الأحد 06 / جمادى الآخرة / 1446 - 08 / ديسمبر 2024
حديث «ما من عبد مسلم يصلى لله تعالى..» إلى «بين كل أذانين صلاة..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فمضى الكلام في الليلة الماضية عن حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف[1]، رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، وفيه رجل مختلف في توثيقه.

وقلتُ في التعليق على هذا الحديث: لا أعلم حديثًا صحيحًا صريحًا في فضل الصف الأيمن، ويبدو أنه حصل سبق لسان، فقلت: لا أعلم حديث صحيحًا صريحًا في فضل الصف الأول كذا؟ نبهني أحد الإخوة، لكن كان السياق واضحًا وهو أن الكلام على يمين الصف، لم يلتبس على أحد؛ ولذلك ذكرت حديث البراء -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، فسمعته يقول: رب قني عذابك، يوم تبعث عبادك، أو تجمع عبادك[2]، رواه مسلم، هذا حديث البراء يذكر فيه أنهم كانوا يحبون أن يكونوا عن يمينه؛ لأنه يستقبلهم بوجهه، فهذا ليس بصريح في فضل الصف الأيمن، لكن العمومات تدل على فضل التيامن والتيمن، وما أشبه ذلك.

وأما الأحاديث مثل الحديث السابق، حديث عائشة: يصلون على ميامن الصفوف فإنه لا يصح، ولعل الكلام يكون واضحًا.

وكذلك حديث البراء هنا مثلاً قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه"، فالنبي ﷺ ذكرتُ أنه كان ينصرف عن يمينه، وأيضًا ينصرف عن شماله، ولكن يمكن أن يُحمل حديث البراء على الغالب؛ لأنه جاء من حديث أنس لما سُئل عن انصراف النبي ﷺ عن يمينه أو عن شماله؟ ذكر أن غالب ما ينصرف -عليه الصلاة والسلام- عن يمينه، فهذا الغالب، فأكثر ما كان ينصرف ﷺ عن يمينه، فمثل هذا يكون محمولاً -والله أعلم- على الغالب.

وثبت أنه من حديث قبيصة عن أبيه: "أنه ﷺ كان ينصرف عن يمينه، وعن شماله -عليه الصلاة والسلام-"[3].

ثم ذكر "باب فضل السنن الراتبة مع الفرائض، وبيان أقلها وأكملها وما بينهما".

والمقصود بالسنن الرواتب يعني: التي كان يداوم عليها النبي ﷺ حتى صارت راتبة، يعني: ما كان النبي ﷺ يتركها في الحضر، كان يلازم فعلها وأداءها، بل إنه ﷺ كان يقضيها إذا فاتته، وبهذا تكون راتبة، والصلوات غير الفرائض لها مسميات عند أهل العلم، ومن أكثر أهل العلم تصنيفًا لها وتنويعًا لأسمائها فيما يحضرني الآن المالكية -رحمهم الله-، فجعلوا منها: رواتب، ورغائب، وما هو نفل، ومنها ما هو فضيلة، ومنها ما هو سنة مطلقة، وهكذا، فالرغيبة عندهم ما رغب فيه النبي ﷺ مثلاً، رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا[4]، هذه رغيبة.

رَغِيْبَةٌ مَا فِيْهِ رَغَّبَ النَّبِيْ بِذِكْرِ مَا فِيْهِ مِنَ الأَجْرِ جُبِيْ[5]

وهكذا كل هذه الأنواع يذكرون لها تصنيفًا معينًا، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الأمر في ذلك هو هذا التنوع، فإن كان ذلك للتقسيم وللتعليم، وما أشبه ذلك فلا إشكال، وإلا يقال -والله أعلم-: بأن الصلاة إما أن تكون فريضة، وإما أن تكون غير فريضة، وغير الفريضة منه ما داوم عليه ﷺ، وما تركه مما يرتبط بالفرائض، مما يكون قبلها أو بعدها، فهذا هو الذي يقال له: السنن الرواتب، ومنه ما يكون منفصلاً عنها غير مرتبط بالفريضة يعني: قبلها أو بعدها، مثل الوتر، كان النبي ﷺ يداوم على الوتر، حتى في السفر، لكن هل يقال: الوتر من السنن الرواتب؟

