الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(121) دعاء الجلسة بين السجدتين" رب اغفر لي رب اغفر لي "
تاريخ النشر: ٠٢ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 1322
مرات الإستماع: 1607

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعدُ: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

في هذه الليلة نشرع في الحديث عمَّا يُقال من الذكر بين السَّجدتين، وما ذكره المؤلفُ إنما هو جزءٌ من حديثٍ طويلٍ جاء عن حُذيفة بن اليمان ، يصف ما رأى من صلاة رسول الله -عليه الصَّلاة والسلام-.

وهذه الصَّلاة التي وصفها هي من صلاة الليل، وجاء في بعض رواياته: أنَّ ذلك كان قيام الليل، وفي رمضان[1].

فهو يقول بأنَّه رأى النبيَّ ﷺ يُصلي من الليل، فكان يقول: الله أكبر -ثلاثًا- ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع، فكان ركوعُه نحوًا من قيامه، وكان يقول في ركوعِه: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسَه من الركوع، فكان قيامُه نحوًا من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجودُه نحوًا من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسَه من السُّجود -وهنا الشَّاهد-، وكان يقعد فيما بين السَّجدتين نحوًا من سجوده، وكان يقول: ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي، فصلَّى أربع ركعاتٍ، فقرأ فيهنَّ: البقرة وآل عمران والنِّساء والمائدة أو الأنعام. شكَّ شُعبة، يعني: شعبة بن الحجاج، أحد رواة الحديث. هذا الحديثُ أخرجه أبو داود[2]، وابن ماجه[3]، وغيرهما.

وهذا الحديث تكلّم فيه أهلُ العلم من جهة الصحّة والثُّبوت؛ وذلك أنَّ الذي يرويه عن حُذيفة في بعض طُرقه عن رجلٍ من بني عبس، وحُذيفة من بني عبس، كما هو معلومٌ.

وفي بعض رواياته: عن ابن أخي حُذيفة، وفي بعضها: عن ابن عمٍّ لحُذيفة، فمَن هذا الرَّاوي المبهَم؟!

فبعض أهل العلم ضعَّف الحديثَ لأجل ذلك، وبعضهم صحَّحه باعتبار أنَّه ترجح عنده أنَّ هذا الرَّاوي معروفٌ، كما قال بعضُ أهل العلم: هو صلة بن زُفَر.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال: "فإن صحَّ ظنُّ شُعبة بأنَّ الرجل المبهم هو صلة بن زفر فهو صحيحٌ"[4].

وبعض أهل العلم جزم بصحّته، مثل: الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[5]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[6].

هنا يقول حُذيفة : إنَّه رأى رسولَ الله ﷺ يُصلي من الليل. وفي لفظٍ عند أحمد: "أتيتُ النبيَّ ﷺ في ليلةٍ من رمضان، فقام يُصلي، فلمَّا كبَّر قال"[7]، وفي لفظٍ: "فلمَّا دخل في الصَّلاة قال"[8]، وهنا في هذا اللَّفظ الذي بين أيدينا يقول: "رأيتُ النبيَّ ﷺ"، أو "رأى النبيّ ﷺ يُصلي من الليل، فكان يقول: الله أكبر -ثلاثًا- ذو الملكوت والجبروت والكِبرياء والعظمة.

فظاهر هذا اللَّفظ يحتمل أنَّه قال ذلك بعد تكبيرة الإحرام، قال: الله أكبر ثلاثًا، ويحتمل أنَّه قال ذلك اكتفاءً به عن تكبيرة الإحرام.

لكن هذه الألفاظ للحديث، يقول: "فقام يُصلي، فلمَّا كبَّر قال"، فدلَّ على أنَّ ذلك بعد التَّكبير، مع أنَّه ليس بنصٍّ قاطعٍ، فيحتمل أنَّ ذلك يكون تفسيرًا لهذا التَّكبير الذي قاله.

