الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث "كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.." إلى "طرق النبي عليًا وفاطمة ليلا.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب فضل قيام الليل" مضى الكلام على الآيات التي صدَّر بها المصنف -رحمه الله- هذا الباب، ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي ﷺ يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا[1].

"كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه"، كان يقوم مثل: هذا التركيب يدل على المداومة، أن ذلك من عادته، يعني ما حصل مرة في العمر أنه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، لا، كان ذلك ديدنه، وعادته، ودأبه ﷺ، "يقوم من الليل" يدل على أنه لا يقوم الليل كله كما سبق، إنما إحياء جميع الليل إنما هو في العشر الأخير من رمضان، لكن ذلك القدر يدل على أنه كان يقوم ليلاً طويلاً، يقوم قيامًا طويلاً، وأنه يطيل القيام بصلاته ﷺ، بمعنى أنه لا يصلي صلاة خفيفة، يكثر فيها من الركوع والسجود، وما إلى ذلك بل يطيل القيام؛ لأنه لا يحصل مثل هذا حتى تتفطر قدماه، أو تتورم قدماه -عليه الصلاة والسلام- إلا من طول القيام، ولهذا جاء في الحديث لما صلى ﷺ فافتتح البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، كل هذا قرأه في ركعة واحدة[2]، فمثل هذا البقرة وآل عمران والنساء كم يبلغ من الأجزاء في ركعة واحدة.

إذن ماذا قرأ في الركعة الثانية، وماذا قرأ في التسليمة الثانية في ركعتيها؟ وماذا قرأ في صلاته تلك الليلة بأجمعها، فهذه صلاته ﷺ، ولا شك وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله أن أفضل الصلاة طول القنوت، يعني طول القيام، فهذا أفضل من كثرة الركوع والسجود، يعني من يصلي مثلاً إحدى عشرة ركعة طويلة أفضل ممن يصلي إحدى وعشرين ركعة قصيرة، نعم هذه فيها ركوع وسجود كثير، ولكن تلك فيها قيام طويل وهذا لا شك أنه أفضل، والمقصود أيضًا بقيام الليل، أو من المقاصد الأصلية فيه قراءة القرآن والتدبر، فإن ذلك يكون متحققًا فيه أبلغ وأكثر من غيره، وهذا ليس لكل أحد لا يحصل هذا لمن يقوم وهو يغالب النوم؛ لأنه يسهر في الليل، وإنما يكون لمن تهيأ له، ومن اعتاد النوم مبكرًا فإنه يقوم بعد ذلك في غاية النشاط بل يجد أن نفسه قد حصلت مطلوبها من النوم فهو في حال من النشاط والاستيقاظ، يعني وقت قيام الليل ليس وقت إرهاق، ويكون الذهن مكدودًا، هذا غير صحيح، وإنما يكون بعد راحة ونوم فيكون التعب قد ذهب فيستأنف بداية جديدة في غاية النشاط يبدأ مع القرآن في صلاة، فيحصل له من التدبر والوعي والتعقل.

ففي المدارس في العالم يضعون الحصة الأولى والثانية أهم المقررات التي تحتاج إلى تركيز وتمعن، الأشياء التي يرون أنها أجدر للتقديم لما تستدعي من الأذهان الحاضرة، وكلما مضى وقت على الإنسان فيه يومه وليلته كلما صار الذهن مكدودًا، كلاً فآخر النهار يبقى فيه متعلقات اليوم، فيكون الذهن مشوشًا مثل المرآة المشوشة الملطخة أما بداية اليوم الجديد فهي مرآة مصقولة بهذه الطريقة من كان له بصر بهذه الأمور وأعين عليها فإنه يحصل مطلوبه بإذن الله -تبارك وتعالى-، ثم انظر هذا السؤال حينما وجه إليه ﷺ: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!

الإنسان قد يصلي ليلاً طويلاً، وقد يصوم ويكثر من الصيام، ويتعبد بأنواع التعبدات من أجل أن الله يتجاوز عنه وأن يغفر له، وأن يرحمه بهذه الأعمال فيتذكر تقصيره فيعمل بما أمر الله به: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

 هذا حال عامة أهل الإيمان، ولكن النبي ﷺ قد غفر الله له ذنوبه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!، وهذا الشكر من الجهتين:

من جهة النعم التي حباه الله بها، نعمة البدن نعمة الصحة نعمة الوحي والنبوة وفضله على العالمين.

