الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
(83) دعاء الخروج من المسجد
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2670
مرات الإستماع: 2228

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ذكرنا في الليلة الماضية -أيّها الأحبّة- الذكر الذي يُقال عند دخول المسجد، ومنه ما ذكر المؤلفُ: بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبوابَ رحمتك[1].

وقلنا: إنَّ ذكر التَّسمية في أوَّله لا يصحّ، وأمَّا السلام على النبي ﷺ فإنَّه ثابتٌ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-[2]، وأيضًا من حديث أبي حُميدٍ، أو أبي أُسيدٍ -رضي الله عنهما-، وأمَّا سؤال المغفرة فإنَّه لا يثبت[3].

وأمَّا قوله: "اللهم افتح لي أبوابَ رحمتك" فإنَّ هذا ثابتٌ في "صحيح مسلم" من حديث أبي حُميدٍ، أو أبي أُسيدٍ، أو هما معًا[4]. هذا ما ذكرناه في الأمس.

وفيما يتعلّق بالصَّلاة على النبي ﷺ التي ذكرها هنا فإنَّها صحَّت من فعل رسول الله ﷺ، صحَّت من فعله، وأما السَّلام فقد صحَّ الأمرُ به عن النبي ﷺ، أمر أن يُسلّم الداخلُ إلى المسجد، أن يُسلّم على النبي ﷺ ويقول: اللهم افتح لي أبوابَ رحمتك[5].

وهنا في الخروج دعاء الخروج من المسجد، قال: يبدأ برِجْله اليُسرى، وسبق أنَّه عند الدُّخول يبدأ برِجْله اليُمني[6]، وقلنا: إنَّ اليُمنى يُبدأ بها تكريمًا فيما كان يجمل فيه ذلك، فلمَّا كان الدُّخول إلى المسجد أكرم من الخروج منه قُدِّمت اليُمنى، ولما كان الخروجُ من المسجد، فإنَّ ذلك يُقدَّم فيه اليُسرى؛ لأنَّه يخرج من خير البقاع، وأحبِّ البقاع إلى الله -تبارك وتعالى-، فلا شكَّ أنَّ خارج المسجد لا يكون بمنزلة المسجد، وشتان بين داخلٍ إلى المسجد، وخارجٍ منه؛ ولذلك ذكرنا في الأمس مسألة التَّقديم: هل يُقدِّم غيرَه إكرامًا له؛ ليخرج قبله إذا كان عن يمينه مثلاً، أو قصد تكريمه بذلك، ولو كان عن شماله؟

قلنا: هذا ليس من التَّكريم في حقيقة الأمر؛ لأنَّ تأخّر الإنسان في المسجد خيرٌ له، وأفضل، وأبرك، فكيف يُقدِّمه؟!

فهنا إذًا يُقدِّم الرِّجْلَ اليُسرى، وهذا يعني: أنَّ الإنسانَ لا يفرح بسرعة الخروج من المسجد، كأنَّه بعد الصَّلاة على ملَّةٍ، لا يستطيع أن يُصبر نفسَه حتى يقول الأذكار، أو أن يستمع إلى شيءٍ ينفعه، أو أن يقرأ القرآن، أو نحو ذلك، مُسارعة إلى الخروج! والازدحام على الأبواب! هذا لا يجمل، ولا يحسُن.

وإنما الذي يجمل هو التَّزاحم على الأبواب حينما يُؤذِّن المؤذِّنُ، أو قبل الأذان المبادرة إلى المساجد، ويكفي في الإشارة إلى ذلك أننا نُقدِّم اليُمنى عند الدخول، ونُقدِّم اليُسرى عند الخروج، فهذا لونٌ من التَّفاضل يُشير إليه هذا التَّصرف.

فالمؤمن ينبغي أن يتعقّل في مثل هذه المعاني، والأعمال، والسُّنن الواردة، فإذا بدأ برِجْله اليُسرى يقول: بسم الله[7]، يعني: عند الخروج، هكذا ذكر البسملة هنا، وهي كما قيل في الدُّخول: لا تثبت. وذكر الصَّلاة على النبي ﷺ والسَّلام، وقلنا: الصَّلاة ثابتةٌ من فعله، والسَّلام ثابتٌ من قوله؛ حيث أمر به.

بل إنَّ بعض الظَّاهرية -كابن حزم- قال بوجوب ذلك، يعني: أن يُسلِّم على النبي ﷺ، أو أن يقول هذا الذكر؛ يعني: أن يُسلِّم على رسول الله ﷺ، ولكن عامَّة أهل العلم، كما صرَّح بذلك أيضًا النَّووي -رحمه الله-[8] قال: إنَّ ذلك يدل على استحباب هذا الذكر، فيقول: بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله[9].