وفي اللَّفظ الآخر: "فلمَّا دخل في الصَّلاة قال"، هذا أوضح أنَّه قال بعدما دخل في الصَّلاة، وإنما يكون الدخولُ في الصَّلاة بتكبيرة الإحرام، لكن هذه الألفاظ عند الإمام أحمد -رحمه الله- ليس فيها أنَّه كبَّر ثلاثًا، وإنما كبَّر قال: الله أكبر، وعرفنا معنى "الله أكبر"، أي: أكبر من كلِّ شيءٍ، فهو أكبر وأعظم وأجلّ من كل كبيرٍ، أكبر من كل غنيٍّ، ومن كل عليمٍ، ومن كل شيءٍ، فذلك على الإطلاق.

وقوله هنا: ذو الملكوت عرفنا معناه، وقلنا بأنَّ هذا يدل على المبالغة، يعني: صاحب الملك، وقد مضى الكلامُ على هذا في حديث عوف بن مالك الأشجعي فيما كان يقوله ﷺ في صلاة الليل في ركوعه وسُجوده يُردد: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكِبرياء والعظمة[9]، وفسَّرنا هذه الألفاظ جميعًا، وكذلك الجبروت، وقلنا: إنَّ لفظ "الجبر والجبَّار" من أسمائه -تبارك وتعالى-، فإنَّه يدل على القهر، كما يدلّ على العلو، كما يدلّ أيضًا على معنًى آخر من جبر الكسير، فهو الذي يُقوِّي وينصر الضَّعيف، ويُجبر القلوب المنكسرة؛ ولهذا نقول: اللهم اجبر كسرنا، وارحم ضعفنا. فهذا من معاني الجبَّار، وهذا كلّه صحيحٌ.

وذكرنا في شرح حديث عوف بن مالك: أنَّ المناسبَ هنا ما يتَّصل بمعنى القهر والعلو؛ لأنَّه ذكره مع الملكوت والكِبرياء والعظمة.

والكِبرياء والعظمة مضى الكلامُ عليهما، وعرفنا أنَّ الكبرياء والعظمة صفتان ثابتتان لله -تبارك وتعالى-، وأنَّ الكِبرياء غير العظمة، فنحن نُثبت ذلك لله ، ويدلّ على الفرق الحديثُ المشهور: الكِبرياء ردائي، والعظمة إزاري[10]، خلافًا لما قاله بعضُ أهل العلم من أنَّهما بمعنًى واحدٍ، وكأنَّه قد التبس ذلك من جهة أنَّ الكِبرياء مُلازمةٌ للعظمة، فإنَّ العظمةَ لا شكَّ أنها ترتبط بالكبرياء، فالكبرياء إنما يكون للعظيم، والتَّعاظم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتَّكبر، وأن الله -تبارك وتعالى- هو المتكبر، وأنَّ هذا من أسمائه -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، وأنَّ ذلك يختصّ به، يعني: لا يصلح الكبرُ لغير الله ، فالله هو الذي تكبّر وترفّع عن كل عيبٍ ونقصٍ، وعن مُشابهة المخلوقين، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكرناها.

وهنا قوله: "ثم استفتح" يحتمل أنَّه استفتح بدُعاء الاستفتاح، أو استفتح بالقراءة، هذا هو الظَّاهر، لكنَّه ذكر هنا البقرة، فلم يذكر الفاتحة، فكأنَّه طوى ذلك؛ لأنَّه معلومٌ؛ لأنَّ الفاتحةَ ما تُترك: لا في الفريضة، ولا في النَّافلة؛ فإنَّها ركنٌ في الصَّلاة، وما كان النبيُّ ﷺ يترك قراءتها.

فهنا يحتمل أنَّه بدأ النبيُّ ﷺ بالقراءة من غير ذكر استفتاحٍ، وأنَّه اكتفى بهذا، وأنَّه بمنزلة أدعية الاستفتاح، أو أنَّه منها، قاله في أول صلاته قبل القراءة.