وكذلك أيضًا نعمة المغفرة، حينما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر هذه نعمة عظيمة جدًّا، تحتاج إلى شكر، وهذا الشكر ينبغي أن يكون عظيمًا كثيرًا، ولهذا كان النبي ﷺ يكثر من ذكر ربه -تبارك وتعالى- بلسانه، ويكثر من التعبد له بجوارحه، لكنه يراعى في ذلك كله كما سن لنا، وعلمنا -عليه الصلاة والسلام- يراعى فيه ما يكون أدعى للدوام والاستمرار والإقبال على العبادة برغبة.

 والمقصود بذلك أن الإنسان لا يندفع في البداية ولا عهد له بقيام الليل، ويقول: أريد أن أقوم قيامًا طويلاً، فإنه قد لا يستطيع الاستمرار وقد يشق عليه ذلك مشقة كبيرة غير محتملة، بمعنى أنه يذهب من الغد إلى العمل، أو إلى دراسته وهو في حال من الإعياء والإرهاق، يغالب النوم فما يفتأ بعد أيام، أو أسابيع، أو شهور حتى ينقطع، وهذا مذموم، وسيأتي حديث: لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل[3].

فهذا أمر غير محمود، وإنما كما قال الشاطبي -رحمه الله- في مقاصد الشريعة من كتابه "الموافقات"[4] إذ ذكر من مقاصد الشارع أن المداومة على العبادة، أن تستمر: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل[5]، وأيضًا أن يقوم العبد بالعبادة بنفس مقبلة عليها محبة لها في نشاط، أما أن يكلف نفسه من العمل ما يشق عليه مشقة تصيره إلى حال من كراهية العبادة، يعني كما يعبر العامة اليوم يقول: أزمل، الذي يذهب مثلاً من الساعة الأولى يوم الجمعة وظروفه وحياته وأعماله وواجباته وما إلى ذلك لا يستطيع أن يقوم بهذا، فيذهب من الساعة الأولى فيصير يوم الجمعة بالنسبة إليه كأنه شبح؛ لأنه سيلاقي تكليفًا ثقيلاً بالنسبة إليه، فيكره هذه العبادة، وهذا خطأ.

إنسان كما قلت مشغول سائر اليوم ويسهر الليل، ثم بعد ذلك يحمل نفسه حملاً على صلاة طويلة من الليل فيكون الليل بالنسبة إليه في غاية المشقة والتعب، فيقوم للعبادة متثاقلاً، وهذا خلاف مقصود الشارع، قد يعزم الإنسان على صيام يوم وإفطار يوم، فيكون ذلك لربما ثقيلاً عليه بسبب عمله ودراسته أو نحو ذلك ثم بعد ذلك يصير الصيام بغيضًا إلى نفسه يكره الصوم، لذلك بعض الناس لا يحب الصوم يحمل همه فهذا خلاف مقصود الشارع، وإنما يبدأ بداية متدرجة، ثم يرتقي شيئًا فشيئًا حتى ترتاض النفس على العمل، ثم يصل إلى هذه المرحلة، كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، لكن إذا عذر الإنسان نفسه حينما يكون مشغولاً مثلاً من عمل يذهب من الساعة السابعة أو السادسة أو السادسة والنصف إلى الساعة الرابعة مثلاً، وقال: أنا لا أستطيع أن أقوم ليلاً طويلاً، فهذا الذي تقاعد وجلس ما عذره؟ كان يعتذر بترك كثير من الصيام والقيام أن ظروف العمل لا تسمح، طيب والأن؟

فهي النفس إذا اعتادت الركون إلى الدعة والراحة مالت إلى ذلك وانجذبت له، وأعرضت عما فيه رفعتها وحياتها الحقيقية، وصلاحها، المقصود أن النبي ﷺ كان بهذه المثابة، فنحن نستحضر هذا المعنى، الشكر لله -تبارك وتعالى-.

وأيضًا نحن بحاجة إلى تكفير ذنوبنا وسيئاتنا، والله أرشدنا إلى هذا نحن بحاجة إلى رفعة الدرجات، ولهذا في قوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] قلنا هذا قيام الليل صار كأنه مرقاة إلى هذه المرتبة العالية التي لا تصلح إلا له -عليه الصلاة والسلام- فمن أراد المراتب العالية في الجنة أيضًا فهذا طريق إليها، وهو قيام الليل.

