الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
الحديث عن آيات الباب
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فهذا كتاب العلم، والعلم يمكن أن يقرب معناه: بأنه إدراك الشيء على ما هو به، يعني: هو إدراك الشيء على حقيقته، أي إدراكًا صحيحًا، وهذا الباب عقده المصنف -رحمه الله- في الكلام على العلم الشرعي، وهو الذي جاء في فضله النصوص من الكتاب والسنة.

والعلم من حيث هو أيًا كان لا شك أنه يتفاوت، وأن العلوم النافعة شريفة، وتتفاوت في شرفها بحسب متعلقاتها، ومما يدل على شرف العلم مطلقًا -أعني العلم الذي ينفع ولو لم يكن من العلوم الشرعية- ما جاء في تفضيل آدم  فإن الله -تبارك وتعالى- قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 31] فبيّن فضله بالعلم، وهذه الأسماء هي أسماء المسميات، وأسماء كل شيء على الراجح من أقوال المفسرين، فليس ذلك يقصد به العلم الشرعي، بل أوضح من هذا، وهو أن الله -تبارك وتعالى- شرّف بالعلم الحيوان البهيم، فقال الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: 4] فحل ما تصيده هذه الجوارح من الكلاب والسباع التي تتخذ لذلك، ويجدي معها التعليم.

وكذلك الجوارح من الطير، كل ذلك إذا عُلِّم حل صيده، وإذا صاد ولم يعلم، فإن صيده لا يحل، فصار المعلم منها أشرف من غير المعلم.

وعلى كل حال لا يخفى التفاوت الذي يكون بين هذه العلوم النافعة المفيدة، فالطب مثلاً الذي يتعلق بالحيوان ليس كالطب الذي يتعلق بالإنسان، والطب المتعلق بالإنسان ما يتصل بجلده أو سنه ليس كالطب المتصل بقلبه مثلاً، وهكذا، فهذه تتفاوت، كما أن العلوم الشرعية أيضًا تتفاوت.

وأشرف العلوم ما كان متعلقًا بالله -تبارك وتعالى- وذاته وصفاته وأسمائه، وما يُعرِّف به فهذا رأس العلم، وهو العلم الذي يورث الخشية حقيقة؛ لأن العبد إذا عرف ربه معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته عظمه فخافه؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] وليس المقصود العلماء بالعلوم المادية أو التجريبية، وإنما المقصود العلوم الشرعية، ورأس ذلك -كما سبق- العلم المتصل بالله -تبارك وتعالى- فيعظمه ويخافه ويجله؛ ولهذا قالوا فيمن عصى الله -تبارك وتعالى-: بأنه جاهل مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [الأنعام: 54] فكل من عصى الله فهو جاهل، ولو عرف الله وقدره حق قدره ما اجترأ على معصيته.

ثم قال: باب فضل العلم، وكما سبق فضل العلم يعني الشرعي، قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] فهذا يدل على فضله من جهة: أن النبي ﷺ لم يؤمر بالازدياد من شيء إلا هذا، يعني العلم الشرعي، ولم يؤمر بطلب الازدياد من الدنيا والمال أو الولد أو حطام الدنيا بأنواعه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا[1]، فهو ممتثل -عليه الصلاة والسلام- أمر ربه -تبارك وتعالى-، وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] فالاستفهام مضمن معنى النفي، فهو استفهام إنكاري، يعني: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لا يستوون بماذا؟  لا يستوون بالعلم، ولا يستوون بالشرف، ولا يستوون بالدرجات عند الله -تبارك وتعالى-، ولا يستوون أيضًا في حالهم وأعمالهم؛ لأن المقصود بذلك -كما سبق- في مجلس آخر يتصل بالعمل بالعلم ذكرت حينها كلامًا للشاطبي -رحمه الله- ولغيره بأن كل ما ورد في فضل العلم وشرفه، فهو محمول على العلم الذي يحمل على العمل، أما العلم وحده دون عمل فإن أسوأ مثلين في القرآن قد ضربا لذلك:

فالأول: مثل أمة لم تعمل بعملها مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5].

والثاني: لرجل آتاه الله آياته، فلم يعمل بها، ولم يقم بما يجب، فضرب الله به المثل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 175-176] شبهه بالكلب في أسوأ حالاته، وهو أنه يخرج لسانه يلهث إذا طارده حملت عليه يلهث، وإن تركته في حاله يلهث، فهذان مثلان يصوران حال من لم يعمل بعلمه، ولم يقم بما يجب عليه، ولم يمتثل أمر الله -تبارك وتعالى- فهنا، قال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] فكل هذه النصوص المقصود بها العلم الذي يحمل على الامتثال والعمل، لا العلم الذي يحفظ فقط، ثم بعد ذلك لا ينتفع به الإنسان، نسأل الله العافية، بل يكون حجة عليه، وشاهدًا عليه، والله المستعان.

ثم قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] والأقرب -والله تعالى أعلم- في تفسيرها: أن هذا في بيان درجات أهل الإيمان في الآخرة، فالله -تبارك وتعالى- يجعل أهل الإيمان على مراتب بحسب مراتبهم في سلم العبودية، ويجعل أهل العلم على درجات عالية، يرفعهم في درجات أهل الإيمان؛ لأنهم قد شرفوا بالعلم، وقد قال النبي ﷺ في معاذ : معاذ بن جبل أمام العلماء برتوة[2] أي: يحشر متقدمًا على العلماء قبل العلماء سابقًا لهم برتوة، والرتوة هي الرمية بالسهم، فأهل الإيمان على مراتب، وأهل العلم فوقهم في هذه المراتب، والمقصود بذلك العلم الذي يكون معه العمل والامتثال، ونعوذ بالله من علم لا ينفع.

وهنا قال: قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] أخذ منه السلف كابن مسعود وغيره قالوا: العلم الخشية؛ وذلك أن هؤلاء عرفوا من صفاته وأسمائه وأفعاله ما أوجب لهم تعظيمه وإجلاله، والخوف منه، والحياء منه، فكفوا عما لا يليق، وامتثلوا أمره، فصاروا في حال من التقوى والانقياد والاستقامة على الصراط المستقيم، هؤلاء هم الذين يخشون الله، وجاء بأسلوب الحصر، إنما يخشى الله من عباده العلماء؛ ولذلك إذا ترى الناس يقولون: فلان لا يخشى الله، أو يقولون: الذي لا يخاف من الله خفه، وإن كان بعضهم يعترض على مثل هذه العبارة، لكن المقصود التقريب، وهو أن الذي لا يخشى الله لا يرعوي من شيء، ويجرأ على كل شيء، ويفعل كل قبيح؛ لأنه لا يخاف من الله ، ولا يتقيه، وهذا الأسلوب (إنما يخشى الله) أسلوب الحصر، وذكر الخشية لأن الخشية هي خوف مع علم في المخوف منه، يعني الخوف المطلق يقال له: خوف، فإذا كان مع علم بالمخوف منه قيل له: خشية، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] يعني: الذين يخشونه الخشية الحقة، والخشية اللائقة، ومن عداهم فلهم من الخشية بحسب حالهم، وما يليق بأمثالهم، وهذا يكفي في بيان شرف العلم، وحث النفوس على تطلبه وتحصيله، وأن الإنسان لا يتوانى في هذا.

ثم ذكر بعد ذلك الأحاديث، وأترك ذلك إلى ليلة آتية، إن شاء الله تعالى.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3599) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به برقم (251) وصححه الألباني.
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (41).

مواد ذات صلة