزة، فيحتاج الإنسان من أجل أن يطرد في أحكامه أن يكون عنده كليات يرجع إليها، كالأمر للوجوب، فكل ما جاء عند أمر تذكر: إن الأصل للوجوب، ولا يتناقض، إلا إذا وُجد صارف أو قرينة تصرفه إلى معنىً آخر، أما الذي ليس عنده كليات ولا أصول ولا قواعد، فيقول هنا: يجب، وهناك: لا يجب، وهنا يقول: يستحب، وهناك يقول: يحرم، فهذا كله يُذكر عادة في بيان أهمية ضبط القواعد والأصول والكليات.

قال -رحمه الله-:

"من بلغته دعوة النبي ﷺ من الكفار في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله، فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره، ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام؛ لكونه ممنوعًا من الهجرة، وممنوعًا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام، فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون وآسيا امرأة فرعون، وكما كان يوسف مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارًا، ولم يكن يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد فلم يجيبوه، وكذلك النجاشي، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا، بل وإمامًا، وفي نفسه أمور من العدل، يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه من ذلك، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها، وبالجملة لا خلاف بين المسلمين...".

الآن عندنا من الأصول المعروفة أنه من شروط التكليف العامة، التي تدخل في كل نوع من أنواع التكاليف؛ لأنه في شروط خاصة بكل عبادة معينة، وهناك شروط عامة، فمن الشروط العامة المتفق عليها: القدرة، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ويدخل في هذه القدرة نوعان: القدرة العملية، والقدرة العلمية؛ ولهذا بعضهم يذكرون في الشروط: القدرة وفهم الخطاب -أو بلوغ الخطاب-، فهذا كله داخل فيه، يعني مثلاً هؤلاء الذين في الحبشة من أصحاب النبي ﷺ، أو الذين لم يهاجروا كأبي ذر، حيث لقي النبي ﷺ في مكة في وقت الضعف، وكان النبي ﷺ مختفيًا، ثم ذهب إلى قومه بأمر النبي ﷺ ولم يهاجر إلا بعد مدة، وهكذا الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة، متى قدموا على النبي ﷺ مع جعفر ؟ في السنة السابعة من الهجرة، والنبي ﷺ في خيبر، حتى قال النبي ﷺ: لا أدري بأيهما أنا أشد فرحًا بقدوم جعفر، أو فتح خيبر؟[27]، فالآن هؤلاء قدموا في السنة السابعة، وهم ذهبوا في المرحلة المكية، كم فاتهم من شرائع الإسلام؟ فاتهم أشياء لم يعلموا بها أصلاً، فهم غير مؤاخذين، والذين صلوا قبل العلم بتحويل القبلة، هؤلاء صلاتهم غير ضائعة، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] فيدخل فيه من كان يصلي فبلغه فصلاته حينما كانت القبلة إلى بيت المقدس، وكذلك من لم يعلم إلا بعد مدة، فهؤلاء الذين لم يبلغهم خطاب الشارع غير مؤاخذين، هذا نوع؛ ولذلك يقولون: من نشأ في بادية بعيدة، ومن نشأ في غابة، ومن نشأ في رأس جبل، فعمل بما بلغه من شرائع الإسلام، فهذا يكون من السعداء، ما لم يكن مفرطًا، وانظر حديث حذيفة مرفوعًا: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فنحن نقولها فقال له صلة: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثًا[28]، فهذا الذي بلغهم، وهذا مبلغهم من العلم، فهذا الإنسان الذي لم يعلم لا يكون مكلفًا، والصحابة الذين تأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93] فشرب قدامة بن مظعون، وهو من أهل بدر، وكان واليًا على البحرين لعمر ، وما ظنك برجل يوليه عمر -رضي الله عن الجميع-، شرب الخمر متأولاً هذه الآية، فقال: نحن ممن آمن واتقى، وجاهدنا مع النبي ﷺ وشهدتُ بدرًا، فكان يرى أنه لا غضاضة عليه إذا شرب الخمر[29]؛ لأنه كان متأولاً، فهكذا من لم يبلغه الخطاب، أو كان عاجزًا، لا قدرة عنده، إما حقيقة