الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(7) قوله:وكلما نشأ عن المأذون فذاك أمر ليس بالمضمون .. إلى نهاية المنظومة
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 1969
مرات الإستماع: 4634

بسم الله الرحمن الرحيم

القواعد الفقهية لابن سعدي

(7) قوله: وكلُّ ما نشأ عن المأذونِ *** فذاك أمرٌ ليس بالمضمونِ... إلى نهاية المنظومة.

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

وكلُّ ما نشأ عن المأذونِ *** فذاك أمرٌ ليس بالمضمونِ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه القاعدة عبر عنها المؤلف -رحمه الله- في كتابه الآخر بقوله: "التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعدَّ أو يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقاً"، هكذا.

ثم ذكر عبارة أخرى للقاعدة مختصرة يقول: "ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون، والعكس بالعكس"، يعني على غير المأذون أنه مضمون.

وبعض العلماء يعبر بعبارة أخصر من هذا كله، فيقول: "الجواز الشرعي ينافي الضمان"، هذه عبارة مختصرة وإن كانت العبارة ربما لو استبدلت كلمة أو نحو هذا قد تكون أدق، والله أعلم.

وكلُّ ما نشأ عن المأذونِ *** فذاك أمرٌ ليس بالمضمونِ

المأذون: يعني ما أذن فيه الشارع، أو أذن فيه صاحب الحق.

أذن فيه الشارع: بمعنى أن الشارع خوّل للمكلف هذا التصرف، فحصل بسببه إتلاف من غير تفريط ولا تعدٍّ، ففي هذه الحالة لا يضمن.

مثال ما أذن فيه الشارع: القصاص في الجروح فيما يقبل القصاص، فهناك أشياء ما تقبل القصاص، مثلما يقولون في الجائفة أو نحو ذلك، طعنه طعنة وصلت إلى جوفه، فهذا ما مات، لكن قد تكون الثانية التي يقتص فيها تقتل الآخر، فمثل هذه لا تقبل القصاص، لكن لو أنه جرح شفته، فكسر سنه، أو فقأ عينه، أو قطع أذنه، فهذه أشياء يمكن القصاص فيها، لكن الجائفة ما يمكن، المأمومة: الضرب على الدماغ حتى تصل إلى أم الدماغ الداخل، فإذا سلم هذا منها فقد لا يسلم غيره منها، فبعض الإصابات لا تقبل القصاص، لكن ما يقبل القصاص فهذا أذن فيه الشارع: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ المائدة:45.

ما نتج عنه مأذون شرعاً، لو هذا الإنسان اقتص من الآخر، ذاك جرحه جراحة يمكن القصاص فيها فجرحه بالمثل، ثم إن الجناية سرت، أو القصاص أو الجرح سرى من هذا العضو إلى سائر البدن، أصابته غرغرينة، أو أصابته أي قضية، فمات الرجل لما قطعنا رجله قصاصاً مثلاً، أو جرحناه، أو نحو هذا، فلا يضمن المقتص؛ لأن موته نشأ عن المأذون.

كذلك الحدود: من قذف عرض إنسان فإنه يجلد ثمانين جلدة، فلو جئنا بإنسان قذف عرض آخر، وتحققت الشروط، وانتفت الموانع، ثم جُلد ثمانين جلدة، فمات، أو انكسر ظهره، وهو الضرب المعتاد المعتبر شرعاً في الجلد، ما ضربه بحديدة، ولا ضربه ضرباً مهلكًا، وإنما ضربه ضرباً متوسطاً، فانكسر ظهره، فلا يضمن؛ لأن هذا ناتج عن الإذن الشرعي.

 

من قذف عرض إنسان فإنه يجلد ثمانين جلدة، فلو جئنا بإنسان قذف عرض آخر، وتحققت الشروط، وانتفت الموانع، ثم جُلد ثمانين جلدة، فمات، أو انكسر ظهره، وهو الضرب المعتاد المعتبر شرعاً في الجلد، ما ضربه بحديدة، ولا ضربه ضرباً مهلكًا، وإنما ضربه ضرباً متوسطاً، فانكسر ظهره، فلا يضمن؛ لأن هذا ناتج عن الإذن الشرعي.

 

أما إذن صاحب الحق، مثل: إنسان أذن لك أن تسكن في داره، أو أن تستعمل سيارته، وتلفت من غير تعدٍّ ولا تفريط، فلا تضمن.

لو أعطاك وديعة قال: ضعها عندك، ثم تلفت من غير تعدٍّ ولا تفريط، فما تضمنها.

متى نضمن؟

نقول: نضمن إذا كان ذلك بتعدٍّ أو تفريط.

التعدي أنواع: فلو أنه أخذ مال غيره ووضعه عنده، لا هو وديعة، ولا أعاره إياه، وإنما أخذه ووضعه عنده، وقال: أنا محافظ عليه تمام المحافظة، فجاءت آفة سماوية وتلف هذا المال؛ فإنه يضمن، لأنه يده يد ظالمة، بأي حق أخذه؟ فإنه يضمن مع شدة رعايته وحفظه له.

لو أنه أعطاه هذه الوديعة قال: هذه السيارة وديعة عندك حتى أرجع من السفر، عندك مظلات وأنا أخشى عليها عند البيت، ضعها، فصار يأخذها ويذهب فيها ويأتي فيها، هل يجوز هذا؟ فتلفت، أصابها تلف في جزء من أجزائها، فما الحكم؟

يضمن؛ لأنه متعدٍّ.

فالأول أصلاً يده ظالمة ابتداءً، لا وديعة ولا إعارة.

اللقطة: النبي ﷺ قال في الشاة: (لك أو لأخيك أو للذئب)، لقطة الإبل منع النبي ﷺ من أخذها([1])، فلو جاء إنسان ووجد ناقة ضالة قال: هذه ممكن أنها تسرق، أنا آخذها وأحفظها لصاحبها وأعرِّفها، فأخذها ووضعها عنده في البيت، وصار يطعمها أفضل الطعام، ويسقيها، ويتعاهدها، فماتت عنده بمرض -آفة-، فإنه إذا جاء صاحبها يضمن؛ لأنه وضع يده عليها بغير حق.

الأمانة أعطاك مسجلا، وقال: هذه وديعة، فصرت تستعمل هذا المسجل، وتشغله، فخرب، فتضمن؛ لأنك متعدٍّ بهذا التصرف.

الإعارة: إذا أعارك شيئاً، فمعنى ذلك أنه أذن لك بالانتفاع به، الفقهاء يتكلمون هل يجوز إعارة المعار لطرف ثالث؟ هل من صلاحياتك أن تعير هذا؟

فالمقصود لو أنه مكنك منه بإعارة مثلاً، ثم تلف عندك، فهل تضمن مطلقاً أو لا تضمن مطلقاً؟ أو تضمن إذا كان هناك تفريط؟

الأقرب: أنك تضمن في حالة ما إذا وجد تفريط فقط.

السيارة أعارك إياها، ثم أهملتها، ولم تتعاهدها بما تحتاج إليه، وما إلى ذلك، فعطبت، ففي هذه الحالة تضمنها. سافرت بهذه السيارة ولم تتعاهدها، ولم تنظر مثلا إلى حرارة السيارة وأنت مسافر، فخربت تماماً، فتضمن؛ لأنك مفرط، بخلاف ما لو أنها أصابها شيء من غير تفريط، استعرت من إنسان سيارة، فلما أصبحتَ فإذا زجاجها مكسور، فينظر هنا: لماذا كسر زجاجها، هل هي في مكان غير مأمون فتكون مفرطًا؟ أو هل وضعتَ فيها شيئاً مغرياً مكشوفاً فتكون مفرطاً لأنك تسببت في كسرها؟ فإذا كانت لا هذه ولا هذه، والمكان مكان مأمون، وكسرت، فأنت في هذه الحال لا تضمن، وضعتها في موقف طبيعي وصحيح ولا إشكال فيه، وليس في موضع خطر، فأتيت إليها في وقت فإذا هي مصدومة، فهل تضمنها وأنت مستعيرها أو مستأجرها من شركة؟، لا تضمنها، إلا إذا كان هناك شرط، إذا قال لك المعير: بشرط أن تضمنها مطلقاً، تعيدها لي كما هي، فهنا ستأتي القاعدة: "المسلمون على شروطهم"، لكن لو ما كان بينكم شرط لا مكتوب ولا ملفوظ به فإنك لا تضمن، لكن العادة في مثل شركات التأجير: أنه يكون في الخلف ورقة مكتوبة قائمة طويلة من التفاصيل والشروط والاحتمالات، وما يلزمك ومالا يلزمك.

فالحاصل: لو أن هذا وقع منك بتعمد في جميع الصور، فهو من باب أولى أنك تضمن، هذا لا شك فيه، إذا وقع بتعمد، أنت أتلفتها عمداً فإنك تضمن، سواء في الوديعة أو العارية، أو العين المؤجرة، أو غير ذلك مما يكون تحت يدك؛ لأن ذلك -يعني الإتلاف عمداً- غير معتبر إلا في حالات محددة، مثل قاعدة: "ارتكاب أخف الضررين"، الخضر لما خرق السفينة هذا إتلاف عمداً، فإنه يضمن، لكن أتلف البعض لاستبقاء الكل.

لو أنه أعطاك عبداً رقيقاً، قال لك: هذا العبد إعارة يشتغل عندك، أو نحن سنسافر فضعه وديعة عندك، العبد مرض وأصابه مرض، فقرر الأطباء لابد من قطع اليد، فوقّعت لهم أنت بقطع اليد، فقطعت لاستبقاء الكل، ففي هذه الحالة ما تضمن؛ لأن هذا أمر لابد منه، ارتكاب أخف الضررين في سبيل دفع أعلاهما.