الصَّلاة على النبي ﷺ إذا كانت من العبد فإنَّها تكون بمعنى الدُّعاء، وإذا كانت من الملائكة فهي بمعنى الاستغفار، وإذا كانت من الله فهي أن يذكر عبدَه في الملأ الأعلى.

على كل حالٍ، فهو يُصلي على النبي ﷺ ويُسلِّم، والعبد مأمورٌ بهذا؛ لأنَّ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

فمن المواضع التي تتأكّد فيها الصَّلاة على النبي ﷺ عند دخول المسجد، وعند الخروج منه: الصَّلاة على النبي ﷺ مع السَّلام، فنحن مأمورون بالجمع بينهما في حقِّ النبي ﷺ، أمَّا في حقِّ غيره من الأنبياء؛ فإنَّه لو اكتُفي بالسَّلام، قيل مثلاً: إبراهيم ، موسى ، فإنَّ ذلك لا شيءَ فيه، ولو جُمِعَ فيه بين الصَّلاة والسَّلام فهذا أكمل وأفضل، فيُقال: موسى ﷺ، إبراهيم ﷺ، وهكذا الملائكة لو قيل: جبريل لكفى، فإذا ذُكِرت معه الصَّلاة فهذا أكمل، فيُقال: جبريل ﷺ، وأمَّا الصحابة فيُترضَّى عنهم، وأمَّا مَن بعدهم فيُترحَّم عليهم.

فإذا ﷺ يقول: اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم اعصمني من الشَّيطان الرَّجيم[10].

قوله: اللهم إني أسألك من فضلك[11]، نحن عرفنا أنَّه عند الدخول إلى المسجد يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وقلنا: إنَّ هذا في "صحيح مسلم"[12]، ويُقابله أيضًا إذا خرج أنَّه يقول: اللهم إني أسألك من فضلك.

هذه المقابلة أشرتُ إليها إشارةً في الليلة الماضية، وقلتُ: سيأتي إيضاحه في الليلة الآتية، فهذا موضعه:

عند الدخول يسأل الله أن يفتح له أبوابَ الرحمة، وعند الخروج يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- من فضله، فما وجه هذه المغايرة: اللهم إني أسألك من فضلك، أو نحو ذلك من العبارات المقاربة مما صحَّ عن رسول الله ﷺ؟

حينما يقول: اللهم إني أسألك من فضلك يعني: من إحسانك، وبرِّك، وجودك، وزيادة الإنعام، فخصَّ الرحمة بالدُّخول، والفضل بالخروج.

قلنا: لأنَّ الداخلَ مُقْبِلٌ على ما يُقرِّبه إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذه أحبّ البقاع إلى الله، وهو موطنٌ للعبادة؛ فناسب ذكر الرحمة، فإذا خرج فهو يبتغي من فضل الله ، فيسأل ربَّه ذلك.

والرَّحمة في كتاب الله -تبارك وتعالى- تُطلَق ويُراد بها الفضل، والنِّعمة، والإحسان الدُّنيوي والأُخروي، إذا سأل الرحمة: ارحمني، وأما رحمة الله التي هي صفته، فهي صفةٌ ثابتةٌ على ما يليق بجلاله وعظمته، ومن آثارها المتعدية: الإحسان، والإفضال، والإنعام، وما إلى ذلك. ولكن ليس هذا هو معناها، وإنما ذلك من لوازمها، فرحمة الله -تبارك وتعالى- التي هي إفضاله على عباده كما قال : وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، فهذه الأمور التي هي نِعَمٌ على العبد في دنياه وفي آخرته من ألطاف الله .

وأمَّا الفضل فإذا قُوبِل بالرحمة، فحمله بعضُ أهل العلم على النِّعم الدّنيوية؛ يعني: كأنَّهم نظروا إلى المقابلة بينهما، فجعلوا الرحمةَ في الأمور الأُخروية، والفضلَ في الأمور الدّنيوية، وإلا فالواقع أنَّ الجميعَ من رحمة الله ، والله يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].

فنحن نتقلَّب في ألطافه، وجوده، وبرِّه، ورحمته، لكن هذا الذي في الدنيا نطلبه ونحو ذلك فُسِّر به هذا السّؤال عند الخروج، والله يقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

وفُسِّر هذا في الحجِّ بالتِّجارة فيه، وطلب الكسب والمال مع الحجِّ، فالدَّاخل إلى المسجد طالبٌ للآخرة، والرحمة من أخصِّ مطالبه، والخارج من المسجد طالبٌ للمعاش والفضل الدّنيوي، فهو يسأل ذلك، وهذا مُوافقٌ لقوله -تبارك وتعالى- في الجمعة: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، "ابتغوا من فضل الله" هنا ما المقصود به؟

فُسِّر بالتِّجارة؛ لأنَّه منع منها قبل ذلك: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، فهنا لا يجوز له أن يشتغل بشيءٍ عنها، بمعنى النِّداء الذي يكون بين يدي الخطيب، قال: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، خصَّ البيع؛ لأنَّ أكثر الاشتغال به، وهو أعلق بالقلب، وإلا فالإجارة وسائر العقود وما كان دون ذلك من ألوان الاشتغال فهو داخلٌ فيه، ولا حاجةَ للقياس، فإنَّ هذا يُفْهَم من إيماء النَّص وإشارته كما هو معلومٌ.