أو حكمًا، حقيقة مثل: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61] فهؤلاء في الجهاد معذورون حقيقة، أو حكمًا مثل: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92] يعني: هو ليس به علة، لكن ما عنده إمكانية للذهاب، فهو في حكم العاجز، فمثل هذا غير مؤاخذ، فهذا العجز حقيقة أو حكمًا، سواء كان العجز من ناحية القدرة، أو من ناحية العلم، يكون الإنسان معه معذورًا ما لم يفرّط، هذا من ناحية التكليف والامتثال، فيكونون عند الله من السعداءِ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]؛ سواء كان في خاصة نفسه، أو فيما يتصل بإقامة أمر الله وحكمه وشرعه في الناس، إذا كان له ولاية، فذكر النجاشي ويوسف ، فالنجاشي ما استطاع أن يحكم بشرع الله في أرض الحبشة، مع أنه كان ملكًا، ويوسف ما استطاع أن يحكم بشرع الله في أرض مصر، مع أنه كان العزيز، ويدل على أنه ما استطاع قول الله تعالى: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] يعني: في قانون الملك، قانون الملك أنه لا يكون جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] ولهذا لما قالوا له: إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف:78] قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79] فهو غير مؤاخذ، هذا فيمن بذل وسعه وطاقته لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لكن فرق بين إنسان يستطيع وآخر لا يستطيع، والاستطاعة المنتفية لا يُشترط أن تكون استطاعة حقيقة، قد تكون استطاعة حكمية، النجاشي يستطيع أن يصدر قانونًا وقرارًا، وكذلك يوسف ، لكن ما الذي يترتب على هذا؟ لا شيء، فالعجز الحكمي يلحق بالعجز الحقيقي، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] ولهذا يقال للناس الذين يكون لهم ولاية قد يكون هو أصلح من يتولاها، لكنه لا يستطيع أن يقيم كل ما يريد من العدل، فيمرر على يده بعض الباطل من المظالم ونحوها، فمثل هذا يكون مأجورًا، وما يمرر على يده من الباطل الذي لا يستطيع أن يدفعه يكون فيه معذورًا، مغفورًا له، لكن ينبغي أن نفرق في هذا الباب بين أحوال، فرق بين هذا وبين من فسدت تصوراته ويقول: إن هذا الفساد هو الدين، التبرج هذا هو من الدين، والحجاب من التقاليد والعادات، والاختلاط لا شيء فيه، فهذه مشكلة، هذا كيف سيصلح هذه الأشياء؟ وهو تصوراته فاسدة، مثل في بعض البلاد، يسمون أنفسهم دعاة، وأنهم يحكمون شرع الله، وما إلى ذلك، ويأتون بمفاهيم أفسد من الفاسدة، ويقولون: هذا هو الدين، وليست المسألة مراحل، الفساد هذا هو الدين، والذين ينكرونه إنما يخلطون بين العادات والتقاليد والدين، فهذه مصيبة، وهذا أمثلته موجودة في تونس وتركيا، وغيرها، فهم يرون أن ما هم عليه ليس من باب التدرج، وإنما هو الدين، لكن المشكلة عندهم في هؤلاء المتشددين الذين يريدون أن يفسدوا على الناس ما اعتادوا عليه عبر عقود متطاولة، فهذا فهمهم للإسلام، فهم منحرف، هذا لون، واللون الآخر: من يقول: هذا ليس هو الإسلام الصحيح، لكنه لا يعمل شيء إطلاقًا من أجل الاستصلاح، وليس عنده خطة للإصلاح أصلاً، فالناس هم الناس، فإذا كان يريد الإصلاح ولا يستطيع أن يقيم الإصلاح كما أمر الله من أول وهلة، فإنه يتدرج، فيصلح التعليم، ويصلح الإعلام، ويصلح كثيرًا من المرافق التي يستطيع إصلاحها، ويمكن أن يكون الإصلاح عبر سنين، فالفساد المتجذر عبر عقود ما يمكن يصلح في يوم وليلة، نحن نعرف هذا، لكن المشكلة حينما يكون مفاهيمه أصلاً فاسدة، أو ليس عنده نية إصلاح، وليس له عمل في هذا الجانب، هو يريد أن يرضي هؤلاء الفاسدين ويتألفهم، دون أن يقوم بخطوة واحدة للإصلاح، هذه مشكلة، فتكون القضية في النهاية كان يريد ولاية، وحصل مقصوده من هذه الولاية، وأما الذي كان يدعو إليه من قبل فذلك قد تبخر، والذي كان ينتقده على غيره تبخر.

"وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الواجب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء، وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان، وأداء الزكاة، وغير ذلك، ولو لم يعلم تحريم الخمر لم يُحد عليها إذا شربها باتفاق المسلمين، وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا أو ميسر، ثم تبيّن له تحريم ذلك بعد القبض، وما أشبه ذلك، وأصل هذا كله هل تلزم الشرائع من لم يعلمها أم لا تلزم إلا بعد العلم، أم يُفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة؟ والصواب في ذلك كله: أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور: أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور، أو فعل محظور بعد قيام الحجة".

سواء العقوبة أو غيرها، حتى القضاء كما ذكر؛ ولهذا لما ذكرت له أم حبيبة أنها استحيضت سبع سنين، فتدع الصلاة والصوم، لم يأمرها بالقضاء[30]، وكذلك أيضًا معاوية بن أبي الحكم السلمي لما عطس فتكلم في الصلاة، وقال: "واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي"[31]، تكلم في الصلاة وهذا يبطلها، لكن النبي ﷺ لم يأمره بالإعادة، وكذلك عمار لما اجنب في السفر فتمعك تمعك الدابة، لم يأمره النبي ﷺ بالإعادة[32]، وكذلك لما صلى عمرو بن العاص في أصحابه وهو جنب متأولاً قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] وكان في ليلة باردة، ولم يأمره النبي ﷺ بالإعادة، وإنما تبسم ﷺ لما ذكر له عذره[33]، والأمثلة والشواهد على هذا كثيرة.

"وإذا تكلمنا على الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد، على كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقًا، لا يباح بحال، والعدل محبوب باتفاق أهل الأرض، مركوز حبه في القلوب، تحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب، فتبغضه وتذمه، والشرع الذي يجب على حكام المسلمين الحكم به عدل كله، وليس في الشرع ظلم أصلاً، بل حكم الله أحسن الأحكام، والشرع هو ما أنزل الله، فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل، لكن العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج".