لو أعطاك إنسان ماله، قال لك: هذا المال اتَّجر به، أو أوصله إلى فلان، وسافرت بهذا المال، وفي الطريق واجهك قطاع طرق، وقالوا: هات المال الذي عندك، فرأيت أنهم آخذوه، فاصطلحت معهم على أن يأخذوا ربع هذا المال ويتركوا الباقي، والمال ليس لك منه شيء، ربع هذا المال خذوه، خذوا مليونًا وأبقوا ثلاثة ملايين، فقبلوا ذلك، فإذا رجعت إلى صاحبك ما تضمن المليون؛ لأن هذا التصرف في محله، لا إشكال فيه، لأنه من باب "ارتكاب أخف الضررين في سبيل دفع أعلاهما"، وهذا الشيء تحت يدك ومأذون لك بالتصرف فيه، فلا إشكال في هذه الحالة، لكن من فعل ذلك عمداً من غير اعتبار شرعي فإنه يضمن.

وكذلك لو أنه كان متسبباً بهذا الفعل، ما فعله بنفسه، لكن تسبب فيه، مثل إيقاف السيارة في مكان ليس محلا للوقوف، فجاءت سيارة وصدمتها وذهبت، فإنه يضمن، صحيح ليس هو من باشر لكنه متسبب، فما أمكن تضمين المباشر فنرجع إلى المتسبب، فإذا عدم المباشر رجع إلى المتسبب.

لو حفر البئر -كما ذكرنا- في مزرعته وسقط فيها إنسان فإنه لا يضمن؛ لأنه مأذون له في هذا التصرف، فما نتج عنه فإنه لا يضمنه.

لكن لو حفرها في الطريق، وسقط فيها إنسان، فإنه يضمن، وهكذا.

وهل هناك فرق بين التفريط وبين التعدي؟

نعم، التفريط أن يقصر في حفظ ما اؤتمن عليه، أو عهد إليه، فرط في حفظ هذه السيارة فأصابها تلف فيضمن.

أما التعدي ففعل ما يكون به التلف من غير اعتبار شرعي، أو من غير إذن، فعل شيئاً حصل به التلف، فإنه يضمن؛ لأنه لا يجوز له مثل هذا التصرف فيه.

ولا يُستثنى من هذا شيء، والله تعالى أعلم.

وبعض أهل العلم يستثنون مثل العارية يقولون: فإنها مضمونة بإطلاق، سواء كان بتفريط أو بغير تفريط، والأقرب -والله أعلم- أنه يراعى فيها التفريط من عدم التفريط، سواء كان أخذ ذلك لحظِّ نفسه، أو أخذه لمصلحة صاحب الحق، أو لمصلحة مشتركة بينهما.

أخذه لمصلحة نفسه: مثل العارية، استعار السيارة التي ينتفع بها، أو مصلحة صاحب الحق: مثل وديعة يحفظها له، أو لمصلحتهما: مثل أخذ المال في شركة مضاربة بينهما، أعطاه مالا وهذا يشتغل، والأرباح بينهما بحسب ما يتفقون عليه، فهذا الآن المال تحت يده بإذن من صاحب الحق -صاحب المال-، وبدأ يشتغل بهذا المال، فسرقه السراق من غير تفريط منه، ولا ركوب طرق غير معهودة، أو نحو ذلك من المغامرات والمخاطرات والأشياء التي لم يؤذن له فيها، ففي هذه الحال يضمن هذا المال، وإذا ما حصل تفريط فإنه لا يضمن، لكن لو أنه توسع في التصرف في هذا المال أعطيته مائة ألف، قلت له: اشتغل فيها والربح بيننا، فالأخ بدأ يتصرف تصرفات بالمائة الألف التي ما تعب فيها، بدأ يتصرف فيها تصرفات لا يحق له أن يتصرف فيها، فقال: أنا أريد أن آخذ جولة على دول شرق آسيا على أساس الصناعة الرخيصة، ومن أجل أن نصنِّع أشياء، فذهب وأنفق خمسين ألف ريال على جولة، ويسكن في فنادق خمس نجوم، فذهب نصف رأس المال في جولته، ورجع بخفي حنين، ففي هذه الحالة يضمن، يقول: أنا غير مفرط، فنقول: بل مفرط، كيف تتصرف بهذه التصرفات؟ وتتوسع في هذا المال هذا التوسع؟

وهكذا أموال التبرعات، الصدقات، الزكوات، يأخذ الزكاة ويضعها في مساهمات تجارية، سواء كانت مأمونة أو غير مأمونة، هذه زكاة يجب أن تصل لأصحابها، من قال لك: ضعها في مؤسسات وفي أعمال استثمارية؟ ثم انتهت هذه المشاريع التجارية وخسرت وفشلت، والأخ وضع عندهم عشرة ملايين زكوات، فيضمنها.

يقول: أنا ما فرطت.  

فنقول: بل فرطت، الزكاة كيف تضعها في هذه المشاريع؟ الزكاة يجب أن تصل إلى أيدي المستحقين، فتضمن هذه العشرة الملايين، هي دين في ذمتك أنت؛ لأن هذا تصرف غير مأذون فيه.

وضعتَ عنده وديعة، فأقرض إنسانًا، قال: هذا المال جالس، وهذا مودعه عندي، فأقرض إنسانًا، فهذا الإنسان ما رده، فإن المقرض يضمن.

وكذلك عنده أموال صدقات لمشروع من المشاريع الخيرية، فهذا المال صار يقرضه الآخرين، إذا جاء أحد أقرضه منه، وضاع جزء من هذا المال؛ فإنه يضمن هذه الأموال التي ضاعت؛ لأنه لا يحق له أن يقرض منها، وهكذا،

لكن لو أن صاحب الوديعة أعطاه الوديعة، وقال: إذا جاءك إنسان يريد أن يقترض فأقرضه، فأقرضه وما رده، ففي هذه الحال ما يضمن.

وهناك قواعد لها علاقة بهذه، بعضها ذكرها المؤلف -رحمه الله-، ومن ذلك: "يُقبل قول الأمناء في الذي تحت أيديهم من التصرفات والإتلافات، وغيرها" الأمناء: مثل هذا الذي أخذ الوديعة، أو ناظر الوقف، أو الذي أخذ الزكاة ليوصلها أو المضارب الذي أخذ المال، فهؤلاء أمناء، فالقاعدة: "يُقبل قول الأمناء في الذي تحت أيديهم من التصرفات والإتلافات وغيرها إلا ما خالف الحس والعادة"، هذا إنسان أعطيته الغنم وقلت له: ترعى هذا الغنم، فجاءك بعد مدة: أين الغنم التي أعطيناك؟ قال: والله عدا عليها الذئب فأتلفها، "ما خالف الحس والعادة"، الحس والعادة ما توجد ذئاب هنا، لو قلت غير هذا؟ لو قلت: جاءها مرض وماتت، يمكن، لكن تقول لي: جاء الذئب وأكلها، هذا الكلام غير مقبول، هذا الرجل ربما تعاقد معه، وجاء به من بلد فيها سباع ووحوش وغابات، وظن أن الوضع عندنا يشبه هذا، فجاء ووضعها هنا في طرف البلد، ثم قال: الذئب أكلها كلها، ما عندنا ذئاب يا أخي! قل غير هذا الكلام!، ففي هذه الحال لا تقبل منه؛ لأنه مخالف للحس، أو مخالف للعادة.

أولاد يعقوب -عليه الصلاة والسلام- لما جاءوا لأبيهم وقالوا: أكله الذئب، فنظر إلى القميص فإذا القميص لم يشق، فقال: ما هذا الذئب الحكيم اللطيف الرقيق الذي يأكل يوسف ولا يشق القميص؟ القميص عليه دم، لكن القميص ما شق، فالعادة: أن الذئب لا يفتح الأزرار، ويخلع القميص بطريقة لبقة، وإنما يبطش به، ويمزق قميصه، فتكون آثاره واضحة على القميص، فيعقوب -عليه الصلاة والسلام- عرف كذبهم بهذه القرينة التي عادة ما يكون فيها مثل هذا الوصف.

وذكر قاعدة أخرى، وهي: "من قبض العين لحظِّ نفسه لم يقبل قوله في الرد، وإن قبضه لحظِّ مالكه قُبل"، هذه مسألة: هل نصدقه فيما يقول أو لا؟

هذه فيها تفصيل عن التي قبلها التي هي: "يقبل قول الأمناء إلا ما خالف الحس والعادة"، هنا خص فيها ما كان لحظ نفسه، ما كان لحظ نفسه مثل: الإعارة، المستعير لحظِّ نفسه، أخذها من أجل حظ نفسه لينتفع بها، فهو يقول: "من قبض العين لحظ نفسه لم يقبل قوله في الرد، فإن قبضه لحظ مالكه قُبل"، ما معنى: "لم يقبل قوله في الرد"؟

يعني: رجّعتُها عليك.

إنسان أعطى إنسانًا وديعة وجاء وقال له: يا فلان أعطني الوديعة التي أعطيتك إياها؟ قال: رجعتها عليك، أنت نسيت، أنا جئتك في البيت وأعطيتك إياها، قال: ما أعطيتني إياها، يقول: بل أعطيتك إياها، فمن الذي يقبل قوله هنا؟

الأمين الذي أودعت عنده يقبل قوله في الرد، يعني أنه ردها عليك، هذا معنى "في الرد"، يقبل قوله؛ لأنه قبلها لحظك أنت، لمصلحتك أنت، ولا مصلحة له فيها، فيقبل قوله في الرد.