من أراد القيام بأعباء الدعوة والنهوض بها والصبر على أذى الناس، من أراد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إصلاح المجتمع، هذا يحتاج إلى قيام الليل: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6].

ذكر له ذلك بعد أن أخبره أنه سينزل عليه هذا القول الذي وصفه بأنه ثقيل، فيه أعباء، فيه تكاليف، له متطلبات، فالصبر على أعباء الحياة، الصبر على المصائب، الصبر على المشقات، هذا كيف يستطيع الإنسان أن يتجاوزه؟

هؤلاء الذين يصيبهم الاكتئاب القلق تتعثر نفوسهم، يتساقطون، ينهارون، ما الطريق لتحمل هذا؟

الطريق هو: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ[البقرة:45]، استعانوا بها على القيام بوظائف العبودية، وأيضًا على مشاق الحياة الدنيا، وآلامها، ومصاعبها، ولهذا: "كان ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"[6]، فأصحاب صلاة الليل أصحاب قيام الليل يكون عندهم من التماسك والصبر والجلد ما لا يكون عند غيرهم، وهم أولى الناس بسلوك الطريق، والاستمرار فيه، والثبات عليه، فلا يتساقطون، أو ينحرفون يمنة أو يسرة

ثم ذكر بعد ذلك حديث -علي -، أن النبي ﷺ طرقه وفاطمة ليلاً فقال: ألا تصليان؟[7]، متفق عليه.

"طرقه" يعني أتاه ليلاً وهو زوج ابنته، وفي هذا تعاهد الرجل لأهله ومن يحتف به وأمرهم بقيام الليل، والقيام بوظائف العبودية، فقال ﷺ بأسلوب العرض: ألا تصليان؟، لم تأخذه الشفقة ﷺ على ابنته وزوجها أن يدعهما يخلدان إلى النوم والراحة، فمن الناس من يترك أولاده لا يقومون لصلاة الفجر رحمة بهم، والواقع أنها رحمة في غير محلها، ولو أردنا أن نقرب هذه الرحمة؛ ليتبين عوارها، فأقول: هذا مثل رحمة ذلك الوالد الذي لا يوقظ أولاده للدراسة خلهم ينامون إلى الظهر، منذ صغرهم ونعومة أظفارهم خلهم ينامون إلى الظهر، حرام أن نقومهم في البرد في الشتاء من الساعة السادسة، يستيقظ، أو كذا، يذهب إلى المدرسة خله ينام حرام، النتيجة ما هو هذا الحرام بنظره وزعمه أن هؤلاء الأولاد يتجاوزهم أقرانهم، وزملاؤهم، فيتخرجون من الجامعات إلى آخره، وهؤلاء ينامون إلى الظهر حرام خلهم يرتاحون، هل برهم وأحسن إليهم وأحسن تربيتهم؟

وإذا صار هؤلاء كبارًا هل سيرضون هذا الفعل وإلا سيقولون ضيعتنا؟!

سيقولون: ضيعتنا من أجل هذه الرحمة التي في غير محلها، أعظم من ذلك هذا الذي لا يوقظهم لصلاة الفجر ويقول: حرام خلهم يرتاحون، خلهم ينامون، فلا يصلونها إلا نقرًا إذا أراد الواحد منهم أن يذهب إلى المدرسة، وقد ينساها في بعض الأيام، فهذا خطأ وانحراف، هذا النبي ﷺ يوقظ عليًا وفاطمة لصلاة الليل، وهذا يدل على أهمية قيام الليل، حيث قدم ﷺ إلى علي وفاطمة في ساعة نوم ليس في وقت زيارة ولا دخول على الناس ومع ذلك جاءهم في هذه الساعة قال: ألا تصليان؟، بأسلوب العرض اللطيف، وفي الحديث أن عليًا قال: "إن أرواحنا بيد الله متى شاء أن يبعثها بعثها، فخرج النبي ﷺ كالمغضب وهو يلطخ فخذه ويقول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا[8].

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- الليل حتى ترم قدماه، برقم (1130)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2819).
  2. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772).
  3. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، برقم (1152).
  4. انظر: الموافقات (2/404).
  5. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2818).
  6. أخرجه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب وقت قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- من الليل، برقم (1319)، وأحمد في المسند، برقم (23299)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4703).
  7. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي -صلى الله عليه وسلم- على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1127)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (775).
  8. تمام الحديث المتقدم.

مواد ذات صلة