الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث «أي العمل أفضل..» إلى «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب وجوب الحج وفضله"، مضى ما يتصل بالأدلة الدالة على وجوب الحج، ثم ساق المصنف -رحمه الله- الأحاديث الدالة على فضله.

 فمن ذلك ما جاء عن أبي هريرة قال: سئل النبي ﷺ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور[1]، متفق عليه.

والمبرور: هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية؛ فيما فسره به المصنف -رحمه الله-، أعني الإمام النووي.

وقد مضى الكلام على هذا الحديث في باب سابق، ولكن الشاهد منه قوله: حج مبرور، أي: أنه أفضل الأعمال، يأتي ثالثًا بعد الإيمان بالله والجهاد في سبيله.

ومعرفة تفاضل الأعمال من المطالب الشرعية، سواء كان ذلك في باب الفرائض، أو كان في باب النوافل، فالحج إذا كان حج الفريضة فإنه أفضل من حج النافلة، وأثقل في الميزان؛ لأنه كما جاء عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه[2]، فمن كان حجه فريضة، فهذا أفضل من حج النافلة، وحج النافلة يصدق أيضًا عليه هذا أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد، لكن ليس كل حج يكون بهذه المثابة، وإنما قال النبي ﷺ: حج مبرور، فمبرور هذه إذا فسر ذلك بما ذكره النووي -رحمه الله-: "لا يرتكب صاحبه فيه معصية"[3]، فهنا يحتاج الإنسان إلى أن يقف مع نفسه، وينظر في عمله وحجه، وتصرفاته في هذا الحج.

فالنظر إلى الحرام معصية، وكثير من الناس يتساهل في هذا في الحج، وفي غير الحج، فينظر إلى النساء في المشاعر وفي غير المشاعر، بل في الطواف، والحرم، والمسعى، وهذا معصية قد يبتدئ حجه بها.

ينضاف إلى ذلك أمور أخرى تتصل باللسان، فكثير من الناس لا يضبط لسانه، فيصدر منه ما كان من قبيل السخرية، والتندر أحيانًا، إما بجهالات تصدر من بعض الحجاج، وتصرفات لربما كانت تجلب لدى بعض الناس السخرية والاستهزاء، والإنسان لا ينبغي له أن يسخر وأن يستهزئ بالآخرين، وإنما ينبغي عليه أن يعلم الجاهل، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.

وموسى لما قال له قومه من بني إسرائيل: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا[البقرة:67]، لما أمرهم أن يذبحوا بقرة في قصة القتيل: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67].

فدل ذلك على أن الذي يستهزئ بالناس أنه من الجاهلين، وأن هذه الصفة إنما تصدر ممن كان بهذه المثابة، وأما العاقل فإنه لا يسخر من الناس، وإنما يطلب العافية من الله ، ولو شاء الله كان مثلهم.

فهنا قال: حج مبرور، فما يصدر من اللسان: الكذب، الغيبة، أمور أخرى من أنواع المعاصي المتعلقة باللسان.

أضف إلى ذلك أمور أخرى لا يحق له أن يفعلها، مثل:

الجدال الذي هو من قبيل المِراء، مع رفقائه، مع أصحابه.

المخاصمات التي تحصل أحيانًا على أتفه الأسباب، يكون الإنسان في حالة من الغضب، فربما يخاصم في الطواف، ويخاصم في السعي، ويخاصم في المشاعر، يخاصم عند الجمرة جمرة العقبة أو غير جمرة العقبة، فيضرب هذا، ويدفع هذا، ويشتم هذا، ويشتم أهل هذا البلد، أو ذاك البلد، أو تلك القبيلة، ويتكلم بكلام لا يليق أن يصدر من الحاج.

وإذا نظرت إلى حال بعضهم حتى في الطواف، تذكره تقول يا أخي اتق الله أنت محرم، عليك الإحرام وهذه التصرفات تصدر منك؟! وأعظم من ذلك إذا صدر منه ما كان من قبيل الشرك بالله .