أما إذا كان لحظ نفسه فيقول: لا يقبل قوله في الرد، الأصل أنه ما أعادها، أقرضتَ إنسانًا مائة ألف، ثم جئت وقلت له: السداد، قال: أنا أعدت لك المال، أنا أرجعته إليك، أنا وفيت لك بهذا الدين وقضيته، تقول: ما أعطيتني، فيقبل قول مَن هنا على القاعدة الأخيرة؟ لا يقبل قول هذا الشخص، لماذا؟  

بناءً على قاعدة أخرى سبقت وهي: "الابقاء على الأصل"، فهو لم يرجع به، فلا ينتقل من اليقين بالشك، فـ"اليقين لا يزول بالشك"، فهو أخذه يقيناً، فهنا وقع الشك هل رجع  به أو ما رجع؟

وإذا كان قبضه لمصلحتهما مثل: المضاربة، أعطاه وقال: نتّجر أنا وأنت بهذا المال، أنا مني المال وأنت منك العمل، ثم بعد ذلك جاء وقال: انتهت مدة المضاربة، نحن نريد أن نفض، قال: نعم، أنا أعرف أنها انتهت، ورجّعت لك رأس المال، قال: ما رجّعت رأس المال، فنقبل قول من هنا؟  

الأقرب -والله أعلم-: أن ذلك لا يفرق فيه بين ما كان لحظ المعير أو المستعير، وإنما ينظر فيه، فإن كان قال ذلك مع يمينه قُبل؛ لأنه مؤتمن، فالأمين يقبل قوله، لكن متى نعمل بقاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"؟ وقد ضربت بعض الأمثلة لهذا: لو قال: أنا ما أدري أرجعت لك أو ما أرجعت لك، فقال صاحب المال: ما أرجعت لي، أو قال: أنا مثلك لا أدري هل أرجعت لي أو ما أرجعت لي المبلغ الذي اقترضته، أو العارية التي استعرتها، فهنا ماذا نقول له؟

نقول له: اليقين لا يزول بالشك، اليقين أنت استعرته بيقين فلا ينتقل منه إلا بيقين، فالأصل أنك ما أرجعته، اقترضت هذا يقيناً مني وشككت هل أرجعته أو لا؟

الأصل أنك لم ترجعه.

تقول: إنسان أعطاني خمسمائة وقال: هذه زكاة، واختلطت مع مالي، ونسيت أخرجتها أو ما أخرجتها.

نقول: الأصل ما هو؟ أنك أخرجتها أو لم تخرجها؟

لم تخرجها، فيلزمك إخراجها؛ لأن "اليقين لا يزول بالشك".

فإذن القبض إما أن يكون لمصلحة صاحب المال، أو لمصلحة الآخذ، أو لمصلحة مشتركة بينهما، من الذي يُقبل قوله في العيب والرد يقول: أنا رجّعتها لك؟

الأقرب أنه يقبل قوله مطلقاً إلا في مثل حال الشك؛ لأنه أمين، والأمين يقبل قوله في العيب والرد، ما معنى العيب؟

لو أنه أصابها عيب عنده، فيقبل قوله، من أين هذه الصدمة في السيارة؟ قال: كانت واقفة في موقف رسمي طبيعي، ما كان الوقوف في مكان ممنوع الوقوف، ولا خطر، ولا أي شيء، أتيت وجدتها مصدومة، يقبل قوله؟، نعم يقبل قوله، هذا أمين فيقبل قوله، كسرت السيارة وأنا عند الباب في البيت، أنا في البيت في مكان لا يعهد فيه مثل هذا، وما حصل مني أي تفريط، فنقول: مقبول هذا القول لأنه أمين، فلا يضمن في هذه الحالة.

وكلُّ حُكمٍ دائرٌ مع علتهْ *** وهي التي قد أوجبتْ لشرعتِهْ

هذه القاعدة ذكرها في كتابه الآخر: "الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً"، فهذه أشبه بالضوابط منها بالقواعد، وهذه القاعدة قاعدة أصولية وليست قاعدة فقهية؛ لأنها تتعلق بالأدلة الإجمالية.

والأدلة الإجمالية هي دلائل الفقه إجمالاً: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، هذه تتعلق بباب العلة من كتاب القياس.

"الحكم يدور مع علته" المقصود بالعلة في القياس يمكن أن نعرِّفها بما يقربها فنقول: العلة هي: "الوصف الظاهر المنضبط الذي من أجله شرع الحكم"، "الوصف الظاهر المنضبط"، طبعاً شرح هذه القضية لا أحب أن أدخل فيه؛ لأنه سيدخلنا في أدق وأصعب شيء في أصول الفقه، وهو باب العلة من القياس، ولا نريد أن نحول هذا الدرس المبسط إلى شيء آخر، لكن تدرك العلة من خلال ذكر بعض الأمثلة التي توضحها لك بشكل لا يخفى -بإذن الله .

"الوصف الظاهر المنضبط الذي من أجله شرع الحكم"، مثل: الإسكار في الخمر وصف ظاهر، "منضبط" فحيث وجد الإسكار وجد التحريم ، انتفى الإسكار انتفى التحريم.

"من أجله شرع الحكم" (كل مسكر خمر)([2])، (ما أسكر كثيره فقليله حرام)([3])، "من أجله شرع الحكم" لماذا حرمت الخمر؟ لأنها تذهب بالعقول، فحفظًا لعقول الناس حرم الله عليهم الخمر، فالإسكار وصف ظاهر منضبط من أجله شرع الحكم.

هل العلة هي الحكمة؟

العلة ليست هي الحكمة، هناك فرق بين العلة والحكمة، وهذا مثال يوضح العلة والحكمة والسبب.

السبب بعض أهل العلم يطلقه بمعنى: العلة، وبعضهم يفرق بينهما.

والواقع: أن العلة التامة هي ما استوفت الشروط، وانتفت منها الموانع، فيدخل فيها السبب بهذا الاعتبار.

ويعبر عنها بعض أهل العلم بالسبب التام، بمعنى الذي وجد الشرط معه وانتفى المانع.

وهذا مثال يوضح الفرق بين السبب والعلة والحكمة: فالسفر يجوز فيه القصر والفطر في الصوم.

أقول: ما الحكمة في الفطر وفي قصر الصلاة؟

الحكمة هي التخفيف على المكلفين.

ما هي العلة التي من أجلها شرع القصر؟

المشقة.

ما هو السبب الذي من أجله جاز القصر؟

السفر.

فالسفر سبب، والمشقة علة، والتخفيف هو الحكمة.

وقد ينبري واحد ويقول: طيب السفر قد لا يكون فيه مشقة، فإذا قلنا: العلة هي المشقة فالسفر قد يكون مريحًا جدًّا وبالطائرة ولا فيه أي مشقة؟

فنقول: الشارع يربط ذلك بالمظنة، فهذا السفر مظنة للمشقة، والشارع ما يدخل في هذه التفاصيل، وإنما يذكر أدلة عامة دون الخوض في مثل هذه التدقيقات، إذا كان يلحقك به مشقة جاز القصر، وإذا كان لا يلحقك مشقة لم يجز القصر، ثم يبدأ الناس: لحقتني مشقة أو ما لحقتني مشقة؟ هل هي مشقة محتملة أو غير محتملة أو معتدلة حتى أقصر الصلاة أو ما أقصر؟

خلاص، السفر مظنة المشقة، فمن كان مسافراً فليقصر.

الخلوة بالمرأة الأجنبية مظنة الريبة، والوقوع فيما حرم الله، يقول إنسان: هذه امرأة إذا رآها الرجال فروا فرارهم من الأسد، لا يريدونها ولا يطمعون فيها، يجوز الخلوة بها أو ما يجوز؟

نقول: ما يجوز.

يقول: ما أحد يريدها.

أو امرأة شمطاء كبيرة هرمة هل يجوز الخلوة ومصافحتها؟

لا.

ما أحد يتوق إليها؟، تقولون: العلة وقوع كذا، هذا ما فيه؟

نقول: الشارع يربط بالمظنة، فما يفرق: إن كانت كذا فلا بأس، لا، (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)([4])، خلاص ما تخلو بامرأة، ولا تصافح امرأة أجنبية، ويكفي هذا، حتى لا يأتي إنسان ويقول: أنا هذه أبداً ما أتوق إليها، يقول: أنا قلبي أصلاً ما فيه شيء، سليم تماماً، مثل أختي! (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)([5])، وهكذا.  

فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهذا الذي يسميه الأصوليون: بالطرد والعكس، ويسمونه: الدوران الوجودي والعدمي، حيث وجدت العلة وجد الحكم، حيث انتفت العلة انتفى الحكم، وهو أحد طرق استخراج العلة في باب القياس.

وهذه القاعدة لها تعلق بقواعد أخرى، وكذلك بعض القواعد التي سبقت، مثل قاعدة: "العادة محكَّمة"، وبعض الجهلة أو بعض من لا خلاق له يقول: إن الحكم يتغير بتغير الزمان، هذه يقولها إنسان وهو محق، ويقولها إنسان وهو مبطل، سواء كان جاهلاً أو قاصداً إفساد الدين على الناس، لربما تقرءونها في بعض الكتابات في الصحف، "الأحكام تتغير بتغير الزمان" ماذا يريد أن يقول؟

يريد أن يقول مثلاً: إن الحجاب لا يصلح لهذا العصر، ويريد أن يقول مثلاً: إن سفر المرأة بلا محرم لا إشكال فيه، وإن مسألة القوامة على المرأة لا تتناسب مع هذا العصر الذي حققت فيه المرأة نجاحات وإنجازات، فهي مثل الرجل.

ويقول: إن للمرأة نصف المثيراث هذا الأمر لا يتناسب مع هذا العصر الذي وصل فيه الإنسان إلى أعلى ما يمكن من حقوق الإنسان، فهذا يريد أن يصل إلى هذا، فيضرب على هذا الوتر، فهذه كلمة حق أريد به باطل.

لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان من حيث زوال العلل، من حيث الأحكام التي بنيت على العرف، هذا صحيح، فإن ذلك يتغير بتغير الزمان والمكان، وليست الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة المحسومة، وإنما التي ترتبط بالعرف، التي ترتبط بقاعدة "سد الذرائع"، التي ترتبط بقضايا تتعلق بالتشبه، وما أشبه ذلك مما ليس منصوصاً في الكتاب ولا في السنة، هذا معناها، مثل: لبس الآن العمامة الزرقاء هذه في وقت شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي لا يلبسها إلا النصارى، لا يجوز لبس العمامة الزرقاء في وقت شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي؛ لأنها من باب التشبه، لكن في وقتنا هذا لو لبس واحد عمامة زرقاء تغير الحكم، لتغير الحال والزمان.