يقول: إذا تكلمنا عن الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، وهذا إذا تكلم فيه العامة، فإن ذلك لا يتحقق معه العدل، لا سيما مع هذه الوسائل الآن الجديدة، كل أحد يريد أن يكتب ويتكلم بما يحلو له، ولو أنه نظر بعدل، ورجع إلى نفسه أولاً قبل أن يتكلم على الناس لأنصف من نفسه إن كان يريد الحق، فهذا الإنسان الذي يتكلم على العلماء، أو على هذا العالم المعين أنه لم يتكلم بالحق، أو لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر، لو أنه رجع إلى نفسه هو هذا الإنسان، حينما يرى تقصيرًا من أحد لا يملك سلطة، ولا نفعًا، ولا ضرًا، ولا يمثل بالنسبة إليه رغبة ولا رهبة، هذا إنسان عند الإشارة أصوات المعازف تتعالى من سيارته، هل تأمره وتناه، وتقول له: يرحمك الله هذا لا يجوز؟ وهكذا ما يشاهده الإنسان في مزاولاته اليومية، إذا دخل مستشفى، أو دخل صيدلية، أو دخل عند الحلاق فرأى هذا يحلق لحيته، وهذا يسمع المعازف، هل يأمره وينهاه ويقول له: لا تفعل؟ أو ذهب مكان عام كالمطار مثلاً فرأى امرأة متبرجة، هل يقول لها: يرحمك الله، يا أمة الله ما يجوز، أو يمر وينزل رأسه؟ ولو دخل المستشفى فوجد هذا يدخن، وهذا يحادث امرأة، وهذا يضاحك ممرضة، هل يقف ويقول: اتق الله هذا ما يجوز؟ أو يمشي لا نكير؟ مع أن هؤلاء لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا، أنا سألت الكثيرين يقولون: لا نفعل، طيب، إذا كنت لا تفعل، فلماذا تتكلم بلسان حديد على العلماء وتدعي وأنهم يقصرون، وما إلى ذلك؟ لو كنت أنت أمام من يملك سلطانًا، فكيف ستفعل إذن؟ إذا كنتَ عجزت أمام ناس لا يملكون شيئًا، وقد يكون هؤلاء من العمال، ولا تجرؤ أن تأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، فكيف إذا جلست أمام الكبراء والعظماء ماذا ستفعل؟ فكثير من الناس لا ينصف من نفسه، هو يظن أنه إذا وُجد العلم عند العالم أنه يتحول إلى شيء آخر، هذا كلام غير صحيح، فهذه الخصائص النفسية التي عند الإنسان من الشجاعة والجبن، وما إلى ذلك، طبيعة في الإنسان لا يغيرها العلم، فهذا الذي لا يأمر وينهى عند الحلاق، أو حينما يدخل في مكان عام فيرى هذا يشرب باليسار، وهذا يدخن، ولا يأمرهم ولا ينهاهم هيبة لهم: لو ملئ علمًا لم يأمر ولم ينه، فالإنسان قبل أن يتكلم على غيره ينبغي أولاً أن يرجع إلى نفسه، وأن ينصف من نفسه، وكثير ممن يعيب غيره، وأن هذا يأخذ كذا، وهذا يأخذ ما لا يحل له، وأن هذا يفعل كذا، لو نظرت إليه في سلوكه هو اليومي لرأيت من هذا أشياء، لكن ليس له قدرة وإلا لفعل ما هو أعظم من ذلك لو تمكن، يعني: هو ما الذي يستطيع أن يفعله؟ يستطيع أن يستعمل سيارة العمل في أموره الشخصية، ويستطيع أن يأتي بعد الوقت المحدد للمجيء للعمل، ويخرج قبله، أو في أثنائه، وهذا لا يملك سلطة، كيف لو كان تحت يده أموال، أو بيت مال المسلمين ماذا سيفعل؟ سيبيد خضراءها، أليس كذلك؟ هذه في مزاولات عادية بسيطة يومية ترى هذا السلوك، جمعية خيرية تعطيه سيارة من أجل العمل، في يومين ألف وستمائة كيلو أين ذهب؟! هو ما سافر، وما طُلب منه أن يسافر، ألف وستمائة كيلو في يومين والجمعية قريبة من البيت، وهذه سيارة من أجل العمل فقط، ما عنده سيارة ينتقل إليها، أو حينما يرسلونه يكلفونه ببعض الأعمال في نفس المدينة، ألف وستمائة كيلو في يومين! يُؤتى إلى آخر ويقال له: اجلس في هذا الفندق من أجل أنك تعمل في هذه الجمعية، وثلاثة أيام جالس وتطلع فاتورة الهاتف في الفندق أربعة آلاف وسبعمائة ريال تقريبًا، في مكالمات دولية وغيرها، على حساب جمعية خيرية، هذا فقط ما تعين عندهم، وهذه استضافة من أجل أن يتعين، أيام قليلة في الفندق، هذا الذي يتكلم بملء فيه، ولسانه طويل، وينتقد، وما إلى ذلك، هذا لو أُعطي بيت المال ماذا سيفعل؟ هذا لا يبقي ولا يذر، وليس الكلام هذا دفاعًا عن أحد، لا، أنا أخاطب نفسي بهذا الكلام، نحن بحاجة أن ننصف من أنفسنا، فالإنسان قبل أن يتكلم على العلماء، أو على غيرهم، يحتاج أول شيء ينظر في نفسه هو، وينظر في مزاولاته وأعماله، وأنا أرى كثيرين يتحدث، وأنظر إلى أعماله، وما أعرف من حاله، فأقول: هذا لو كان تحت يده شيء لم يبق ولم يذر، يتكلم في غيره وهو مضيع لأسرته، وما له على أولاده، ولا على زوجته، أمر ولا سلطان، والأمور متفلتة في البيت، ويتحدث عن غيره في المجالس، وبملء فيه، وما إلى ذلك، طيب أنت ما استطعت أن تضبط بيتك، فكيف لو وليت على مؤسسة، أو شركة، أو ناحية، أو نحو ذلك؟ فالإنسان دائمًا ينصف من نفسه، وأن يكون لنا هذا منهج في الحياة، وهذه الأعمال القلبية التي نتحدث عنها، أو آثار الأسماء الحسنى، أو هذه الموضوعات التي تطرح في محاضرات ودروس، لا يعني: أن الإنسان مطبق على نفسه هذه الأشياء، وما شاء الله، وممتثل، وإلا كان ما أحد تكلم، أنا أوجه هذا الكلام دائمًا لنفسي، أعظ به نفسي، وليس الواحد منا مكمل لهذه الأشياء، ويطالب الآخرين، وما على الآخرين إلا أن يمتثلوا ما يقول، لا ليس الأمر كذلك إطلاقًا، وإنما هذا من باب أن الإنسان يخاطب نفسه، ويعظ نفسه، وينتفع من ينتفع من شاء الله أن ينتفع، فهذه قضية مهمة جدًا لنا في مراعاة ما يقوله الإنسان، وما يتكلم به، فقبل أن ينتقد الآخرين عليه أن يصلح نفسه أولاً، وكثير من الناس يغفل عن نفسه، ولكنه يرى عيوب غيره، وبعض الناس يكون قيامه بالأمر أو النهي، أو غير ذلك، من أجل حظ نفسه، فإذا أُعطي صار معينًا على الظلم، مشاركًا فيه، وهذه أيضًا هذه مشكلة.

"قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله ﷺ فيما شجر بينهم، فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزمًا لحكم الله ورسوله ﷺ ظاهرًا وباطنًا لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة، فمن لم يلتزم حكم الله ورسوله ﷺ فهو كافر، وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية، فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير، ولا شيخ، ولا ملك، وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات، فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن، فبما في سنة رسول الله ﷺ، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه".

يعني: من لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم، فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، بخلاف من التزم، ولو خالف من الناحية العملية.

ففي قوله -تبارك وتعالى-: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] وقد مضى الكلام على هذا في التفسير، والأقوال فيه، ومن أحسن الأقوال وأقواها: أن الله أمر بالعفاف، ونكاح العفائف، فمن أقر بهذا الحكم، ولم يلتزمه من الناحية العملية، فالحكم صحيح، فهو مؤمن ووقوعه عليها يكون من قبيل الزنا والفجور، وهذا الذي يكون زانيًا، لا يجوز أن يتزوج العفيفة، فإن التزمت الحكم -أصل الحكم - وانقادت، ولكن لم تلتزم من الناحية العملية، فهي زانية، باعتبار اشتراط الكفاءة في العفاف، الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] وهذا قول الإمام أحمد معروف على هذا الاعتبار.

وإن لم يلتزم أصل الحكم، كأن يقول: هذه حرية شخصية، وأنا لا أعترف بهذا، فهذا مشرك، الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] إما أن تكون ملتزمة بالحكم، تقول: على العين والرأس، لكن تخالف من الناحية العملية، فهي زانية، أو تكون منكرة لأصل الحكم فتكون مشركة.

يقول: بأن من لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم، فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، يعني: هذا الإنسان مثلاً جاءه قريب له -وهو قاضي- قد سرق، الحكم أن تقطع يده إذا كانت هذه السرقة مستوفية للشروط، لو أنه حاباه وقال: يكفي أن يحبس، أو نحو ذلك، يكون قد خرج عن حكم الشرع، لم يحكم بحكم الشرع، إن كان ملتزمًا لحكم الشرع، نقول له: ما تقول في السارق إذا استوفى الشروط؟ يقول: تقطع يده، لكنه لم يلتزم من الناحية العملية، فهذا على خطر عظيم، ولكن لا يكفر، وهذا الذي قال فيه ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كفر دون كفر"[34].

يقول: حكام المسلمين يعني: القضاة مثلاً يحكمون في القضايا المعينة، هذا الذي جاء إليه واجتهد في القضية، لكن لو بدل الحكم الكلي، قال: السارق لا تقطع يده، ما نريد مشوهين في المجتمع، وما نريد أصحاب عاهات، طيب ماذا يفعل له؟ قال: نعطيه غرامة قدرها كذا، بدّل شرائع الإسلام، فما حكمه هذا؟ هذا يكفر كفرًا مخرجًا من الملة، ففرق بين هذا وهذا، فالالتزام المقصود أنه يقر بالحكم، أما الناحية العملية فقد يخالف، فيكون فعله من جنس الذنوب والكبائر بحسب جنايته.

