الأحد 09 / ربيع الآخر / 1446 - 13 / أكتوبر 2024
حديث «الشهداء خمسة..» إلى "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب بيان جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة، ويغسلون ويصلى عليهم بخلاف القتيل في حرب الكفار، لما ذكر المصنف -رحمه الله- في الباب السابق، وهو ما يتصل بفضل الجهاد في سبيل الله، وذكر عددًا من الأحاديث في الباب مما يتصل بالشهادة هنا ألحقه بهذا الباب الذي ترجمه بــ"باب بيان جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة" يعني: له حكم الشهيد في الآخرة وليس في الدنيا، قال: ويغسلون ويصلى عليهم بخلاف القتيل في حرب الكفار، يعني لا تجري عليهم أحكام الشهيد في الدنيا، فإن الشهيد في الدنيا لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لأن النبي ﷺ لم يصل على شهداء أحد، كما في البخاري[1]، على خلاف في ذلك هل يصلى على الشهيد أو لا؟

والشهداء يكفنون، ويدفنون في ثيابهم بجراحهم ودمائهم، ولا يحتاجون إلى أكفان كما يفعل بغيرهم، أما هؤلاء الذين لهم حكم الشهداء في الآخرة فإنه يفعل بهم، يتعامل معهم إذا ماتوا كما يتعامل مع سائر الموتى، ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله[2]، متفق عليه.

الشهداء خمسة هذا ليس للحصر؛ لأنه جاء في أحاديث أخرى ذكر جملة من الأنواع عدد من الأنواع في الشهداء، فالنبي ﷺ مثلاً أخبر أن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله، فهذا في أعلى مراتب الشهداء، وغير ذلك من الأحاديث كثير حتى إن بعضهم نظم ذلك وجمعه فبلغ به خمسة وعشرين نوعًا مما يقال عنه: شهيد، وإن كان عدد من هؤلاء لا يصح فيه الحديث لكن لا شك أن العدد أكثر من خمسة؛ لأن النبي ﷺ قال: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد[3]، فلم يذكرهم هنا في هذا الحديث فدل على أن ذلك ليس للحصر.

الشهداء خمسة المطعون، والمقصود بالمطعون يعني من مات بداء الطاعون، يموت صابرًا محتسبًا، والمبطون من مات بداء البطن، بعضهم قيده قال: كالاستسقاء، والإسهال.

وبعضهم ذكر نوعًا آخر، وبعضهم أطلقه، قالوا: كل من يموت موتًا مجهزًا بداء البطن، بداء في بطنه يعني فهو شهيد، فالذي يموت مثلاً بالكوليرا شهيد، والذي يموت بسبب التهاب الزائدة وتفاقم ذلك حتى يموت فإنه يكون شهيدًا، ويبقى العلل والأمراض التي قد تدوم ويطول الاعتلال بها أحيانًا كما لو أنه أصابه -عافانا الله وإياكم والمسلمين- بالسرطان مثلاً في جوفه هل يقال: إنه شهيد؟

قد يتطاول به ذلك عدة أشهر، أو عدة سنوات، ثم يموت هل يقال: هذا شهيد؟

من أهل العلم من قيده بأنه يموت إثر ذلك، يعني على أثره موتًا مجهزًا، يعني أن علته لا تتطاول به، ولا أعلم دليلاً على هذا، فالنبي ﷺ قال: والمبطون، مات بداء البطن فلماذا قُيد ما أطلقه النبي ﷺ فيقال: من مات بداء البطن فهو شهيد سواء تطاولت به علته، أو لم تتطاول، والله تعالى أعلم.

فيدخل في داء البطن الأمراض والأوجاع التي تصيب الكبد، ويدخل فيه الأوجاع التي تصيب المعدة، والأمراض التي تصيب الأمعاء، وغير ذلك.

قال: والغريق غرق في البحر، أو غرق في مسبح، أو غرق في السيل كل هؤلاء شهداء.

قال: وصاحب الهدم، يعني الذي انهدم عليه البناء، انهدم عليه بيته، وانهدم عليه سقف العمل الذي يعمل فيه، دخل في منجم يعمل فيه فسقط عليه، فهذا هدم.

 وبعض أهل العلم مثل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز[4] -رحمه الله- يلحق بهذا النوع الموتى في حوادث السيارات، يقول: "هذا مثل الهدم باعتبار أن هذه السيارة يحصل له معها مثل ما يحصل لمن وقع عليه البناء، -والله أعلم-،  وفضل الله واسع.

قال: والشهيد في سبيل الله، متفق عليه.

كأنه أخره؛ لأنه معلوم، لكن مثل هذه الأنواع حينما عد من الشهداء ربما -والله تعالى أعلم- لأن ذلك الطريقة التي مات فيها طريقة تكون فيها شيء من المشقة على النفوس، والمصيبة فيها تعظم، والله أعلم.

ثم ذكر حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله ﷺ: ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذن لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد،...[5].