فهنا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ طلب الرزق الحلال، مع أنَّ بعضَ أهل العلم فسّر ذلك بأمورٍ أخرى: كطلب العلم، وبعضهم فسَّره بصلة الرحم، ونحو ذلك من الأعمال الصَّالحة، وهو منقولٌ عن جماعةٍ من السَّلف[13].

وعلى كل حالٍ، هنا في الخروج يسأل الله من فضله، وذلك أنَّ العبدَ لا غنَى له بحالٍ من الأحوال عن ربِّه، ومالكه، وخالقه ، فإذا دخل المسجد فإنَّه مُقبلٌ على أعمالٍ ومُزاولاتٍ يطلب بها رحمةَ الله ، فيسأل الله الرحمة: أن يفتح له أبوابَ الرحمة؛ لأنَّها مظنّة في هذه المواطن، والأعمال والصَّلاة والبقاء في أحبِّ البقاع إلى الله هذا مظنّة لتنزل الرحمة؛ أن يُفتح عليه من رحمة الله -تبارك وتعالى-، فيسأل ذلك، فإذا خرج فهو أيضًا لا يستغني عن ربِّه طرفة عينٍ؛ فيسأل الله من فضله، فهذا الفضل يدخل فيه طلب الرزق، والكسب الحلال، ويدخل فيه أنواع الفضل مما يتَّصل بالعلم؛ لأنَّه رزقٌ، وهو من فضل الله ، وما أشبه ذلك من المعاني والأمور التي يطلبها العبادُ حينما ينتشرون ويخرجون من بيوت الله -تبارك وتعالى-.

فالمقصود -أيُّها الأحبّة- أنَّ العبدَ مُرتبطٌ بربِّه كلّ الارتباط؛ إذا دخل المسجد صار عنده هذا الاستحضار، ونطق لسانُه به، وإذا كان خارجًا أو يهمّ بالخروج فإنَّه أيضًا يلتجئ إلى ربِّه -تبارك وتعالى- ويسأله من فضله.

هنا في زيادةٍ في هذا الحديث قال: اللهم اعصمني من الشَّيطان الرَّجيم[14]، هذه اللَّفظة ليست في "صحيح مسلم"، وإنما عند غيره بألفاظٍ مُتقاربةٍ: اعصمني من الشَّيطان الرَّجيم، وفي أخرى: أجرني من الشَّيطان الرَّجيم[15]، أعذني من الشَّيطان الرجيم[16].

فهذه ألفاظ مُتقاربة ليست في "صحيح مسلم" هذه الجملة، ولكنَّها ثابتةٌ صحيحةٌ على كل حالٍ، ومثل هذا يقوله المسلمُ مع ما ذُكِر: اللهم اعصمنيأعذني، أجرني من الشَّيطان الرجيم؛ لأنَّه مظنّةٌ لذلك في بيعه، في شرائه، في مُعاملاته، وهو يسأل الله من فضله، فهو يتعرَّض لأمورٍ كثيرةٍ.

هذا، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.

  1. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب فيما يقوله الرجلُ عند دخوله المسجد، برقم (465)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
  2. أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب المساجد والجماعات، باب الدُّعاء عند دخول المسجد، برقم (773)، وقال مُحققه في "الزوائد": إسناده صحيحٌ، ورجاله ثقات.
  3. أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب المساجد والجماعات، باب الدُّعاء عند دخول المسجد، برقم (771)، وضعَّفه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (731).
  4. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم (713).
  5. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم (713).
  6. انظر: "صحيح البخاري" (1/93).
  7. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب فيما يقوله الرجلُ عند دخوله المسجد، برقم (465)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
  8. انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/179).
  9. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب فيما يقوله الرجلُ عند دخوله المسجد، برقم (465)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
  10. أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب المساجد والجماعات، باب الدُّعاء عند دخول المسجد، برقم (773)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
  11. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم (713).
  12. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم (713).
  13. انظر: تفسير الثعلبي (9/317).
  14. أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب المساجد والجماعات، باب الدُّعاء عند دخول المسجد، برقم (773)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
  15. أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه": كتاب الصَّلاة، باب السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسألة الله فتح أبواب الرحمة عند دخول المسجد، برقم (452)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (2045).
  16. أخرجه ابن السُّني في "عمل اليوم والليلة": باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم (86).

مواد ذات صلة