يقول: فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا بالكتاب والسنة.

والحكام يقول: يحكمون في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية، بمعنى: أنه إذا اجتهد اجتهادًا، أو نحو ذلك، لا تلزم به الأمة، وإنما يكون اجتهاده هو، فحاكم آخر، أو قاضي آخر قد يحكم في هذه الواقعة بحكم يخالفه؛ لهذا يقولون: لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، وإلا فإنه يلزم منه الدور، يعني: كلما جاء واحد ينقض حكم الآخر باجتهاد يخالفه فيه، فهو يحكم بالقضايا الجزئية، لا يكون حكمه كليًّا، بمعنى: أن الأمة كلها تلتزم، ويكون مثل التشريع.

"الذنوب التي هي دون الكفر لا توجب كفر صاحبها، ولا تخليده في النار، ولا منع الشفاعة فيه، والمتأول الذي قصده متابعة الرسول، لا يكفر، ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد، فكثير من الناس كفّروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، وقد ينقل عن أحد الأئمة أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفر أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وله شروط وموانع".

يعني: أن المخالف للحق الذي قد فعل ما لا يحل له إن كان غير معذور، فما دون الكفر لا يكون كافرًا، فلا يكفر بالكبيرة، كما هو قول الخوارج، ولا يخلد في النار، كما هو قول المعتزلة، الذين يعتبرون -يعني الخوارج والمعتزلة- من الوعيدية، ففي مسائل الأسماء الخوارج يسمون الفاسق الملي كافرًا، والمعتزلة يقولون: في منزلة بين المنزلتين، وفي مسألة الأحكام يحكمون عليه بالخلود في النار، فالنتيجة واحدة، هذه التي يسمونها مسائل الأسماء والأحكام، فأهل السنة لا يخرجونه من الملة بفعل المعصية أو الكبيرة، بمجرد الفعل والمخالفة، لكن إن استحل المعلوم من الدين بالضرورة فإنه يكفر، فلو كان متأولاً بفعل المعصية أو الكبيرة، مثلما قلنا في خبر قدامة بن مظعون ، فإنه لا يكون آثمًا، ولا يعاقب العقوبة المترتبة عليها في الدنيا، يعني: لا يقام عليه الحد، إذا كان متأولاً تأويلاً معتبرًا بالنسبة إلى مثله، وهكذا كل من كان قصده اتباع الرسول ﷺ، وبذل وسعه في طلب الحق، فأخطأه فهو معذور، سواءً في المسائل العملية، أو المسائل العلمية، يعني: الاعتقاد، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] وأقصد بالاعتقاد يعني: أن يقع عند هذا الإنسان أخطاء في باب الاعتقاد، يعني: المسائل العلمية، ويكون قد بذل كل وسعه، وهذا غاية ما توصل إليه، كأن يكون في بلد تلقى من هؤلاء الشيوخ هذه العقيدة الأشعرية مثلاً، وبذل وسعه في طلب الحق، واجتهد فلم يتوصل إلى غير هذا، فما حكمه؟ لا يقال: إنه معاقب، لكن التفريط هو الذي تحصل به المؤاخذة، والتعصب، وتقليد الآباء والأجداد، وترك الحق والأدلة الواضحة، هذا الذي يحصل به المؤاخذة، وفرق بين هذا وهذا، وعلماء كبار من علماء الأمة الذين لا يشك في اجتهادهم وطلبهم الحق، وقعوا في عقائد كلامية، هل يقال: إن هؤلاء يستحقون العقوبة وإلخ؟ نقول: نسأل الله أن يعفو عنهم، هذا اجتهادهم، ولا نعلم منهم إلا الجد والاجتهاد في طلب الحق، والسعي فيه، ولكنهم تأولوا فأخطأوا، هذا مبلغهم من العلم في هذا الباب، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ونحن ذكرنا من قبل أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ما لم يُرتب على ذلك حكم، وقلنا: مثل التفريق بين المسائل العلمية والعملية، العقائد والشرائع، فليس له أصل في الكتاب، ولا في السنة، وقلنا: للتعليم لا بأس به، لكن أن يُرتب عليه أحكام، فيقال: الذي يخالف أو يخطئ في المسائل العلمية مسائل الاعتقاد يكفر، والذي يخطئ في المسائل العملية لا يكفر، هذا مبني على هذا الاصطلاح، وهذا باطل؛ لأنه اصطلاح حادث.

"الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا تُعتبر في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، والتوكل معنى يلتئم من التوحيد والعقل والشرع، فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب، بمعنى أنه لا يطمئن بها، ولا يثق بها، ولا يرجوها، ولا يخافها، فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه، وله موانع وعوائق تمنع موجبه، وما ثمّ سبب مستقل بالأحداث إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها، ويصرف عنه الموانع، فلا يجوز التوكل إلا عليه".

الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، بمعنى: لو أنه يعلق قلبه بهذا السبب، ويعتقد أن هذا السبب مؤثر بذاته، فمثل هذا يكون شركًا، إنما النافع الضار هو الله -تبارك وتعالى-، فالأسباب لا تتعلق بها القلوب، وإنما تتعلق بمسبب الأسباب، من بيده أزمة الأمور، لكن ترك الأسباب بالكلية يقول: تغبير في وجه العقل، ويقول في الهامش في المطبوعتين: تعتبر، وهو في الأصل في كتاب (منهاج السنة): تغيير في العقل، وفي نسخة أخرى: تغيّر في العقل، ففي إحدى النسخ: تغبير، بمعنى أنه تكدير له، يعني: جعل لونه كالغبار، يعني كأنه طمس معالمه، فإذا قيل: تغبير صحيح، فهي كأنها أقرب الألفاظ: تغبير للعقل، وتشويه في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ لأن الله أمر باتخاذ الأسباب، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] الآية، فهذا من الأمر بالأخذ بالأسباب، والنبي ﷺ خرج في أحد وقد لبس درعين -عليه الصلاة والسلام-، وهذا معروف في هديه -عليه الصلاة والسلام-، فكل هذا من فعل الأسباب، وعمر لما خرج من الشام، بسبب الطاعون، قال له أبو عبيدة : "أفرارًا من قدر الله؟ قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله"[35]، فهذا كله من فعل الأسباب، وقد مضى الكلام على هذا مفصلاً في الأعمال القلبية في الكلام على التوكل، ففعل الأسباب لا ينافي التوكل، والتعلق بها قدح في التوحيد، والإعراض عنها قدح في الشرع والعقل، فالإنسان لا يعلق قلبه بها، يستخير ويستشير، ويفعل الأسباب المطلوبة للوصول إلى هذا الشيء، ولكن لا تذهب نفسه حسرات، ويتعلق بالأسباب، ويرجي فلانًا وفلانًا، ويعلق قلبه بالسبب الفلاني، فالنافع الضار هو الله -تبارك وتعالى-، فإذا حصل له مطلوبه حمد الله، وإن لم يحصل حمد الله، فإن هذه نتيجة الاستخارة، أما أن يتهافت الإنسان على المخلوقين، ويكلم الجن والإنس، ويأخذ أوراق وتوصيات من القريب والبعيد، ويجلب بخليه ورجله، ويتهافت على الأسباب، من أجل أن يحصل هذه القضية، هذا لا يليق، وإنما يستخير ويستشير، ويبذل السبب الملائم، بحيث لا يكون قصر، أما التهافت فهذا لا يصلح، ومن توكل على شيء غير الله وكل إليه.

"وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين، فإن ما في قلوبهم من محبة الله لا يماثله فيها غيره، ولهذا كان الرب محمودًا حمدًا مطلقًا على كل ما فعله، وحمدًا خاصًا على إحسانه إلى الحامد، فهذا حمد الشكر، والأول حمده على ما فعله، كما قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ [الأنعام:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] والحمد ضد الذم، والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته".

يعني: عندنا: حمد وشكر ومدح، فالحمد هو ذكر المحامد التي يثني بها عليه، هذا الحمد لا يكون إلا مع مواطأة القلب، بينما المدح قد يكون بصدق وحق، فيكون من قبيل الحمد، وقد يكون ليس كذلك، فيكون نفاقًا، وتزلفًا، فلا بد من مواطأة القلب، هذا من أهم الفروقات، ولا شأن لنا في الباقي، وقد أشرتُ إلى هذا في بعض المناسبات.