"العادة محكَّمة" في وقت من الأوقات العادة والعرف عندهم أن الشيء الفلاني إذا أطلق فالمراد به كذا، وهذا الكلام تغير الآن مثلما نقول في كثير من الأشياء التي تغير فيها العرف: "العادة محكَّمة".

وهكذا مثل قضايا العلل، وسد الذرائع، وما أشبه ذلك، في وقت من الأوقات يكون هذا الشيء ذريعة إلى منكر معين، في وقت آخر لا يكون ذريعة إليه، في مكان آخر لا يكون ذريعة إليه.

وهذا يدخل تحته مسائل كثيرة جدًّا: قيادة المرأة للسيارة مثلاً ماذا يقال فيها؟

هنا نقول: حرام لا يجوز، ولا نقول: هذا جائز من حيث الأصل ولكن نمنع منه لأجل الذريعة؛ لأن هؤلاء لا يريدون أن يفهموا، نقول: حرام، لكن قد لا نقول هذا في بلد آخر يكون الوضع فيه مختلفًا تماماً والحجاب منتهك أصلاً، ولا يوجد حجاب إلا عند فئة قليلة، أفراد من النساء لا يركبن إلا في حافلات ملتصقة صغيرة جدًّا، مثل سيارات المطاعم، يركبونها، متقابلين، وملتصقين، فتقول المرأة: أيكون عندي سيارة أذهب بها وأجيء أو أركب بهذه الطريقة؟ ما عندي وسيلة أخرى؟  

فهنا نأتي لأشياء أخرى مسألة: "ارتكاب أخف الضررين"، إلى آخره، إذا كانت القضية السائق، نقول: لا، حرام، لا يجوز، فمسألة: "تغير الأحكام بتغير الزمان"، يتلاعب فيها بعض الناس من أجل أن يصلوا إلى إفساد المجتمع، فهنا ينبغي أن نفرق وأن نعرف ما المراد بقاعدة "تغير الأحكام بتغير الزمان".

يكفي هذا القدر من الكلام على هذه القاعدة الأصولية، والتي ليست من قواعد الفقه.

وكلُّ شرط لازمٌ للعاقدِ *** في البيع والنكاح والمقاصدِ

إلا شروطاً حَلّلتْ مُحرَّما *** أو عكسه فباطلاتٌ فاعلما

"وكلُّ شرطٍ لازمٌ للعاقد" الشرط لازم للعاقد، بعض الناس يعبر عنها بأن "الشرط نص المُشترِط"، أو يقولون: "نص الواقف -مثلاً- كنص الشارع" يعني في الضوابط والشروط التي ذكرها.

فالمقصود: أن الشروط لازمة، النبي ﷺ يقول: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)([6]).

وجاء عن عمر أنه قال: "مقاطع الحقوق عند الشروط"([7])، فهذا لا إشكال فيه، لك ما اشترطت.

وكلُّ شرط لازمٌ للعاقدِ *** في البيع والنكاح والمقاصدِ

إلا شروطاً حَلّلتْ مُحرَّما *** أو عكسه فباطلاتٌ فاعلما

فالشروط ليست نوعاً واحداً، وليست على وتيرة واحدة، الشروط أنواع، الشروط هذه إذا نظرنا إليها من جهة مصلحة العقد، أو مصلحة الأطراف الداخلة فيه، فنستطيع أن نقسمها إلى أقسام فنقول: هذه الأقسام جملةً ثلاثة:

القسم الأول: ما كان لمصلحة العقد، وهو ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما لا مصلحة فيه لأحدهما.

النوع الثاني: ما كان فيه مصلحة لهما.

النوع الثالث: ما كان فيه مصلحة لأحدهما.

هذا معنى مصلحة العقد، أي أنه يقوِّي مقتضاه.

القسم الثاني: ما كان الشرط فيه مصلحة للمتعاقدَين.

القسم الثالث: ما كان فيه مصلحة لأحدهما.

فهذه جميعاً تجوز ما لم يكن هذا الشرط محرماً، فالآن لو أردنا أن نطبق قد نختلف في الأمثلة والتطبيقات، لكن المقصود هو التوضيح فقط، ولك أن تقسم بطريقة أخرى، فنقول مثلاً: يقوي مصلحة العقد ولا مصلحة فيه لهما، مثل لو قال مثلاً: هذا العقد نريده بحضور الشهود مثلاً، هذا لمصلحة العقد، لكن هل زاد شيء في البيع أو في الإجارة، أو غير ذلك، رجع إلى جيبه شيء؟ لا.

لو قال: أريد هذا العقد أن يكون مكتوباً بورقة رسمية، فهذا لمصلحة العقد، لتقوية العقد، فلا إشكال في هذا.

هذه التي فيها نفع لهما، أو لأحدهما، أو ما لا نفع فيه: قد يكون هذا الشرط أصلاً متحققاً وإن لم يشترطه، وقد لا يكون، لو أنه كان الشرط بينهما: أن يحصل التقابض، هذا شرط أصلاً تحصيل حاصل؛ لأن الشرط على خلاف مقتضى العقد، هذا الأصل، يعني استثناءً، وإلا إذا كان يقويه ويؤكده فلا إشكال، قال له: بشرط أن نتقابض، تعطيني السلعة وأسلمك الثمن، مصلحة لهذا ومصلحة لهذا، وهو يقوي العقد، هذا يأخذ السلعة فينتفع بها، وهذا يأخذ الثمن، فالمصلحة عائدة للطرفين.

مصلحة لأحدهما وهو يقوي مقتضى العقد، لو قال له: نعم، أنا أبيعك إياه، لكن على أن تضع عندي رهناً حتى تسلم الثمن، فقال: لا إشكال أعطيك الرهن، هذه سيارتي تساوى مائة ألف، والبيع الذي بيننا قيمته مائة ألف، خذ سيارتي إذا ما وفيتك خلال المدة الفلانية فتتصرف فيها، أو فهي لك، أو تبيعها، أو نحو هذا.

فالحاصل: أن هذا الشرط لمصلحة البائع، وهو يقوي مقتضى العقد، حتى البيع يتحقق.

القسم الثاني: لمصلحة المتعاقدَين مما يعود نفعه لهما، مثل لو أنه قال: بعني هذا على ألا أنقدك الثمن الآن، أعطيك بعد سنة، وأعطيك ضماناً وهو رهن، أو أعطيك شيكات مصدقة مؤجلة مثلاً، أو نحو هذا، فهذا فيه مصلحة للطرفين، فتأجيل الثمن فيه مصلحة للمشتري؛ أخذ السلعة، وانتفع بها، وذاك باع سلعته، ولربما بثمن أكثر من ثمن النقد؛ لأنها مباعة بالأجل، واشترط عليه أن يعطيه شيكات مصدقة مثلاً، أو نحو هذا، فهذا لا إشكال فيه، أو قال له: بشرط مثلاً أن تكون القيمة بالدولار، أبيعك إياها بعشرة آلاف دولار، لو لم يشترط هذا فالأصل بحسب العملة المتعارف عليها؛ لأن "العادة محكَّمة"، يقول: أنا بعتك الأرض بعشرة آلاف، عشرة آلاف ماذا؟ ريال، قال: لا يا أخي، أنا أقصد عشرة آلاف دولار، يقبل قوله أو ما يقبل؟ يحتاج أن يضربها في ثلاثة وخمس وسبعين، فما يقبل قوله، يقول له: هي محسوبة بالريال؛ لأن "العادة محكَّمة".

أو لمصلحة أحدهما، مثل لو قال له الآن: أنا أشتري منك هذا الشيء بشرط أن توصله إلى المكان الفلاني، فهنا يقبل هذا، يقول: أنا أشتري منك هذا اللحن بشرط تقطيعه مثلاً، فيقبل هذا الشرط.

لمصلحة أحد المتعاقدين، يقول: أؤجرك هذه الدار على أن أدفع الأجرة مقسطة في كل شهر، فهم بحسب شروطهم، إن لم يكن هناك شرط يرجع للعرف، العرف أن يدفع الناس مقدماً، أو يدفعون في آخر شيء، أو يدفعون في قسطين، كل ستة شهور، يرجع للعرف، "العادة محكَّمة".

لمصلحة أحد المتعاقدين لو أنه قال: أنا أبيعك هذه الدار، والثاني قال له: أنا أشتريها منك على ألا يكون ذلك نقداً، أن يكون خلال أقساط قدرها كذا فما الحكم؟، هذا لا إشكال فيه.

لو قال: أبيعك هذه الدار بشرط أن أسكنها سنة من أجل أن تنتهي داري، فأنتقل إليها مثلاً، فهذا الشرط صحيح عائد لأحد المتعاقدَين، وقل مثل ذلك في أمثلة كثيرة.

فالحاصل: أن الشرط لمصلحة أحد المتعاقدين لا إشكال فيه.

وإذا جمع أكثر من شرط، فهل هذا يُمنع منه؟

النبي ﷺ نهى عن بيع وشرط([8])، يعني الجمع بين عقدين، لو قال له: أنا أبيعك هذه الدار، فقال له: أنا أشتريها منك، قال البائع: بشرط أن أسكنها سنة، ثم تؤجرها لفلان بعدي، فهذا بيع وشرط، وهكذا في أمثلة كثيرة، فالجمع بين بيع وشرط كثير من أهل العلم منع منه للحديث.

وبعضهم فهم منه فهماً آخر، "نهى عن بيعتين في بيعة"([9]) الجمع بين عقدين في وقت واحد، فهموا منه فهماً آخر، وهي الحيلة على الربا، يقول له: أنا أبيعك هذه الساعة بمائة مؤجلة، أقساط في سنة، وأشتريها منك -تبيعني إياها- بثمانين نقداً، مثل ما يسوون في الحيلة على الربا، فهذه تسمى: مسألة العِينة، جمع بين بيعتين في بيعة، باعه واشترى منه، فهذا لا يصح.

