الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث "مر النبي على نفر ينتضلون" إلى «من أنفق نفقة في سبيل الله..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد ما جاء عن سلمة بن الأكوع قال: مر النبي ﷺ على نفر ينتضلون فقال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا[1] رواه البخاري.

سلمة بن الأكوع: سلمة بن عمرو بن الأكوع -رضي الله عنه- وأرضاه، يقول: مر النبي ﷺ على نفر ينتضلون، نحن عرفنا أن النفر يقال لما بين الثلاثة إلى التسعة، ينتضلون يعني: يرمون بالسهام للسبق، يعني يتسابقون أيهم يصيب، أو كم عدد الإصابة التي تحصل لكل واحد منهم، وهؤلاء جاء في بعض رواياته أنهم من بني سليم، القبيلة المعروفة، أو من أسلم، فقال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا إسماعيل -عليه السلام- هو أبونا، بعض أهل العلم يقول: هو أب للعرب جميعًا، ويحتجون بمثل هذا الحديث، مع أنه لا دلالة فيه على ذلك، فإن النبي ﷺ قال لهؤلاء: ارموا بني إسماعيل، وقال لأم المؤمنين لما كان عندها جارية من السبي، من تميم قال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل[2] فشهد لهم النبي ﷺ أعني تميم القبيلة المعروفة أنهم من ولد إسماعيل، فالعرب ليسوا جمعيًا من ولد إسماعيل، وهذه مسألة فيها خلاف معروف بين أهل النسب.

على كل حال قال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا إسماعيل -عليه السلام- كان يجيد الرمي، وكان يمتهن الصيد، يخرج للصيد، ولهذا لما جاء إبراهيم في المرة الأولى والثانية، ذكرت امرأة إسماعيل أنه يخرج يبتغي لهم، يعني يطلب الكسب والرزق لهم بالصيد، ونحوه، فهذا إذا كان الأب عرف بالرمي، وإصابة الرمي، والحذق فيه؛ فإن ذلك ينبغي أن يكون صفة راسخة في ذريته، فإذا حصل فيهم ذلك فلا غرابة؛ لأنه من يشابه أباه فما ظلم، وكثير من أهل العلم كانوا بهذه المثابة، فالشافعي -رحمه الله- كان يقول عن نفسه: بأنه يرمي عشرة، فيصيب تسعة[3]، والإمام البخاري -رحمه الله- كان لا يخطئ له رمي[4].

ثم ذكر حديث عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من رمى بسهم في سبيل الله؛ فهو له عدل محررة[5] رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

من رمى بسهم في سبيل الله السهم في سبيل الله، يعني في الجهاد، فهو له عدل محررة، عدل بعضهم يقول: العَدل والعِدل سواء، أي ما يعادل، ما يعدل، وبعضهم يقول: بالكسر عِدل إذا كان من جنس الشيء، تقول هذا عِدل هذا، يعني هذا الشعير عِدل هذا، الشعير مثلاً، وإذا كان من غير جنسه يقال: عَدل -بالفتح- تقول: هذا الشعير عَدل هذه الدراهم، يعني يعادلها، وبعضهم أهل العلم يقول: بالعكس، عكس هذا؛ لأن العِدل بالكسر فيما كان من غير جنسه، والعَدل فيما كان من جنسه.

وعلى كل حال، النبي ﷺ يقول: من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محررة يعني رقبة، يعني كأنه أعتق، حرر رقبة، فجاء التأنيث هنا، وليس المقصود محررة يعني مملوكة أمة مؤنثة لا، وإنما محررة يعني رقبة معتقة، محررة، كأنه أعتق رقبة، وقد جاء ذلك مصرحًا به في بعض الأحاديث: كأنما أعتق رقبة[6] وفي بعضها التقييد بأشرف الرقاب: رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام[7] وهذا أعلى ما يمكن من العتق، وأشرف ما يكون منه.

وعلى كل حال، هنا قال: عدل محررة فهو له عدل محررة، وهذا الرمي لم يقيد هنا قال: من رمى بسهم في سبيل الله رمى بسهم، يعني سواء أصاب العدو أو أخطأ، ولو قصر عنه يعني سقط دونه، فإنه يكون له هذا الأجر، يكون له عدل رقبة.