قوله: من قتل في سبيل الله، يعني: في ساحة المعركة.

ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومعلوم أن سبيل الله إذا أطلق فالمقصود به الجهاد، مات في سبيل الله، بمعنى أنه لم يقتل في ساحة المعركة ولكنه مات وهو خارج للجهاد، مات بسبب الجوع، أو العطش، أو سقط من راحلته، أو وقصته دابته، يعني رمحته، أو أنه مات بسبب وهو ذاهب في الجهاد في سفر الجهاد فسقط من شاهق، أو أنه وقع عليه شيء فقتله، وقع عليه حجر فقتله، وكذلك من أصيب في أرض المعركة، ثم نقل ما مات في أرض المعركة نقل إلى مستشفى، نقل إلى المدينة نقل إلى البلد ودخل في المستشفى، ثم بعد ذلك مات في المستشفى فهذا لا يعامل معاملة شهداء الآخرة، لا يقال عنه: شهيد باعتبار الشهداء الذين قتلوا في أرض المعركة، لكنه شهيد في أحكام الآخرة، لا يقال عنه: إنه شهيد لا يعامل بأحكام الشهداء في الدنيا من كونه لا يغسل، ولا يصلى عليه، إلى آخره.

قال: ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، فلو أنه ما خرج للجهاد خرج للدعوة إلى الله مثلاً هذا في سبيل الله، هل يقال: إنه شهيد؟ يعني إذا وسعنا الإطلاق سبيل الله -تبارك وتعالى- يحتمل، والأقرب أن ذلك يكون للجهاد، ولو أنه خرج للحج والعمرة؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ أنها في سبيل الله، وقال في النساء بأنهن: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة[6]، فهذا الذي يموت وهو في سفر الحج، أو يموت وهو محرم، أو نحو ذلك هل يقال عنه: شهيد؟

يُرجى له ذلك؛ لأن ذلك في سبيل الله من مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، والطاعون علة وداء تنتشر وتعدي بإذن الله ، وتكون وباء عامة، تكون في البداية مثل: البثور، أو تشبه الدمامل، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يموت الإنسان بإذن الله -تبارك وتعالى- من مات بالطاعون، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد.

من مات في البطن يعني ممكن تكون "في" دالة على التعليل والسببية، مثل: دخلت امرأة النار في هرة[7]، يعني بسبب هرة، من مات في البطن يعني بسبب البطن.

وذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: من قتل دون ماله فهو شهيد متفق عليه.

يعني: دافع عن ماله فقتل فهو شهيد، لكن هذا مع الحديث الذي بعده، وهو حديث أبي الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من العشرة المبشرين بالجنة، ابن عم عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد[8].

قوله: قتل دون دينه، يعني طلب منه الردة والكفر فثبت فقتل فهو شهيد.

وقوله: ومن قتل دون أهله فهو شهيد، يعني وهو يدافع عن عرضه فهو شهيد، لكن استثنى العلماء من ذلك كما قال ابن المنذر[9] -رحمه الله-: كل من نحفظ عنه العلم قالوا: إنه يستثنى من ذلك السلطان، السلطان بمعنى لو أن السلطان أراده وطلبه فليس له أن يتمنع ويحمل السلاح ويقاوم، ويقول: إذا قتلت دون نفسي أو دون مالي فأنا شهيد هذا مستثنى؛ لأنه مأمور بطاعته، والنبي ﷺ قال: وإن أخذ مالك، وضرب ظهرك[10]، فليس له أن يمتنع ويحمل السلاح.

ثم ذكر حديث أبي هريرة، وختم به قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار[11]، رواه مسلم.

فقوله ﷺ: فلا تعطه مالك، وقال: قاتله، هل هذا على سبيل الوجوب؟

الجواب: لا، له أن يقول كما يقول أحد ابني آدم لما قصده أخوه بقتله فقال: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۝ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:28-29]، فهنا له أن يدع هذا، وكذلك أيضًا قوله ﷺ لما قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، هل المقصود الخلود فيها؟

إن كان مستحلاً فنعم، وإن كان ظالماً غير مستحل فإنه متوعد بالنار، لكنه لا يخلد فيها إلا الكفار، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، برقم (1343)، وبرقم (1346)، في باب من لم ير غسل الشهداء.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التهجير إلى الظهر، برقم (653)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم (1914).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، برقم (4772)، والترمذي، أبواب الديات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (1421)، والنسائي، كتاب تحريم الدم، من قاتل دون دينه، برقم (4095)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6445).
  4. على الرابط التالي: https://cutt.us/rayku.
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم (1915).
  6. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (4/ 151)، برقم (981).
  7. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق، يقتلن في الحرم، برقم (3318)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، برقم (2619).
  8. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، برقم (4772)، والترمذي، أبواب الديات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (1421)، والنسائي، كتاب تحريم الدم، من قاتل دون دينه، برقم (4095)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6445).
  9. الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: (7/248).
  10. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر، برقم (1847).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (140).

مواد ذات صلة