الجواب: لا، وإن قال بعض أهل العلم كالأحناف: بأنه واجب[6]، والإمام أحمد -رحمه الله- قال عن من ترك الوتر دائمًا: إنه رجل سوء[7]، فدل ذلك على أن الوتر عندهم آكد، حتى من السنة الراتبة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: بأن مثل هذه الصلاة التي تكون قبل العصر أربع رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- وما شابه ذلك أنه لا يداوم عليها حتى تصير بصفة كأنها راتبة[8]، يعني: يصلي قبل العصر أربع، لكنه لا يداوم عليها، كما يداوم على السنة الراتبة، يكتفي أحيانًا بركعتين، وأحيانًا قد يصلي أربعًا، وقد يترك ذلك، لكنه يكثر منها لما ورد فيها من الترغيب والأجر، فهذا هو المقصود بالرواتب السنن الراتبة.

وذكر حديث أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وبعضهم يقول: هي هند بنت أبي سفيان، ويبدو -والله تعالى أعلم- أنّ أبا سفيان له ابنتان، كل واحدة منهما تكنى بأم حبيبة، هكذا يبدو -والله تعالى أعلم-، وهذا تجدون الكلام فيه عند قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً[الممتحنة:7] وعند الكلام أيضًا على حديث أبي سفيان حينما أسلم، وسأل النبي ﷺ أمورًا، منها قال: "عندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها"[9]، وهذا عام الفتح، والنبي ﷺ تزوج أم حبيبة، هذه التي قال عنها هنا: إنها رملة لما توفي زوجها وهو عبيد الله بن جحش في الحبشة؛ لما توفي في السنة السادسة، فزوجه النجاشي النبي ﷺ، وأمهرها النجاشي، قيل: أربعة آلاف درهم، وقيل: أربعة آلاف دينار، وبعثها إلى النبي ﷺ مع شرحبيل بن حسنة.

فالشاهد: أن هذا في السنة السادسة، يعني: أن النبي ﷺ تزوجها، وجيء إليه بها في المدينة، قبل الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة، ففي مدة، فكيف يقول أبو سفيان: عندي أجمل نساء العرب أم حبيبة أزوجك إياها؟!

وكلام أهل العلم في هذا كثير، وبعضهم قال: هذه أخرى، كلاهما تكنى بأم حبيبة، طيب كيف يجمع بين أختين؟ قالوا: حديث عهد بالإسلام، ما علم، وبعضهم قال: إنه أراد أن يكون ذلك عن طريقه وبقوله وصريح عبارته؛ لأنها زُوجّت النبي ﷺ دون الرجوع إليه؛ لأنه كان مشركًا، فهو قصدها، وأراد أن يكون الأمر يجري عن طريقه، وإن كان النكاح قد وقع قبل ذلك، وبعضهم يقول غير هذا على كل حال.

الشاهد: أنها أم حبيبة -رضي الله عنها- رملة بنت أبي سفيان؛ لما توفي زوجها، بُعثت للنبي ﷺ، وكانت في الثلاثينات -رضي الله عنها-، فتزوجها -عليه الصلاة والسلام-.

قالت: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة، أو إلا بُني له بيتٌ في الجنة[10]، رواه مسلم.

ما من عبد مسلم وهذا يشمل الذكر والأنثى.

يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة لاحظ تطوعًا غير الفريضة فلو أنه قال: يصلي لله ثنتي عشرة ركعة، لقيل: الناس يصلون الفريضة سبع عشرة ركعة، فهذا تحقق وزيادة، لكنه قال: تطوعًا غير فريضة ففهم منه بعض أهل العلم: أن ذلك يشمل السنن الرواتب، وغير السنن الرواتب، كما هو ظاهر، بمعنى أنه يأتي بهذا العدد؛ ولهذا يقال: من حصل له تفريط في السنة الراتبة، وفاته شيء من السنة الراتبة من غير تفريط، فإنه يقضي، أما إن ترك ذلك تساهلاً وتفريطًا، فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا وجه للقضاء، أما القضاء إذا كان الإنسان قد نام من غير تفريط، أو أنه شُغل عنها لأمر عارض، أو نحو ذلك، ما وجد مندوحة، فقد قضى النبي ﷺ سنة الظهر بعد العصر، وقال النبي ﷺ: من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها[11]، فهذا يشمل الفريضة والنافلة؛ ولهذا كانت صلاة الليل تقضى في اليوم الآخر إلى ما قبل الزوال، تقضى شفعًا.