"والحمد خبر بمحاسن المحمود، مقرون بمحبته، ولا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته، ولا ذم لمذموم إلا مع بغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة، فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود؛ ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد، وغير ذلك، مشتملة على هذين الأصلين، تحميده وتوحيده، وأفضل الذكر (لا إله إلا الله)، وأفضل الدعاء (الحمد لله)".

أفضل الذكر لا إله إلا الله، هذا واضح، وأفضل الدعاء الحمد لله، هل هذا من قبيل الدعاء؟ كيف سماه دعاءً؟ العلماء أجابوا عن هذا بأجوبة، كقول الحافظ ابن عبد البر: فإن الذكر كله دعاء عند العلماء[36].

لذلك قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة ثم قال بعده: وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير[37]، وهذا ليس سؤال، هذا ذكر، فسماه دعاءً، فابن عبد البر -رحمه الله-يقول: الذكر كله دعاء عند العلماء[38]، فمنه ما يكون من قبيل الثناء، ومنه ما يكون من قبيل السؤال، ومن حمد الله فإنما يحمده على نعمته، والحمد على النعمة قالوا: هو طلب مزيد منها؛ لأن الله قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] وهذا جواب آخر: وهو أن هذا الحامد يطلب بحمده هذا المزيد؛ إذ إن الله -تبارك وتعالى- قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فهو طالب وسائل بهذا الحمد.

  1. نشر طي التعريف في فضل حملة العلم الشريف والرد على ماقتهم السخيف (ص: 44).
  2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص: 53).
  3. هذا الأثر بهذا اللفظ موقوف، كما حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 10) وأخرجه مرفوعاً الترمذي ت شاكر في أبواب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود برقم (1424) بلفظ: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم)) وضعفه الألباني.
  4. هذا الأثر بهذا اللفظ موقوف، كما حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 10) وأخرجه مرفوعاً الترمذي ت شاكر في أبواب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود برقم (1424) بلفظ: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم)) وضعفه الألباني.
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود برقم (1424) وضعفه الألباني.
  6. الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية (ص: 6).
  7. منهاج السنة النبوية (4/ 527).
  8. غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 122).
  9. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة برقم (1977) وصححه الألباني.
  10. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة، ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103] برقم (4623) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون... برقم (2856).
  11. أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله برقم (2125).
  12. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 282).
  13. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها برقم (2598).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما ينهى من سب الأموات برقم (1393).
  16. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 419).
  17. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (23489) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  18. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة برقم (2276)
  19. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] برقم (3493) ومسلم في فضائل الصحابة، باب خيار الناس برقم (2526).
  20. دلائل النبوة للبيهقي محققا (2/ 507).
  21. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة برقم (2685) وصححه الألباني بلفظ: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).
  22. صحيح البخاري في كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور برقم (1520).
  23. أخرجه صحيح البخاري في كتاب الدعوات باب الدعاء بكثرة المال مع البركة برقم (6378) ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس بن مالك -رضي الله عنه- برقم (2480. 2481).
  24. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام، ودعائه لصاحب الصدقة برقم (1497) ومسلم في الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته برقم (1078).
  25. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من الملة برقم (6780).
  26. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من الملة برقم (6780).
  27. أخرجه الطبراني المعجم الكبير برقم (1469) وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (4687).
  28. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم برقم (4049) وصححه الألباني.
  29. السنن الكبرى للبيهقي (8/ 548).
  30. أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب عرق الاستحاضة برقم (327) ومسلم في الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها برقم (334).
  31. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته برقم (537).
  32. أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟ برقم (338) ومسلم في الحيض، باب التيمم برقم (368).
  33. أخرجه البخاري تعليقاً (1/ 77) وأبو داود في كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم برقم (334) وصححه الألباني.
  34. تفسير السمعاني (2/ 42).
  35. أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون برقم (5729) ومسلم في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها برقم (2219).
  36. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 43).
  37. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3585) وحسنه الألباني.
  38. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 43).

مواد ذات صلة