إذن "الشروط صحيحة إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً"، فهذا الشرط باطل، وهو نوعان: نوع يبطل معه الشرط والعقد، ونوع يبطل معه الشرط فقط.

فالذي يُبطل العقد والشرط، ما ينافي مقتضى العقد أصلاً، مثل لو أنه قال: أبيعك هذه السلعة على أن لا تتصرف فيها، فلا يصح البيع، هذا ينافي مقتضى العقد، لأنه يشتريها لينتفع بها، ويملكها ويملك منافعها، يقول: أؤجرك هذه الدار على ألا تنتفع بها، فهذا يبطل معه الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى العقد.

وهناك شروط يصح معها العقد، ويبطل الشرط، فهي لا تنافي مقتضى العقد، مثل: (الولاء لمن أعتق)، النبي ﷺ في قصة بريرة أهل الجارية -أسيادها- اشترطوا على عائشة -ا- إذا أعتقتها أن يكون الولاء لهم، والنبي ﷺ يقول: (الولاء لمن أعتق)([10])، فإذا اشترى منه هذه الجارية على أن يعتقها، فقال له: أنا أشترط أن يكون الولاء لي، يقوله البائع؟ نقول له: لا، هذا الاشتراط لا يقبل؛ لأن الولاء لمن أعتق، ولا يشترط أن يقول له: هذا الشرط ما يُقبل، يشتريها منه، يقول له: خيرًا إن شاء الله، وإذا اشتراها منه يقول له: لا شأن لك بذلك.

رجل تزوج امرأة، فاشترطت عليه أن لا يسافر بها من هذا البلد، أو أن تكمل تعليمها، أو أن تكمل في عملها هذا مدرسة، أو نحو هذا، فهذا الشرط هل ينافي مقتضي العقد؟

لا.

فيه مصلحة لأحد الطرفين، أليس كذلك؟.

فيجب عليه أن يوفي بهذا الشرط.

لو اشترطت أن لا يتزوج عليها يصح أو ما يصح؟

الأقرب أنه يصح، ولا ينافيه: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً)([11])، نقول: حرَّم؟ لا ما حرم، فهذا شرط، والناس على شروطهم.

وهكذا في أبواب مختلفة من المعاملات.

فالشرط تارة يبطل مع العقد، وتارة يبطل وحده دون دون العقد، لو أنه باع سيارة وقال: بشرط ما تذهب بها ولا تجيء، ولا تقودها ولا تشغلها، لماذا ما أشغلها؟ فهذا ينافي مقتضى العقد.

لو باعه دارًا وقال له: ما تسكنها ولا تؤجرها ولا تهبها، فمثل هذا ينافي مقتضى العقد.

لكن لو اشترط عليه شرطاً لمصلحة من المصالح المعتبرة، فلا إشكال

تُستعمَل القرعةُ عند المُبهَمِ *** من الحقوقِ أو لدى التزاحُمِ

القاعدة عند المؤلف في كتابه الآخر: "تشرع القرعة إذا جُهل المستحِق، وتعذرت القسمة".

القرعة معناها: الاستهام: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ الصافات:141 في قصة يونس ﷺ، "ساهم" يعني: حصل الاقتراع.

وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ آل عمران:44، تزاحموا في كفالتها فوضعوا القرعة بينهم، والأدلة على جواز القرعة كثيرة، النبي ﷺ عمل بالقرعة في أشياء خاصة، وفي حكمه بين الناس، كان إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين نسائه([12]).

وكذلك لما ازدحم أناس وتخاصموا في تركات ومواريث أقرع النبي ﷺ بينهم.

وكذلك الرجل الذي أعتق في مرض الموت ستة من ممالكيه، فأقرع النبي ﷺ بينهم، فأقر عتق أربعة وأعاد اثنين إلى حكم الرق([13])، وهكذا في أمثلة كثيرة.

فإذا استوى الناس في حق من الحقوق، ومعنى هذا الحق كل ما يثبت للإنسان من المنافع الحسية والمعنوية، فهو حق له.

الحسية: مثل البيت، السيارة، الساعة، الثوب، المال، كل هذه لتثبت له فهي حق له.

والمعنوية: مثل حقوق التأليف، حق الاختراع، براءة الاختراع.

وكذلك الحقوق الاعتبارية: مثل: الولاية على المرأة في النكاح، والولاية على اليتيم، وما إلى ذلك، فهذا إنسان يتيم وتنازع فيه جماعة، ولا يوجد مرجح لأحد هؤلاء على الآخر، كل واحد يقول: أنا أريد أن أكفل هذا اليتيم، فماذا نقول؟ نجعل قرعة بينهم.

وكذلك لو أن الناس سبقوا إلى مكان مباح، مكان خيمة في الحج وصلوا في وقت واحد، كل واحد يقول: أنا أولى به منك، فيجعل بينهم قرعة، إذا كان المكان يسع لأكثر من خيمة حللنا المشكلة، إذا هي خيمة واحدة فقط أجرينا قرعة.

إذا كان هؤلاء تسابقوا كلهم وصلوا إلى موقف سيارة في وقت واحد، فمن يقف فيه؟

نقول: بالقرعة، ما لم يكن لأحد هؤلاء حق يترجح فيه على صاحبه، فنقول: بالقرعة.

لو أن هؤلاء الناس سبقوا إلى فيضة، روضة، مكان فيه ماء وعشب جيد، فذهبوا إلى نزهة أو إلى رعي، أو غير ذلك، ووصلوا في وقت واحد إلى هذا المكان، لا يستطيعون أن يقتسموه فمن الأحق به؟.

فهنا نقول: هؤلاء يقرع بينهم.

لو أجرينا بين أناس مسابقة وليس عندنا إلا جائزة واحدة، وفاز خمسة، فماذا نصنع؟

نجري قرعة بينهم ونعطي الجائزة لأحدهم، إذا كان عندنا أكثر من جائزة نعطيهم جميعاً، إذا كان الشيء يمكن أن يقسم، فماذا نصنع؟

نقسمه، (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)([14])، قتله اثنان في وقت واحد كلهم ضربه ضربة واحدة، (كلاكما قتله)([15])، كما في الحديث، فنقسم السلب بينهما.

لكن لو كان السلب شيئًا واحدًا لا يقسم، فهنا نقول: نجري بينهم قرعة، إذا لم يمكن قسمة هذا الشيء.

لو وُجدت لقطة ناس يمشون وإذا بقطعة من المال أو الذهب، أو نحو هذا، كلاهما رآها وليس أحدهما أسبق من الآخر إليها مثلاً، ما أخذها قبل صاحبه أو نحوه، فهنا يتنازعون فيها، ماذا نقول فيها؟

نقول: يقرع بينكم قرعة من ظهرت له القرعة فهي له، فالقاعدة: "تشرع القرعة إذا جُهل المستحِق وتعذرت القسمة".

لماذا نلجأ إلى القرعة؟

لفض المنازعة؛ لأن الوصول إلى الحق إما إن يكون ذلك بطريق الشرع، أو بطريق القَدَر، مع أن هذه القضية أشار إليها الشرع، أرشد إليها، واعتبرها، ولكن المقصود أن يكون ذلك بخصوصه: الحق لفلان، ما أمكن الوصول إليه، ففي هذه الحالة ماذا نصنع؟

نلجأ إلى إيصاله إليه بطريق القدر، القدر نجري القرعة، ونقول: خلاص هو لك يا فلان.

هذا المعنى ذكره ابن القيم -رحمه الله.

إذن تكون القرعة في الحقوق المتساوية أو في تعيين المستحِق.

وإنْ تساوى العملان اجتمعا *** وفُعِل أحدُهما فاستَمِعا

يقول: وإن تساوى العملانِ اجتمعا، والشطر الثاني من البيت فيه إشكال.

ونص المؤلف -رحمه الله- على القاعدة في كتابه الآخر: "إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد تداخلت أفعالهما واكتُفي عنهما بفعل واحد إذا كان مقصودهما واحدًا".

والتعبير بعبادة فيه شيء من التوسع، هذه القاعدة في التداخل بين الأعمال، إذا تداخلت هذه الأمور وكان المقصود واحداً مع اتحاد الصورة، ففي هذه الحال نحكم بأنه يكفي فعل أحدهما، مع نية الآخر، وهذا نوعان:

نوع يسقط به الآخر ولو لم يكن ثمّة نية.

والنوع الثاني: وهو ما يدخل فيه ويحصل له أجره مع الآخر بالنية، والعمل واحد.

والواقع أن النوع الأول دخوله في القاعدة يحتاج إلى نظر وتأمل، هناك بعض الأشياء التي طلبها الشارع لم يطلبها لذاتها، مثل: تحية المسجد، هل المقصود أن يصلي ركعتين أو المقصود أن لا يجلس حتى يُوقِع صلاة سواء كانت فرضًا أو راتبة؟ فإن لم توجد تحية المسجد لا يجلس حتى يصلي، هذا هو المقصود -والله أعلم-، فلو جاء وصلى الفرض فإن تحية المسجد تسقط عنه، لو جاء وصلى الراتبة ولم ينوِ تحية المسجد فإنها تسقط عنه، سواء نوى أو لم ينوِ.

فالنوع الأول ما لم يكن معتبراً من قبل الشارع لذاته -لم يكن مقصوداً للشارع لذاته-، إذا قام غيره مقامه فإنه يكتفى به، الطواف: (تحية البيت الطواف)([16])، لو أنه الآن جاء للعمرة وطاف طواف العمرة، أو جاء حاجًّا مفرداً، أو قارناً، فطاف طواف القدوم، ما حكم طواف القدوم؟ سنة، بالنسبة للمفرد والقارن، أو طاف طواف العمرة كان متمتعاً معتمراً، ففي هذه الحالة هل نقول: عليه أن يطوف تحية للبيت؟ أو يكفي هذا الطواف؟

يكفي هذا الطواف.