ويحتمل أنَّه جمع ذلك جميعًا، يعني: قال دعاء الاستفتاح، وقرأ الفاتحة، ثم شرع بالسُّورة، فقوله: "استفتح" يحتمل، فلو قيل: إنَّه اكتفى بذلك عن الاستفتاح، ولعلَّ هذا مما يُقال في الاستفتاح من الصيغ الواردة، قاله في صلاة الليل، وكذلك الفاتحة ترك ذكرها لأنَّها معلومة، فيكون قد استفتح بالقراءة، فيكون في الكلام اختصارٌ، ترك ما هو معلومٌ لدى السَّامعين.

"فقرأ البقرة" ظاهره أنَّه قرأ البقرةَ كاملةً في الركعة الأولى في هذا الحديث.

"ثم ركع، فكان ركوعه" يعني: مقدار وطول الركوع "نحوًا من قيامه"، يعني: قريبًا من قيامه، يعني: حينما قرأ سورةَ البقرة.

وفي لفظٍ عند أحمد: "فركع مثلما كان قائمًا"[11]، وهكذا في جميع المواضع يقول: مثلما كان قائمًا، في السُّجود، وفي الجلسة بين السَّجدتين، وما إلى ذلك: "مثلما كان قائمًا".

وهذه اللَّفظة يُحتاج إليها في تفسير هذا اللَّفظ المتكرر هنا في هذا الحديث، حينما قال: "فكان ركوعُه نحوًا من قيامه"، ثم بعد ذلك قال: "ثم رفع رأسَه من الركوع، فكان قيامُه نحوًا من ركوعه"، ثم هكذا في قوله: "ثم سجد، فكان سجودُه نحوًا من قيامه، ثم رفع رأسَه من السُّجود"، يعني: مثل هذا هل المقصود به القيام الأول الذي قرأ فيه سورةَ البقرة؟

هذا هو الظَّاهر، بدليل هذا اللَّفظ الآخر عند الإمام أحمد: "مثلما كان قائمًا"[12] في جميع المواضع، وفي جميع حالاته في الصَّلاة، يقول بعدها: "مثلما كان قائمًا"، يعني: مقدار السُّجود، ومقدار الجلسة بين السَّجدتين، وما إلى ذلك.

وهذا يحتمل أمرين:

يحتمل أنَّه جلس مدةً طويلةً بقدر سورة البقرة، وسورة البقرة معلومٌ أنها تُقرأ بالقراءة التي هي من قبيل الحدر من غير إسراعٍ بنحو ساعة إلا عشرًا، وإذا أسرع ربما تكون في ساعةٍ إلا ربعًا، أو ساعة إلا ثلثًا، بحسب إسراعه، إذا أسرع كثيرًا، لكن بالحدر من غير إسراعٍ كثيرٍ في ساعةٍ إلا عشرًا.

فهنا يقول: "فكان ركوعُه نحوًا من قيامه" قريبًا من قيامه.

ويحتمل معنًى آخر: وهو أنَّ ذلك ليس المقصودُ به أنَّه بقي في الركوع بقدر القيام، وإنما ركع ركوعًا طويلاً يتَّسق ويتَّفق ويُناسِب القيام الطَّويل، وإن كان دونه، يعني: أنه أطال في الركوع كما أطال في القيام، لكن ليس بمقداره، وإنما بحيث كانت الصلاةُ فيها اعتدالٌ، لا يُطيل القيام فقط وركوعه وسجوده يكونان في حالٍ من القصر، كأن يقول مثلاً: "سبحان ربي العظيم" ثلاثًا، ويكتفي بهذا، لا، وإنما يتناسب مع هذا القيام الطَّويل، وإن كان دونه.

فهذان قولان معروفان لأهل العلم.

"وكان يقول" يعني: في ركوعه، سبحان ربي العظيم، وفي لفظٍ: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، هذا الركوع الطَّويل ليس المقصودُ أنَّه قال: سبحان ربي العظيم مرتين، وإنما كان يُردد ذلك، يُكرره في هذا الركوع الطَّويل، وعرفنا أنَّ التَّسبيحَ معناه: التَّنزيه، وعرفنا معنى العظيم.