امرأة تطوف بالبيت وتقول: يا جيلاني يا جيلاني، فيقول لها رجل كبير مسن هو زوجها لربما، يقول لها قولي: يا الله، هنا الرئاسي، يعني رئيس الآلهة، قولي: يا الله، هنا الرئاسي، يعني قولي: يا جيلاني في بلدك هناك، هذا زوجها يعلمها العلم الصح، يعني تدعين غير الله هناك، إذا جئتي هنا عند الكعبة عند الرئاسي، الرئاسي يعني الله، قولي يا الله فقط لا تقولين: يا جيلاني.

هذا الآن جاهل يعلم جاهلة بهذه الطريقة، نسأل الله العافية، وغير هؤلاء ممن يدعو الحسين، وما إلى ذلك، أن يشفيه، وأن يعافيه، وأن يوفقه، إلى آخره مما تسمعه من الشرك الأكبر المخرج من الملة، يقال عند الكعبة، فأين هذا، أين هذا من الحج المبرور، الذي لا يخالطه إثم، لا يخالطه معصية، فإذا خالطه الشرك بالله ، فهنا هذه نجاسة لا تغسلها مياه البحار، نسأل الله العافية.

فمثل هذه الأمور، ومثل هذه الأشياء التي تصدر من الإنسان أحيانًا في حال الغضب، لما يكون الزحام، تجد الناس في سِرة طويلة في أول قدومهم، يقفون عند نقاط للتفتيش وما إلى ذلك ربما ساعات، فينفرط صبر بعض الناس، ويخاصم، ويخاصم أهل السيارات الأخرى وهم حجاج مثله، ولربما شتمهم، ولربما آذاهم، ولربما صدمهم، ولربما ضربهم، فترى أمورًا تصدر من أناس أحيانًا تتذكر معها أهمية التربية وأثر التربية على نفوس المتربين.

ترى نفوس أبعد ما تكون عن التربية الصحيحة وعن الأوصاف اللائقة بالمؤمن فضلاً عن الحاج الذي قد لبس ثياب الإحرام، وقد جاء لتوه ليؤدي النسك، مخاصمة في المطار، ومخاصمة في السيارة، ومخاصمة في الحرم وفي كل مكان، هذا يتذكر الإنسان دائمًا حج مبرور ما فيه معصية، فيغض البصر، ويمسك اللسان.

ولهذا كان بعض السلف إذا أحرم كأنه الحية الصماء[4]، لا يتكلم أبدًا، يحفظ لسانه، ثم يكون في حال من الخضوع؛ لأن المعاصي المتعلقة بالقلوب أحيانًا تكون أشد من المعاصي المتعلقة بالجوارح.

لما يحج ويرى نفسه أنه جاء بما لم يأت به أحد، حاج، ويريد أن يقال له: حاج، بأن يراه الناس، ويقف في كل مكان وتلتقط له الصور: بالإحرام، وبدون إحرام، وعند الكعبة، وعند جبل الرحمة، وعند الصفا، وعند المروة، هو جالس يستعرض أو مخبت لله ، السلف كان بعضهم يجثو على ركبتيه، بغاية الانكسار والتواضع والذل لله .

فهذا هو اللائق بالمؤمن، ما هي بسياحة ولا نزهة، ولهذا شرع الحج إلى هذا البيت في وادٍ ليس فيه زرع، ومن حِكم ذلك -والله تعالى أعلم-، أن لا يكون هناك أي مجال لحظوظ النفس، يذهب يرى مناظر، ما في مناظر، ما في إلا جبال سوداء تصليها الشمس، لا يوجد هناك مناظر جذابة، مناظر سياحية، أماكن سياحية، لا يوجد شلالات، ولا خضرة، ولا أنهار، ولا ولا غير ذلك، فهي أماكن قاحلة تمامًا لا حظ للنفس في هذا، فيتجرد الإنسان تكون نيته طيبة، نيته صالحة، وإلا فكم إنسان يطوف المناسك، ويتعب ويشقى، ويرجع لربما بسخط الله ، فهنا قال: حج مبرور.

ثم ذكر حديثًا آخر: حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه[5]، متفق عليه.

الرفث: يقال لكل كلام قبيح، ولكن فسر هنا بالجماع، ومقدماته، وما يقال مما يتصل بذلك في حضرة النساء، الحديث عن الجماع ونحوه بحضرة النساء، فهذا كله من الرفث.