فهنا قوله ﷺ: ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة لو أن أحدًا صلى ثنتي عشرة ركعة غير الرواتب، أو كان في سفر، والمسافر لا يصلي إلا سنة الفجر من الرواتب، فما كان النبي ﷺ يدعها لا في السفر ولا في حضر، فكيف يحقق مثل هذا إذا أراد؟

يقال: يمكن أن يصلي تطوعًا، فمن تساهل وفرط، لم يصل بعض الرواتب، نقول: يمكن أن تكمل بالنوافل، فتكون قد حققت هذا المعنى، بناء على ظاهر هذه الرواية: تطوعًا غير الفريضة لكن إذا جئنا نركب عليه السنن الرواتب، ماذا يقال؟ السنن الرواتب اثنا عشر ركعة، يُبنى له قصر في الجنة، يصلي قبل الفجر ركعتين، وقبل الظهر أربع، وبعد الظهر اثنتين، كم صار؟ ثمان، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، كم صار المجموع؟ اثنا عشر، ومن عدها عشرًا جعل قبل الظهر ركعتين، وبعد الظهر ركعتين.

يقول هنا: وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صليتُ مع رسول الله ﷺ ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد الجمعة، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء"[12]، متفق عليه.

فهذه تكون مع الفجر عشرًا؛ لأنه لم يذكر الفجر؛ لأن ذلك الوقت كان يصليها في بيته ﷺ بطبيعة الحال، ولم يكن يدخل على النبي ﷺ- في هذا الوقت، فهذا الذي شاهده، فهذه تكون عشرًا، وورد قبل الظهر أربعًا في الأحاديث الأخرى، فيقال: يؤخذ بالأكثر والأكمل.

وكذلك أيضًا ورد أربعًا بعد الظهر، وبعض أهل العلم يرى أن ذلك زيادة على الرواتب.

وهنا أيضًا حديث عبد الله بن عمر قال: "وركعتين بعد الجمعة" وجاء ما يوضحه أيضًا: "إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعًا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين"[13]، وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن صلاة النافلة في البيت أفضل وأرجح من صلاتها في المسجد.

الحديث الأخير: وهو حديث عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله ﷺ: بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة قال في الثالثة: لمن شاء[14]، متفق عليه.

والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة، ويمكن أن يقال: إنه غلّب الأذان؛ لأنه الأشرف والآكد، ويمكن أن يقال: إن الإقامة أيضًا هي أذان، وكرر النبي ﷺ ذلك ثلاثًا تأكيدًا، وهذا يدل على تأكيد هاتين الركعتين، بين كل أذانين.

طيب هل يدخل فيها أذان الجمعة الأول والأذان الثاني؛ لعموم قوله: بين كل أذانين صلاة؟ مثل ما يحصل في المسجد الحرام والمسجد النبوي؟ يؤذن ثم يجلس بضع دقائق، ثم يؤذن الأذان الذي يكون عند صعود الخطيب المنبر؟

الذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك ليس مقصودًا، وهذا الأذان الأول لم يكن على عهد النبي ﷺ، وليس بداخل في عموم قوله: بين كل أذانين صلاة فإنه قصد بين الأذان والإقامة، والله تعالى أعلم.

وقوله ﷺ: لمن شاء دل على أن ذلك ليس للوجوب.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر برقم (676) وقال الألباني: "حسن بلفظ على الذين يصلون الصفوف".
  2. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب يمين الإمام (709).
  3. أخرجه أحمد ط الرسالة في تتمة مسند الأَنصار حَدِيثُ هُلْبٍ الطَّائِيِّ (21968) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
  4. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر (430) وأبو داود في باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، باب الصلاة قبل العصر (1271) وحسنه الألباني.
  5. متن مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود في أصول الفقه (ص: 3).
  6. النتف في الفتاوى للسعدي (1/47).
  7. مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح (1/266).
  8. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/257).
  9. زاد المعاد في هدي خير العباد (1/106).
  10. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن (728).
  11. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، ولا يعيد إلا تلك الصلاة برقم (597) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها برقم (684).
  12. أخرجه البخاري في كتاب التهجد باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى (2/57) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن (729).
  13. أخرجه الترمذي ت شاكر (2/401) من قول إسحاق.
  14. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء (627) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بين كل أذانين صلاة (838).

مواد ذات صلة