لو أنه جاء ودخل المسجد ووجد الصلاة قد أقيمت فصلى معهم الظهر، فهل نقول: أنت مطالب بتحية المسجد؟ الجواب: لا، فهذا القسم يسقط أصلاً؛ لأنه ليس مقصوداً من قبل الشارع لذاته، وإنما يقوم غيره مقامه إن وجد، وحيث لا يوجد ما يقوم مقامه يطالب به.

القسم الثاني: ما كان مقصوداً للشارع مثل الركعتين بعد الطواف، لو طاف مثلاً عشرة أسابيع كل أسبوع سبعة أشواط، وليس المقصود بالأسابيع الأيام، وإنما سبع طوفات، هذا يسمى: أسبوعًا، فلو طاف عشرة أسابيع كم يصلي؟ ما وقف بينها وجلس يصلي هل يكفيه ركعتان أو يصلي عشر تسليمات من أجل أنه كل أسبوع له ركعتان؟

هذا يحتمل، بعض أهل العلم يقول: يكفيه ركعتان؛ لأن هذا يتداخل بالنية.

وبعضهم يقول: بل يصلي عن كل واحد من هذه الأسابيع.

لو أنه حلف على شيء واحد أكثر من مرة قبل أن يكفر، حنث، في الظهر حلف على ولده أن لا يسافر، وفي العصر حلف عليه أن لا يسافر، وفي المغرب حلف عليه أن لا يسافر، ثم سافر الولد بعدها، فقطعاً عليه كفارة واحدة؛ لأن الحنث وقع.

لو أنه حنث بعد كل حلف وهو حلف على شيء واحد، حلف عليه ألّا يسافر اليوم فسافر، قبل أن يكفر جاء يوم آخر فحلف عليه ألّا يسافر فسافر، فحلف عليه ألا يسافر بعد ذلك فسافر، هل تكفيه هنا كفارة واحدة أو أكثر؟ حلف على شيء واحد أكثر من مرة، وقبل أن يكفر؟

فهنا إذا كان الشيء المحلوف عليه واحداً فإنه تكفيه كفارة واحدة.

ومثل: الذي يبتلى بالتدخين يحلف ألا يدخن ثم يدخن عليه كفارة، ثم حلف ألا يدخن ثم دخن، كفارة، هل تكفيه كفارة واحدة إذا كان لم يكفر؟

الجواب: تكفيه.

لكن لو حلف على أشياء متعددة، حلف ألا يدخن، وحلف ألا يزور فلانًا، وحلف ألا يأكل الطعام الفلاني، وما إلى ذلك، فكم كفارة؟

نقول: عن كل واحد يجب عليه إخراج كفارة، وهكذا في العبادات المتداخلة.

وقل مثل ذلك في تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الركوع، إذا جاء وكبر بالنية عنهما تسقط عنه تكبيرة الركوع، تدخل الصغرى في الكبرى.

طواف الوداع مع طواف الإفاضة إذا أخره، هذا يشبه النوع الأول من وجه، ويشبه النوع الثاني، يشبه النوع الأول من جهة هل مقصود الشارع هو ألا يفارق البيت إلا بطواف أيًّا كان؟، هذا قاله بعض أهل العلم، يعني طواف الوداع ليس مقصودًا لذاته، بمعنى لو أنت جالس في أيام الحج، وتطوف من باب طواف الإفاضة، وما نويت الوداع، أو تطوف نفلا من باب التعبد والتقرب إلى الله بالطواف، واجهت إنسانًا في الطواف وقال لك: أنا في الشوط السابع سنسافر الآن تسافر معنا؟

تقول: لكن طوافي هذا الآن هو طواف الإفاضة ما نويت الوداع، هل يجزئك أو لا يجزئك؟

من نظر إلى أن طواف الوداع المقصود به هو ألا يفارق البيت إلا بعد طواف، قال: يجزئه، يكفيه؛ لأن الحديث عام النبي ﷺ أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف([17]).

ومن نظر إليه على أنه عبادة من الحج، من الأنساك، من العمل الذي طولب به المكلف في حجه -غير أهل مكة أو من في حكمهم ممن أراد الإقامة بها- فإنه في هذه الحال يقول: لابد من نية.

إذا وجدت النية من البداية نوى طواف الإفاضة والوداع، فنقول: يجزئه بلا إشكال.

وهذا ليس محل اتفاق، لكن الراجح: أن ذلك يجزئه بلا إشكال.

وقل مثل ذلك في أبواب أخرى أشرت إلى التحفظ على التعبير بالعبادة من أجلها، وهي قضية مثلاً: أبواب الحدود، والجنايات، وما في معناها، وكالقصاص، هذه تدخل فيها القاعدة فهل هي من العبادات؟

إذا نظرنا إلى أنها من شرع الله أن الله تعبدنا بها فهي لا شك أنها من العبادة، وإقامة الحد من أعظم العبادات، والقصاص أيضاً هو من شرع الله -تبارك وتعالى.

وإذا قصرنا العبادة على مفهوم أضيق فإن العبارة يمكن أن تغير بعض الشيء.

فالآن هذه الحدود والجنايات، الحدود حق لله، والجنايات -القصاص- حق للمخلوق، العلماء يختلفون هل يوجد حق خالص لله سواء في باب الجنايات أو الحدود أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأفعال التي يفعلها الناس من المنكرات، هل يوجد حق خالص لله أو أن جميع الحقوق مشوبة؟ العلماء لم يتفقوا في هذا على رأي واحد.

المقصود هنا في هذا الموضوع الحقوق التي إذا أسقطها المكلف سقطت، إذا أسقطها صاحب الحق سقطت، فهذه ماذا نقول فيها؟، نقول: حق للمكلف، أو حق للإنسان، أو حق للعبد، فهذا حق العبد.

وحق الله ما لا يسقط بإسقاط العبد مثلاً إن كان له تعلق به، وقد لا يكون للعبد تعلق به، الردة حق لله خالص، لا علاقة للعبد الآخر به، لا يتعلق بعبد آخر، لا يتعلق بإنسان آخر، فهذا حق لله، هذا لا يسقط، فهذا الإنسان ارتد عن الإسلام، فـ(من بدل دينه فاقتلوه)([18])هل تنفع فيه التوبة أو ما تنفع؟

لو تاب تقبل منه ويرتفع عنه الحكم.

لو أن هذا الإنسان الذي ارتد عن الإسلام قتل إنساناً، فوجب عليه القصاص مع ردته، وعمل عمل قول لوط، والراجح فيمن عمل عمل قوم لوط أنه يقتل، فعمل هذا، فاجتمع هنا حد، فيقتل حدًّا؛ لأن هذا نص الحديث؛ لأن هذا شيء حده الشارع، وليس تعزيراً، وأيضًا كان يتعاطى السحر، والنبي ﷺ أمر بقتل الساحر([19])، فهذا أيضاً من جملة هذه الحدود، فهذا ساحر، ومرتد، وقاتل، وفعل هذه الفاحشة، فماذا يصنع به؟ هل يمكن هذا أن يتجزأ ويتعدد ويتنوع يقتل أكثر من مرة؟، القتلة الأولى بنية كذا، والثانية بنية كذا؟

لا، هي قتلة واحدة، في محل واحد، لا تتعدد صوره في إزهاق النفس، فهنا نقول: يقتل، نقتله بنية الجميع، ويمكن أن يقتل بنية القصاص، يعني ما يتعلق بحق المخلوق، لماذا؟ لأنه لو تنازل المخلوق في بعض الصور، لو تنازل الآن المخلوق وبقيت الردة، ردة فقط مع قصاص، وبقيت الردة، وقال: أنا تبت يسقط عنه القتل أو ما يسقط؟.

يسقط.

لكن لو أنه عمل هذه الفاحشة -أعزكم الله- فهنا يقتل حدًّا، ما له علاقة يعفو صاحب الحق أو ما يعفو، فهنا يقتل.

هذا إذا اجتمع حق الله وحق المخلوقين والصورة واحدة، وهي القتل.

وكذلك لو أنه سرق فالحكم قطع اليد، هل يمكن لأحد أن يعفو عنه بعدما وصلت القضية إلى السلطان؟

الجواب: لا.

لو أنه قطع يد إنسان فماذا نصنع به؟

نقول: تقطع يده.

هل يمكن تعدد هذا فنقول: تُقطع اليدان واحدة للسرقة وواحدة للقصاص؟

الجواب: لا.

طيب ماذا نقدم؟

نجمع بينهما في النية، ويمكن أن يقدم حق المخلوق؛ لأن القصد به التشفي، نقول: قَطَع يدك، فقُطعت يده.

والأصل: أن يجمع بينهما بالنية.

إذا تعددت هذه الأعمال في باب الجنايات والحدود والقصاص وجب عليه الجلد لأنه قذف فلانًا، ووجب عليه القتل لأنه قتل فلانًا الآخر، ووجب عليه القتل لأنه تعاطى هذه الفاحشة مثلاً، فماذا نصنع به؟ نقول: يكفي الأعظم، وهو القتل، وما في داعٍ أن نعذبه ونجلده؟ يُكتفى بالأشد الذي فيه إزهاق؟.

نقول: إذا وُجدت حقوق للمخلوقين فإنها تعتبر، فنقول: هذا الإنسان قطع يد زيد فتقطع يده قبل أن يقتل، يا فلان قَطَع يدك فهذه يده قطعت، قذف عرضك فيجلد ثمانين جلدة، ثم يقتل قصاصاً، هذا إذا كانت الحقوق للمخلوقين.

وإذا كانت الحقوق للخالق، وفيها ما هو أشد، وما هو أخف، فماذا نصنع؟

بعض أهل العلم يقول: يكتفى بالأعظم إذا كان قتلاً فيه إزهاق نفسه، وإذا كان غير القتل فلا شك أنه تطبق عليه هذه الأشياء، إنسان سرق تقطع يده، قذف عرض هذا يجلد، زنا وهو غير محصن يجلد، وهكذا جرح إنساناً يجرح بمثله، فمنها ما يتداخل، ومنها ما لا يتداخل، وهكذا.