وقد جاء ذلك مصرحًا به في بعض الروايات: أصاب أو أخطأ[8] هكذا في بعض الروايات يكون له عدل رقبة، وهذا فضل عظيم جدًا، ثم يلاحظ أيضًا أنه هنا قال: من رمى فيصدق ذلك على الواحدة من الرمي، فإذا كثر ذلك منه تكرر هذا الثواب والأجر، يعني كل رمية تعدل رقبة، وهل يختص هذا بالنبال والسهام من رمى بسهم؟

الجواب: لا، فإن وسائل الرمي اليوم أبلغ وأقوى وأشد أثرًا من الرمي بالسهام، فمن قاتل في سبيل الله، ورمى الأعداء بالوسائل الحديثة بالمدافع، أو رماهم بالصواريخ، أو بغير ذلك من الوسائل القتالية التي تعتمد الرمي، فإنه يتحقق له هذا الوعد، يعني في كل مرة يطلق عدل رقبة، أصاب أو أخطأ، فإذا كان المقاتل لربما في الموقف الواحد لربما يرمي أكثر من خمسمائة رصاصة مثلاً، في الموقف الواحد، في المقام الواحد، فكم يأتيه من الرقاب؟ خمسمائة رقبة أصاب أو أخطأ.

فهذا من فضل الله على عباده أن يسر لهم أسباب الأجور بهذه الأعمال اليسيرة، ومقصود الشارع بذلك -كما هو معلوم- هو إعزاز الإسلام ونصره ورفع رايته؛ لأنه إنما يكون نصره بهذا وأمثاله، فإن ذلك أعني الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- هو أعلى الأعمال التي يمكن أن تزاول ويحصل بها نصر الدين وإعزازه، ولهذا سبق في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فالنبي ﷺ فسر القوة كما سبق بالرمي[9] من أجل ماذا؟ قال: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فيحصل لهم الخوف، ولا يجترئون على أهل الإيمان.

وقد سبق في بعض المناسبات الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أن ابن عباس قال: هو ترك الإنفاق في سبيل الله[10]؛ في الجهاد يعني، أنفقوا في سبيل الله في الجهاد، لأنكم إن امتنعتم عن ذلك وتركتموه قوي العدو واجترأ عليكم، ثم بعد ذلك تمكن منكم، وأخذ ما بأيديكم، فالشاهد هنا أن النبي ﷺ ذكر هذا فقال: من رمى بسهم في سبيل الله؛ فهو له عدل محررة.

ثم ذكر حديث أبي يحيى خريم بن فاتك قال: قال رسول الله ﷺ: من أنفق نفقة في سبيل الله؛ كتب له سبعمائة ضعف هذا في النفقة، وذاك في الرمي، وقد صح عن النبي ﷺ أيضًا أنه من رمى سهمًا في سبيل الله؛ كان له نورًا يوم القيامة[11] وكل هذه الأحاديث صحيحة ثابتة كان له نورًا يوم القيامة.

وهنا حديث خريم بن فاتك يقول: قال رسول الله ﷺ: من أنفق نفقة في سبيل الله نفقة كتب له سبعمائة ضعف يعني سواء كانت هذه قليلة أو كثيرة سبعمائة، كما سبق في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ومضى الحديث أيضًا الرجل الذي جاء بناقة مخطومة إلى النبي ﷺ فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة[12].

ولهذا يستدل بعض أهل العلم بهذا، وأمثاله على أن قوله -تبارك وتعالى-: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية التي في البقرة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ قال: هذا مخصص بالنفقة في الجهاد، وأن قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ المقصود به: الجهاد، وليس مطلق النفقة، قالوا: أما عموم النفقات فإن الحسنة بعشر أمثالها، كما قال الله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا قالوا هذا جزاء الأعمال الصالحة تضاعف، ولهذا قال النبي ﷺ: لا أقول ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف لما ذكر الحديث، وذكر فيه، قال: من قرأ حرفًا من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[13] فألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فمثل هذا من أهل العلم من يقول: إنه في الأعمال الصالحة، الحسنة بعشر، وأما في الجهاد فسبعمائة، فحملوا هذا المثل في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قالوا: سبيل الله هو الجهاد.

وقد مضى الكلام على هذا في رمضان في الكلام على الأمثال في القرآن، وذكرت أقوال أهل العلم هناك، وأن ذلك -والله تعالى أعلم- يضاعف فوق العشر، وأنه لا يختص بالجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- وأن فضل الله على عباده واسع.

فنسأل الله ألا يحرمنا فضله، وأن يرزقنا وإياكم الجنة، ويحسن لنا العاقبة في الأمور كلها، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرا من دنيانا.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب التحريض على الرمي، برقم (2899).
  2. أخرجه البخاري، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، برقم (2543)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- باب من فضائل غفار، وأسلم، وجهينة، وأشجع، ومزينة، وتميم، ودوس، وطيئ، برقم (2525).
  3. انظر: المجموع شرح المهذب، للنووي (15/179).
  4. انظر: طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي (2/226).
  5. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، برقم (1638)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3873).
  6. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (18064)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (4595).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، برقم (6404).
  8. أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب الرمي في سبيل الله، برقم (2812)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6264).
  9. انظر: صحيح مسلم (3/1522).
  10. انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (2/362).
  11. أخرجه البزار في مسنده، برقم (9312)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2555).
  12. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، برقم (1892.
  13. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ماله من الأجر، برقم (2910) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2137).

مواد ذات صلة