والله يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ [البقرة:197]، فهذا نفي مضمن معنى النهي لا يرفث، لا رفث، والذي يرى مقاطع سيئة بالجوال، لا زال مصطحبها معه، هذا من الرفث حينما تنظر العين إلى هذه الأشياء الفاحشة، نسأل الله العافية، يحمل معه جهاز الآيباد وهو في المشاعر، هذا حينما يفتح على مواقع سيئة، ويشاهدها وهو في الحج هذا من الرفث.

من حج فلم يرفث ولم يفسق والفسق هو المعصية، وكما قلت لكم يدخل في هذا ما يتصل باللسان والعين والجوارح، كل هذا من الفسق والناس يغفلون عن هذا كثيرًا، يحج الإنسان وينسى نفسه، يتكلم، وينظر، ويتصرف تصرفات، فيحتاج الإنسان إلى من ينبهه على هذا من البداية، يقال: عليك أن تحج حجة صحيحة، حجة سليمة، حتى يتحقق لك هذا.

ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وظاهره: كيوم ولدته أمه أنه حتى الكبائر تغفر، هذا هو الظاهر في الحج، يعني: الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر[6]، محمول عند عامة أهل العلم على الصغائر، الكبائر لابد لها من توبة.

واختلفوا في الحج، والذي يظهر من ظواهر هذه الأحاديث: رجع كيوم ولدته أمه معناه أنه ليس عليه ذنوب، فتغفر له حتى الكبائر، وهذا أمر عظيم جدًا، إلا حقوق الخلق، المظالم التي للناس، فهذه لا بد أن يُرجعها إليهم، يتحلل منهم ويتخلص من ذلك.

ثم ذكر الحديث الذي بعده حديث أبي هريرة ، قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[7]، متفق عليه.

لم يقل: الحج إلى الحج، أولاً: لأن الحج يجب مرة واحدة.

وأيضًا أن الحج ليس كالعمرة: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، وأما الحج فهناك قال: رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهنا قال: ليس له جزاء إلا الجنة معناه أن جزاءه عظيم جدًا.

بعض أهل العلم يقول: معنى ذلك أنه يوفق في حجه هذا الصحيح المبرور، يوفق بعد ذلك ويلهم العمل الصالح، ويسدد، فيكون سبيله ومصيره إلى الجنة.

ولا ضرورة لهذا هو الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ماذا يكون بعد هذا الحج؟

هنا يحتاج الإنسان أن يتحفظ، لهذا نقول للناس عادة: الإنسان كل ما يقوله ويخاطب به نفسه قبل ذلك، بأن الإنسان إذا حج، إن كان حجه مبرورًا وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، فمن الخطأ ومن الجهالة، ومن عدم شكر نعمة الله عليه أن يرجع من جديد إلى الذنوب والمعاصي فيسود صحيفته: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60].

وإذا كان هذا الإنسان لم يقبل حجه، فهل يليق به بعد أن حُرم وطُرد وأُبعد، بسبب ذنوبه وفساد قلبه لربما أو حاله، أو ما هو عليه أن يرجع إلى سبب الحرمان، فيستمر في الذنوب؟

هذا ينبغي له أن يبكي على نفسه، وأن يتوب، وأن يراجع، وأن يحاسب نفسه محاسبة دقيقة على هذا الحرمان، والإنسان لا يدري هل هو من المقبولين، أو ليس كذلك، ففي كل حال من الحالتين عليه أن يرجع بوجه جديد، قُبِل فذاك فضل الله عليه فينبغي أن يشكر، ولا يسود الصحيفة، وإن لم يقبل فينبغي عليه أن يتوب، لعل الله أن يقبله، وأن يتداركه برحمته، والله المستعان.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، برقم (26)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (83).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).
  3. رياض الصالحين ت الفحل (ص: 357).
  4. هو شريح كما في مجموع الفتاوى (26/ 108).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1521)، ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، برقم (1350).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، برقم (233).
  7. أخرجه البخاري، أبواب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، برقم (1773)، ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة برقم (1349).

مواد ذات صلة