وكلُّ مشغولٍ فلا يُشَغَّلُ *** مثالُه المرهونُ والمُسَبَّلُ

هذه القاعدة واضحة -إن شاء الله- يعبرون عنها بأنه "المشغول لا يُشغَل"، ما معنى المشغول؟

يعني مثل: المرهون، هذه الساعة رهن عند زيد في القرض الذي اقترضته منه، فهي الآن مشغولة بالرهن، هل يجوز لي أن أبيعها؟ أن أشغلها بعقد آخر؟

لا، فهي مرهونة، مثل الآن البيوت المرهونة، المكتب العقاري يعطيه قرضًا ويرهن الصك، ما يجوز له أن يبيع هذا البيت، لماذا؟ لأنه مرهون، فتضيع الحقوق، ما فائدة الرهن؟

رهن عندي سيارة في قرض، اقترض مني خمسين ألفًا ورهن عندي سيارته التي تساوى مائة ألف، ثم أفاجأ بإنسان يطرق الباب، يقول: والله أريد منك السيارة، أي سيارة؟ سيارة زيد، لماذا؟ قال: هذا الاتفاق، وهذا العقد، باعها لي.

إذن ما فائدة الرهن؟

فلا يعتبر هذا البيع.

وكذلك لو أنه وقف هذه العمارة قال: هذه العمارة وقف للأيتام، ثم بعد ذلك يريد أن يبيع هذه العمارة يصلح؟

لا.

أن يعطيها إحدى الجمعيات الخيرية، ويقول: ليس مجالهم الأيتام أصلاً، وإنما مجالهم طباعة الكتب والتعليم، يقول: خذوها.

نقول: لا، "المشغول لا يُشغَل"، أوجِدْ عمارة أخرى، "المشغول لا يُشغَل".

وهكذ في الكثير من الأشياء.

التبرعات بنية المتبرع، هذا التبرع إفطار صائم، فلا يجوز أن تضعه في كفالة أيتام، أو في طباعة كتب، أو في غير ذلك، لا يصلح، لا يجوز لك أن تتصرف فيها هذا التصرف، "المشغول لا يشغل"، هذا المال صرف في هذا الوجه، فتعلق به الحق.

وهكذا في كثير من الأمثلة، "المشغول لا يشغل"، العقود التي تقع بين الناس في الصنائع والأعمال، وغيرها، اتفاق على إجارة، استئجار، اتفق معهم على عمال، مع موظفين، قال لهم: العمل من الساعة الثامنة صباحاً إلى الرابعة عصراً، فهنا لا يجوز لهم أن يدخلوا في عمل آخر في هذا الوقت، يتفقون معه وبعد ذلك يتفقون مع أطراف آخرين على أشياء أخرى في هذا الوقت، فهذا لا يجوز، يقول: أنا أسويها له على الطريق، وما تأخذ مني جهدًا في الكمبيوتر.

لا، ما يجوز.

إنسان اتفق معك في مدة زمنية أن هذا الأسبوع تنجز له العمل الفلاني، ويعطيك على قدر هذا الأسبوع الأجرة الفلانية، فما تدخل في أي عمل يزاحم هذا العمل، لا تدخل في عقود أخرى، تتفرغ لهذا العمل، بحسب ما بينكم من الاتفاق والشروط.

وكذلك الاستئجار بالساعة، قال: أنا أريد تصحيح طباعة، تصحيح كتب، مراجعة، تأليفًا، مراجعة طباعة، مراجعة إملائية، طباعية، بالساعة، الساعة بعشرة، والأخ في هذه الساعة يدخل في شغلة ثانية، يتفق مع آخر، هذا لا يجوز، "المشغول لا يُشغَل"، وهكذا.

ومن يُؤدِّ عن أخيه واجباً *** له الرجوع إن نوى يُطالِبا

نص القاعدة عند المؤلف: "من أدى عن غيره واجباً بنية الرجوع عليه رجع وإلا فلا"، الآن الديون التي على المكلف -سواء لله أو للخلق- في الجملة نوعان: نوع يحتاج إلى نية، ونوع لا يحتاج إلى نية، هكذا يقسم الفقهاء عادة -رحمهم الله-، ما يحتاج إلى نية: مثل النذر، والزكاة، فهذا يحتاج إلى نية

 

الديون التي على المكلف -سواء لله أو للخلق- في الجملة نوعان: نوع يحتاج إلى نية، ونوع لا يحتاج إلى نية، هكذا يقسم الفقهاء عادة -رحمهم الله-، ما يحتاج إلى نية: مثل النذر، والزكاة، فهذا يحتاج إلى نية

 

، كثير من الناس يسأل يقول: أنا أقرضت إنساناً عشرة آلاف، وهذا الإنسان فقير، وتبين أنه لا يستطيع أن يوفي، فهل يجوز لي أن أحتسبها من الزكاة؟

الجواب: لا.

إنسان يقول: أنا أجرت لفلان شقة قيمتها عشرة آلاف، ثم تبين أنه فقير وعاجز ولا يستطيع أن يسدد، فأراد هذا الإنسان أن يحفظ ماله المؤجَّر، فقال: هل أحتسبها له من الزكاة؟

نقول: هيهات، إنما المعتبر في ذلك هو وقت الأداء، أو وقت الدفع، أو وقت التسليم، هو المعتبر، النية فيه المعتبرة، وما عدا ذلك لا يعتبر، لأن هذه الأشياء لا تكون النية فيها لاحقاً، بينما هناك أشياء لا تحتاج إلى نية المقصود أن تصل إلى المستحقين، مثل: النفقة على من يعول، الزوجة الأولاد، فهنا المقصود أن تصل إليهم، فهذا لا يحتاج منه إلى نية، مثل: الدين قضاء الدين لا يحتاج إلى نية، رد المغصوب، رد الرهن، لو أنه انتقل إليه بأي طريقة، الرهن شاة، أو جمل، أو فرس، فُتح الباب خرج وصل إلى بيت صاحبه، طبعاً معروف هذه الدواب أحياناً إذا هي معتادة على شيء ترجع تلقائياً، فرجع إلى بيت صاحبه ودخل فيه أو مزرعته، فهنا رجع من غير إرجاعه، أو أخذه إنسان ووصله إليه، فتكون ذمته برئت، لكن في مثل الزكاة لابد لها من نية، فلو أن غيره أدى عنه بدون أن يعلم سواء زكاة الفطر أو زكاة المال، إنسان ما فوض آخر فأخبره اتصل عليه، فقال: أخرجت عنك زكاة الفطر، هل يجزئه أو لا يجزئه؟ أخرجت زكاة مالك؟ فلان له أب لا يزكي، فالولد هو الذي يزكي عنه دون أن يأذن له، فما الحكم؟

فعامة أهل العلم يقولون: لا يجزئه، وهذا يحتاج إلى شيء من التأمل، أنا أشير إلى حديثين أو ثلاثة في هذا الباب تحتاج إلى مراجعة في هذه القضية:

العباس في مسألة الزكاة وإخراج النبي ﷺ ذلك عنه، فكيف أجزأه ذلك وهي زكاة؟([20]).

كذلك أيضاً حديث: (فإنا آخذوها وشطر ماله)([21])، هل هذا الأخذ يجزئه عن الزكاة؟ لا شك أنه يأثم بالمنع، لكن هل يعتبر مانعًا للزكاة؟

بعض العلماء يقول: نعم.

يعني هل يأثم إثماً زائداً على الامتناع وتلكئه في إخراجها؟ هل يأثم أو يعتبر أنه أخرج الزكاة؟

وهناك بعض الأحاديث في مثل هذا المعنى لو تأملها الإنسان قد تشكل على هذا الأصل، وهي تحتاج إلى تأمل.

"من أدى عن غيره واجباً بنية الرجوع عليه رجع وإلا فلا"، هذه القاعدة لا تتعلق بالإبراء، وإنما تتعلق بالرد والاستيفاء، هذا إنسان سجن، حبس، أو سافر، اختفى، لا يُدرى أين هو، فُقد، وأهله مستأجرون في بيت، جاءت امرأته تبكي عند الجيران، وتقول: إن صاحب الدار يطالبهم بالإيجار أو يأمرهم بالخروج، فجاء جاره ودفع عنه الإيجار، فجاءت اليوم الثاني تبكي تقول: جاءتنا الفاتورة وعليها كتابة حمراء: إن هذه آخر مهلة لقطع الكهرباء، والحر شديد، وأنا أم أطفال، ولا عندي شيء، فذهب ودفع عنه أجرة الكهرباء.

جاءت في اليوم الثالث تبكي تقول: التليفون اتصلوا علينا، وقالوا: سيقطعونه إذا ما سددنا اليوم، فذهب ودفع عنهم.

جاءت في اليوم الخامس تبكي تقول: ما عندنا شيء والأطفال يبكون فذهب واشترى لهم كل ما يحتاجون إليه بالمعروف، مما يصلح لمثلهم، وصار ينفق عليهم طول هذه المدة، هل يستوفي هذا الإنسان من وليهم مثلاً إذا رجع؟ هل يرجع عليه؟

نقول: بحسب النية، إذا كان نوى أن يرجع عليه بهذه الأشياء، قال: ما في مشكلة، أنا أدفع لك الآن وبعد ذلك نتفاهم، أنا آخذ منه متى ما جاء، فإنه يرجع عليه، ويُلزم ذاك بالدفع له، ما يقول: أنت لماذا تتدخل أصلاً؟ من فوضك بهذا؟ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ الرحمن:60؟ فيلزم بالرد.