"ثم رفع رأسَه من الركوع، فكان قيامُه" يعني: من الركوع لما اعتدل "نحوًا" يعني: قريبًا "من ركوعه"، هذا واضحٌ على هذا اللَّفظ، لكن على اللَّفظ الآخر كلّ ذلك يقول فيه: "من قيامه".

"ويقول" يعني: بعدما قال: سمع الله لمن حمده، كما تدلّ على ذلك رواية عند الإمام أحمد، فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، هذا عند الإمام أحمد[13].

هنا: لربي الحمد، الواقعة واحدة، والذي يظهر أنَّ هذا من تصرُّف الرواة، فلو بقينا على ما هو ثابتٌ في الأحاديث الأخرى: ربنا لك الحمد لكان هذا مُرجِّحًا لهذه اللَّفظة، واللَّفظة التي عندنا هنا يقول: لربي الحمد.

"ثم سجد، فكان سجودُه نحوًا من قيامه" يحتمل هنا القيام للقراءة، ويحتمل أنَّه القيام من الركوع للاعتدال، وهذا الذي رجَّحه الحافظُ ابن حجر[14]، لكن الرِّواية الأخرى التي ذكرتُ لكم تدلّ على أنَّ إرجاع ذلك للقيام أنَّه القيام الأول، وأنَّ توحيد مرجع الضَّمائر أولى من تفريقها.

ثم يقول: "فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسَه من السجود، وكان يقعد فيما بين السَّجدتين نحوًا من سجوده"، يعني: سجوده الأول، وعلى اللَّفظ الآخر في الرِّواية الأخرى قال: "من قيامه".

"يقول: سبحان ربي الأعلى" عرفنا معنى ذلك، وأنَّ العلو ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-: علو الذَّات، وعلو القدر، وعلو القهر. فكل ذلك ثابتٌ له -تبارك وتعالى-، فهو فوق خلقه، مُستوٍ على عرشه، وله أيضًا علو القدر والمنزلة، وله علو القهر: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، فهو أعلى في ذاته، وفي أسمائه، وفي أفعاله.

"وكان يقول -يعني في جلوسه- هذا بين السَّجدتين"، وهذا موضع الشَّاهد: ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي، هنا كرره مرتين، هل معنى ذلك أنَّه قال مرتين؟

الذي يظهر أنَّ ذلك يدل على التَّكثير، فهذا الجلوس الطَّويل "نحوًا من قيامه" يدلّ على أنَّه كان يُكرر ذلك، والإنسان في الجلسة بين السَّجدتين يُكرر القول: "ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي".

قال: "فصلَّى أربع ركعاتٍ، قرأ فيهنَّ -أي في الركعات الأربع-: البقرة وآل عمران والنِّساء والمائدة أو الأنعام"، شكَّ شُعبة.

فهذا ما يتعلق بهذا الحديث، والله تعالى أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. "مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر" للمروزي (ص181).
  2. أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الركوع والسُّجود، باب ما يقول الرجلُ في ركوعه وسجوده، برقم (874)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصَّلاة والسُّنة فيها، باب ما يقول بين السَّجدتين، برقم (897)، وصححه الألباني. وهو بنحوه في مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772).
  4. "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/62).
  5. في "صحيح سنن ابن ماجه" (1/30)، وفي "صفة الصلاة"، و"الإرواء" (333)، و"صحيح أبي داود" (828).
  6. في تعليقه على "مسند أحمد" ط. الرسالة (38/275).
  7. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23399)، وقال محققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
  8. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23399)، وقال محققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
  9. أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الركوع والسُّجود، باب ما يقول الرجلُ في ركوعه وسجوده، برقم (873)، وصححه الألباني.
  10. أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، باب ما جاء في الكِبر، برقم (4090)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب البراءة من الكِبر والتواضع، برقم (4174)، وصححه الألباني.
  11. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23399)، وقال محققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
  12. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23399)، وقال محققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
  13. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23399)، وقال محققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
  14. نقله عنه في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/909).

مواد ذات صلة