لو أنه فعل ذلك في تلك اللحظات لوجه الله، وتبرعاً، ثم بعد ذلك بدأ يحسب قال: فلان رجع، فلان غني، ويملك ثروة، وأنا دفعت أموالا كثيرة، فأريد أن أرجع إليه؟

نقول: لا ترجع؛ لأنها خرجت مخرج الصدقة، فلا ترجع في هذا، وهذا مقتضى هذه القاعدة.

ومما يشكل على الأصل الأول الذي يحتاج إلى تأمل في مسألة العبادات: عائشة -ا- لما حلفت ألا تكلم ابن الزبير، فدخل عليها، وشفع له من شفع، في القصة المعروفة([22])، فابن الزبير ابن أختها، وتُكنى به: أم عبد الله، وهو عظيم البر بها، لكنه في أيام خلافته قال كلمة لما أرادت أن تبيع بعض الأشياء، ورأى نفقاتها أيضاً الكثيرة، تكلم بكلمة: إن لم تنتهِ يحجر عليها، فبلغتها هذه الكلمة، فغضبت، فحلفت ألا تكلمه ما بقيت، فحاول من جهات عدة، ما استطاع، رفضت، فشفع له من شفع ودخل عليها بحيلة.

فالمقصود والشاهد في القصة: أنه أعتق عنها كفارة ليمينها.

طبعًا هي أعتقت ولا زالت تعتق حتى ماتت، لكن ليس هذا قصدي الآن، يكفي أصلاً أن يعتق رقبة واحدة، ما يحتاج عشر رقاب أو أكثر، لكن هذا كله من باب المبالغة في التقرب إلى الله بمثل هذا، وإبراء الذمة.

فالمقصود: أن عائشة -ا- في مثل هذا لما أعتقت بعد ذلك هل كونها أعتقت بناءً على أن عتق ابن الزبير لا يجزئ، أقل الأحوال أن ابن الزبير حينما أعتق ما فعل ذلك إلا لأنه يرى أنه يجزئ عنها، فهو أعتق عنها وهي غاضبة عليه، ومعلوم أن كفارة اليمين يمكن أن تكون بعد انعقاد السبب الذي هو اليمين قبل الحنث، يعني أنت الآن لو قلت: أنا سأحلف وأكفر الآن، ما حلفت، سأحلف العصر -إن شاء الله- لكن أكفر الآن؛ لأني لمّا أحلف سأحنث، نقول: ما يجزئ، هذه صدقة التي أخرجتها، لكن ما تكون إلا بعد انعقاد السبب، حلفت أمس والآن أريد أن أفعل هذا الشيء، فنقول: لك أن تخرج الكفارة قبل أن تحنث، ولك أن تخرجها بعد الحنث، إلا كفارة الظهار: مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا المجادلة:4 الصورتان الأوليان: العتق والصيام، واختلفوا في مسألة: الإطعام، ليس هذا هو الموضوع الآن، القضية أن ابن الزبير أعتق ولو لم يكن يرى هذا العتق يجزئ عنها -مع أنها كانت غاضبة- لما فعله.

فإذًا، قضية الإخراج ذلك الذي يحتاج إلى نية هل هو بإطلاق؟

هذا يحتاج إلى تأمل، والله تعالى أعلم.

والوازع الطَّبعِيُّ عن العصيانِ *** كالوازع الشرعيِّ بلا نُكرانِ

لا أريد أن أطيل، هذا البيت الأخير من القواعد: الوازع الطبعي والوازع الشرعي، هذا واضح جدًّا، وليس فيه إشكال، الوازع الطبعي والوازع الشرعي، الإنسان في مخاطبة الله له في هذه الشريعة راعى الله فيه الغرائز، من حيث التأكيد على الحل أو الحرمة في الخطاب، الأمور التي عند الإنسان مما تتطلبها غرائزه جاء الأمر بها -إذا أُمر- كإخراج الزكاة، والنفقات متكرراً كثيراً، لماذا؟ لأن غريزة حب المال تنافي هذا، حب المال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ آل عمران: 14، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا الفجر:20، فالأمر بإخراج المال كثير، لماذا؟ لأن إخراج المال ينافي مقتضى طبع الإنسان عادة.

وكذلك الأشياء المحرمة مما تتطلبها غريزته كالزنا، المحصن أبشع قتلة، وهي الرجم بالحجارة، بل على قول بعض السلف كعليٍّ : يجلد مع الرجم، فهذه القتلة بالحجارة حتى ينزف ويموت؛ لماذا؟

بعض العلماء يقولون: لأن جميع الجسد استمتع.

وبعضهم يقول: لأن من اعتاد النساء فإنه لا يصبر عنهن عادة إلا بعقوبة رادعة مثل هذه.

وهكذا فيما فيه للإنسان شهوة وغريزة، وما إلى ذلك شدد فيه الشارع في باب المحظورات، وما صادم هواه، ومطلوبات النفس ومشتهياتها إذا أمر بشيء يتعلق بذلك يؤكد عليه.

بينما الأشياء الثانية ما تجد النصوص تتضافر عليها، مثل الأكل والشرب، ما يحتاج أن يوصيه أن يأكل ويشرب، الوطء ما يحتاج أن يوصيه أن يطأ؛ لأن هذا ما تطلبه غريزته، فما تجد ذلك متكرراً في القرآن أو في السنة.

والوازع الطَّبعِيُّ عن العصيانِ *** كالوازع الشرعيِّ بلا نُكرانِ

الآن الأشياء المحرمات مثلاً الخمر نجد النهي الأكيد عنها، والتشديد فيها، وبيان مفاسدها في الكتاب والسنة، لكن أكل السموم والحشرات، هل نجد فيه نصوصًا: لا تأكلوا السموم، هل نجد نصوصًا: لا تأكلوا الحشرات؟ لا، لماذا؟ لأن وازع الطبع يمنع من ذلك، النفوس طبيعتها تمتنع من أكل الحشرات تستقذرها، والأشياء الضارة التي لا يقتضيها طبع الإنسان -لا يقتضي تطلبها- مثل السموم، وما أشبه ذلك، فاكتفى الشارع بوازع الطبع، الوازع يعني المانع: فَهُمْ يُوزَعُونَ النمل:17 يُرَدّ بعضهم إلي بعض، فيمنعون من الانتشار والتفرق، فهكذا هنا الوازع الطبعي: يعني الرادع والمانع الذي يقتضيه طبع الإنسان يُكتفى به عادة مع أن هذا الشيء محرم، السم أكله حرام، وهكذا، والعلم عند الله.

والحمدُ لله على التَّمامِ *** في البَدء والختام والدوامِ

ثم الصلاة معْ سلامٍ شائعِ *** على النبي وصحبِه والتابع

صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، هذه الخاتمة واضحة، ولا تحتاج إلى شرح.



[1]- أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب من الأنهار، برقم (2372)، ومسلم، كتاب الحدود، باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين، برقم (1722).

[2]- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر، برقم (242)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، برقم 2001)، واللفظ لمسلم.

[3]- أخرجه أبو داود، كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، برقم (3681)، والترمذي، كتاب الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم (1865)، والنسائي، كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم (5607)، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره، فقليله حرام، برقم (3393)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5530).

[4]- أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في لزوم الجماعة، برقم (2165)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (9179)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2547).

[5]- أخرجه الطبراني في الكبير بلفظ: (ما خلا رجل وامرأة إلا دخل الشيطان بينهما...)، برقم (7830)، وذكره الهيثمي في المجمع برقم (7717)، وقال: "رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف جدًّا، وفيه توثيق"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (6056).

[6]- أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في الصلح، برقم (3594)، والترمذي، كتاب أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب ما ذكر عن رسول الله ﷺ في الصلح بين الناس، برقم (1352)، والطبراني في الكبير، برقم (30)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3862).

[7]- ذكره البخاري في صحيحه معلقاً في كتاب الشروط، باب الشروط في النكاح: (7/20)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (14438)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (22031)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1891).

[8]- أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (4361)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا حديث باطل ليس في شيء من كتب المسلمين وإنما يروى في حكاية منقطعة"، في مجموع الفتاوى (18/ 63)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة وقال: "ضعيف جدًّا"، برقم (491).

[9]- أخرجه الترمذي، كتاب أبواب البيوع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، برقم (1231)، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيعتين في بيعة، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة درهم نقدًا، وبمائتي درهم نسيئة، برقم (4632)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2868).

[10]- أخرجه البخاري، كتاب العتق، باب ما يجوز من شروط المكاتب، ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، برقم (2561)، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، برقم (1504).

[11]- سبق تخريجه.

[12]- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا، برقم (5211)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل عائشة -ا-، برقم (2445).

[13]- أخرجه مسلم، بلفظ: "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله ﷺ، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدًا"، كتاب الأيمان، باب من أعتق شركًا له في عبد، برقم (1668).

[14]- أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس وحكم الإمام فيه، برقم (3142)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، برقم (1751).

[15]- أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس وحكم الإمام فيه، برقم (3141)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، برقم (1752).

[16]- قال الألباني في السلسلة الضعيفة (3/73)، برقم (1012): "لا أعلم له أصلا".

[17]- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب طواف الوداع، برقم (1755)، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، برقم (1328).

[18]- أخرجه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، برقم (6922).

[19]- أخرجه الترمذي، بلفظ: (حد الساحر ضربة بالسيف)، أبواب الحدود عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حد الساحر، برقم (1460)، والحاكم في المستدرك، برقم (8073)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد وإن كان الشيخان تركا حديث إسماعيل بن مسلم فإنه غريب صحيح وله شاهد صحيح على شرطهما جميعا في ضد هذا"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (1446)، وفي ضعيف الجامع، برقم (2699).

[20]- انظر الحديث في صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله -تعالى-: وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله [التوبة: 60]، برقم (1468)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها برقم (983).

[21]- أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، برقم (1575)، وأحمد في المسند، برقم (20041)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وحسن إسناده الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1407).

[22]- انظر: القصة في البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة، برقم (6073).

مواد ذات صلة